موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال لقائه الرمضاني برؤساء السطات الثلاث وكبار المسؤولين وكوادر النظام الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحیم(1)

والحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیدنا ونبینا أبي القاسم المصطفی محمد، وعلی آله الطیبین الطاهرین المعصومین، سیما بقیة الله في الأرضین.

قدمتم خير مقدم أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات والمسؤولون الكرام.

تعتبر هذه الجلسة من الجلسات المباركة بالنسبة لنا على مدار السنة. إذ يحضر فيها المسؤولون الكرام من شتى القطاعات ويستمعون إلى تقارير جيدة، كما قدّم السيد رئيس الجمهورية تقريراً جيّداً في هذا اليوم. ومن المتداول أن يقدّم رؤساء الجمهورية في هذه الجلسة تقارير عن أنشطتهم الإيجابية كلٌّ بطريقة معينة، فتتعرف الأذهان والأفكار على المعلومات والأخبار وتستمع إلى الحقائق، فهي جلسة مباركة من هذه الناحية والحمد لله.

ولكن أودّ في مستهلّ حديثي أن أتحدث حول شهر رمضان المبارك، فقد قضينا ما يربو على النصف من هذه الفرصة الذهبية وبقي أقل من نصفها الآخر. فعلى الإخوة الأحباء والأخوات العزيزات والمسؤولين الكرام ولاسيما نحن أن نغتنم هذه الفرصة أيما اغتنام، فإنها فرصة الإنابة، وفرصة الرجوع إلى الله تعالى، وفرصة إنارة القلب وإنعاشه، وفرصة التضرع، فلنتضرّع لله سبحانه وتعالى. إذ لا شك أنّ كل واحد منكم يعاني في القطاع الذي يعمل فيه من مشاكل ونقائص، ويحتاج إلى عناصر وعوامل، فاطلبوها من الله. ومما لا شك فيه أن دعاءكم وتضرّعكم أمرٌ لابد منه إلى جانب جهدكم وسعيكم. فلا ينبغي لنا نسيان هذا الابتهال والتضرّع.

لقد ورد في عدة أدعية ومنها في دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف: «وَلا يُنْجِي مِنْكَ إِلاّ التَّضَرُّعُ إِلَيْكَ»(2)، فكيف يكون التضرّع وسيلة للنجاة؟ وأحياناً ما يتضرّع الإنسان الضعيف إلى إنسان آخر، فما هو الفارق بينهما؟ وما هو الفرق بين التضرّع إلى الله والتضرّع إلى عباد الله؟ إن من المهم أن نلتفت إلى هذه النقطة، وهي أنّ الغاية من التضرّع إلى عباد الله أن تستعطف من تتضرّع إليه ليلين قبله، والغاية من التضرّع إلى الله أن تلين قلوبنا وتنجو من القساوة، وبهذا يصبح التضرّع وسيلة للنجاة. فلو لان القلب وتخلّص من القساوة، سيدخل النور إليه. ونور القلب هذا هو الذي يفتح الطرق أمام الإنسان، ويبثّ فيه الأمل، ويدفعه نحو السعي والحركة، ويهديه إلى السبل الصحيحة والصائبة. فالتقوى هي التي تستنزل هداية الله على الإنسان، وهي ناجمة من لين القلب ولطافته ونوره، وهذا هو الأساس.

(يقول سبحانه) في سورة الزمر المباركة: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(3)، فالقلب المتصلّب القاسي، نتيجته هي الضلال المبين كما في الآية. ويقول في سورة المائدة المباركة حول بني إسرائيل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾(4)، حيث تجسّدت لعنة الله في قساوة قلوبهم الناتجة عن عملهم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، إذ نسوا ونقضوا ما عاهدوا الله عليه. هذه أمورٌ لابد وأن تحظى بالاهتمام في مجتمعنا المؤمن، ولاسيما نحن المسؤولون الذين يحمل كل واحد منا عبءاً على عاتقه في قطاع من القطاعات. ويقول في سورة البقرة المباركة بشأن بني إسرائيل أيضاً: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾(5). لقد غدت قلوبكم أشدّ قسوة من الحجارة.. هذا ما بيّنه النبي الأكرم عن قول ربّه وهو يجادل ويحاجج يهود المدينة ويذكّرهم بماضيهم. وهذه كلها بالنسبة لنا وسيلة نستقي منها الدرس والوعي والعبرة والموعظة، وعلينا أن نبذل جهودنا في هذا المضمار. ففي حديثٍ في الكافي الشريف: «وَالْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ»(6). وأسوء آفة للإنسان هي البعد عن الله، وفي قساوة القلب هذه الخصوصية أنها تُبعد الإنسان. وفي حديثٍ آخر: «مَا ضُرِبَ‌ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسَوَةِ القَلْبِ»(7).

فلابد من اغتنام هذه الأيام. ذلك أن شهر رمضان المبارك فرصة جيدة، بسبب الأدعية الواردة في هذا الشهر - سواء ما يختص منها بالأسحار أو ما يتعلق منها بالليالي والأيام - فإن هذه الأدعية بمضامينها تُلين قلوبنا، وبسبب نفس الصيام والتوجه إلى هذا الواجب كذلك، وهذا ما نحن بحاجة إليه. فلو غفل مجتمعنا الإسلامي الثوري عن ذكر الله والخشوع له والتضرّع إليه، سيتلقى ضربة وصفعة بكل تأكيد وسيفشل لا محالة. إذ لا يتأتى لنا بلوغ تلك الأهداف العليا والغايات المنشودة إلا إذا بذلنا جهوداً إيمانية صادقة، ولا يتيسر ذلك إلا بالتوجه إلى الله تعالى وازدياد نور القلب وارتباطه بالله جلّ جلاله.. هذا هو حديثنا فيما يخص اغتنام فرصة شهر رمضان، وهو باعتقادي أهم من كل ما سنتعرضّ إليه. وأساس كلامنا هو ضرورة أن نراقب أنفسنا. علماً بأني أول المخاطَبين لهذه الكلمات، لأن مسؤوليتي أكبر من مسؤوليتكم والعبء الذي أحمله على كاهلي أثقل من أعبائكم، ولذلك فإني أحوج إلى هذه الأقوال. ولابد لي ولكم أن نتوجه ونغتنم هذا الشهر وننتهز هذه الفرصة، وليالي القدر أيضاً قُدّامنا.

تشكّل هذه الجلسة فرصة لتناول بعض القضايا الكلية والعامة والمهمة في البلد، بغية أن تُطرح وتُبحث جملة من المسائل التي قد تكون محلاً للحوار والنقاش واختلافٍ في الآراء، وأن يتم التذكير ببعض الأمور التي قد تتعرض لغفلتنا، ومن هنا فهي جلسة مفيدة، حيث حضور المسؤولين والمنظّرين.

لحسن الحظ فقد شهد عامنا هذا ظاهرة الانتخابات، وكانت عملاً جبّاراً، وقد أثبتت بعظمتها قوة الثورة واقتدار النظام الإسلامي، وهذا ما لا ينبغي لنا التغافل عنه. ولكن في الإعلام العالمي، وفي التصريحات التي تُطلقها الإذاعات ووسائل الإعلام العالمية بشأن انتخاباتنا - وهذا ما تشاهدونه بأنهم دوماً ما يتحدثون عنها - لا يشيرون إلى هذه النقطة أبداً، ولا يتطرقون إلى أن الانتخابات مؤشر على قوة النظام وقدرته وعمق نفوذه في القلوب.. هذا ما لا يتحدثون بشأنه في الأعم الأغلب بيد أنها حقيقة قائمة. فإن الناس الذين حضروا في جمعة الانتخابات عند صناديق الاقتراع، لصالح أي واحد صوّتوا، فقد قاموا جميعاً بعمل مشترك في غاية القيمة والأهمية.. عمل مشترك يجب رؤيته وإراءته للعالم؛ ألا وهو التعبير عن الثقة بالنظام الإسلامي. نعم، أدلى البعض بصوته لزيد وآخر لعمرو وثالث لبكر ورابع لخالد، إلا أنهم جميعاً بادروا إلى أمر مشترك، وهو أنهم وثقوا بالصندوق الذي وضعه نظام الجمهورية الإسلامية وبهذه الحركة العظيمة التي تقرّرت في دستور الجمهورية الإسلامية، ونزلوا إلى الساحة لانتخاب المدير التنفيذي في البلد، وهذا أمر بالغ الأهمية.

فلا نعمل على هدم هذا العمل المشترك، ولا نستخرج من بين طياته أقوالاً وملاحظات تتسبب في هدم وإهدار أساس هذا الحراك المشترك الذي كان في غاية الأهمية. ولا ينبغي لنا تقسيم الشعب الإيراني قائلين: «أدلى البعض بصوت نعم لهذا الموضوع».. كلا، بل جاء الناس لتعيين الأشخاص ليس إلا.. لماذا نعمد إلى تقسيم الناس؟ فلنتوخّ الحيطة والحذر لئلا تخرج هذه التقسيمات وهذه السجالات من قلب عمل مشترك عظيم أنجزه الشعب الإيراني. فشعب إيران برمته يناهض أعداءه والمناوئين لحركته التقدمية. نعم، قد يكون هناك بعض الخونة، وهذا ما هو موجود في جميع البلدان وفي كل الشعوب وفي كافة الأزمنة، بيد أن قاطبة الشعب الإيراني يعادي ويناوئ العدوّ الذي فرض عليه الشدائد والعقوبات والحرب وانعدام الأمن.. هذا هو حال الشعب بأسره.

واليوم أيضاً تشاهدون الأمريكيين بعد الانتخابات وبكل وقاحة، عمدوا إلى إضافة العقوبات، وأخذوا يقرعون كذلك طبول المناوءة والمواجهة والعناد وأمثالها أكثر من أي وقت مضى.. هذه هي حقيقتهم. ففي ضوء هذا العداء، وبالنظر إلى الظروف والمتطلبات والأهداف العليا الماثلة أمامنا، لابد من إيجاد أجواء جديدة. والكل سهيم وشريك في إيجاد هذه الأجواء، وهي أجواء التعاون والعمل والجهد للوصول إلى هدف مشترك وهو عبارة عن تقدم البلد ورقيّ نظام الجمهورية الإسلامية. فلابد أن يتسنى لنا الاقتراب من مقاصد نظام الجمهورية الإسلامية المقدس خطوة تلو خطوة. وهي مقاصد كانت منذ البداية في شعارات الجمهورية الإسلامية ومازالت قائمة حتى يومنا هذا، والاقتراب منها واجب في أعناقنا. وهذا هدفٌ يستدعي مساعي الجميع. فلو بذلنا الجهود جميعاً ولو رصصنا صفوفنا، سيكون بوسعنا الوقوف والاستقامة وتركيع الأعداء، وهذه هي توصيتنا المستمرة. واليوم أيضاً أعيد التوصية ثانية، فعلى الجميع أن يمدّوا يد العون للمسؤولين في البلد وأن يتعاونوا معهم ليتمكنوا من النهوض بمهامهم، وعلى المسؤولين أيضاً مراعاة الناس بكل ما في الكلمة من معنى، وعلى المسؤولين في مختلف القطاعات أن يتعاملوا فيما بينهم أيضاً. وإني قد دأبتُ دوماً على دعم جميع الحكومات التي تتولى الأمور، واليوم أيضاً كذلك، وسأواصل هذا النهج إن شاء الله ما دمت على قيد الحياة.

وفي نظرة عامة إلى قضايا البلد، لو أردتم أنتم المسؤولون الكبار ومدراء القطاعات المختلفة، إدارة البلاد بشكل صحيح، وإدارة الفرص والتهديدات حقاً - لأن هناك فرص وتهديدات كذلك، وتحتاج إلى إدارة صائبة - ولو ابتغيتم استثمار الأرصدة الوطنية، وتفعيل وتوظيف طاقات البلد التي مازال الكثير منها مجهولاً، والتمييز بين الطريق المستقيم والمنحرف - إذ قد يرى الناس أو المسؤولون أو الحكومات أو المرافق المختلفة أمامهم طرقاً منحرفة لا تؤدي إلى المنزل المنشود - ولو أردنا النهوض بهذه الإنجازات الكبرى، نحتاج أولاً إلى تحديد الملاكات لاتخاذ قراراتنا واختيارها بشكل صحيح، وثانياً إلى الاستفادة من تجاربنا.. هذا هو حديثي في هذا اليوم. يجب أن يكون بمقدورنا تحديد الملاكات لاتخاذ القرار بشكل صائب، إذ غالباً ما توجد في هذا الموطن مزالق على مرّ الأزمنة المختلفة، ولا يختص الأمر بالوقت الراهن، وهذا ما سأشير إليه لاحقاً.

ولكن ما هو الملاك لاتخاذ القرار؟ المسألة العامة التي تُطرح هنا هي المصالح الوطنية، بمعنى أن ملاك الحكومات لاتخاذ القرار هو تأمين المصالح الوطنية، سواء المصالح القصيرة المدى أو البعيدة المدى. والقضية تكمن في كيفية معرفة المصالح الوطنية وتشخصيها، وما هي الأمور التي نعتبرها من المصالح الوطنية حقاً والتي لا نعتبرها. النقطة الأساسية التي تراود ذهني وأودّ ذكرها، هي أن هذه المصالح لا تدخل في عداد المصالح الوطنية إلا إذا كانت لا تتعارض مع الهوية الوطنية والثورية للشعب الإيراني، ولا تتناقض حقاً مع هوية الشعب. وإلّا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أمراً كمصلحة وطنية، ولكنه يسحق الهوية الوطنية، فقد أخطأنا قطعاً، وهو لا يمت إلى المصلحة الوطنية بصلة. ومما يؤسف له فقد كان سحق الهوية الوطنية هو المصير الدائم لبلدنا منذ الحركة الدستورية وإلى ما قبل الثورة. علماً بأن هذه الحالة بدأت قبل الفترة البهلوية وفي أواخر العهد القاجاري. فإن الهوية الوطنية دوماً ما كانت مسحوقة تحت أقدام ما كان يبدو للمدراء ومتخذي القرار وصُنّاعه بصفته من مصالح الشعب الإيراني ويطبّقونه، وهذا يعني عكس العلاقة وقلبها. فالمصالح الوطنية لابد وأن تتطابق مع الهوية الوطنية، لا أن تكون الهوية الوطنية تابعة للمصالح الوطنية، وحينئذ لا مراء في أنها ستكون مصالح وهمية. وأما أن ينهض رجل ويقول: «علينا أن نغترب من مفرق رؤوسنا وإلى أخمص أقدمنا ليتأتى لنا الرقي والتقدم»، فهذا سحق للهوية الوطنية. وهذا يعني أن يخاطبوا شعباً يتسم بسابقة تأريخية وثقافة غنية قوية ومعتقدات جمة وأرصدة معنوية متنوعة كثيرة، قائلين: «تخلّوا عن كل ما تمتلكونه وانبذوه وتغرّبوا من مفرق رؤوسكم إلى أخمص أقدامكم لتتمكّنوا من التقدم». ومعنى ذلك أنهم كانوا يصوّرون ويرسمون للشعب مصالح، تستلزم التنصّل عن المصالح الوطنية، وهذا يعني سلب الشعب هويته وكيانه، والذي بلغ ذروته في العهد البهلوي، ولكنه بدأ من أواخر العهد القاجاري كما ذكرت. فجاءت الثورة وغيّرت هذه الرؤية.

إنّ من الإنجازات الكبرى للثورة الإسلامية هي أنها منحت هوية للشعب وشدّدت عليه، واستخرجت المصالح الوطنية على أساسها واستنبطتها ورسمتها وصادقت عليها وتابعتها. وإلا ففي إطار النمط الماضي لم نكن لنصل إلى المصالح الوطنية حقاً، ولكم أن تشاهدوا بلدنا رغم كل ما كان يتمتع به من أرصدة وإمكانيات، وبسبب فقدان نفس هذه الهوية، لم يحقّق منذ الحركة الدستورية وإلى ما قبل (انتصار) الثورة أيّ تقدّم يليق بشأنه ويتناسب وذلك السيل الذي كان جارفاً في العالم. فالعالم المتطور الفاعل الحيوي، كان يمضي قُدماً من الناحية العلمية والتقنية وفي مختلف شؤون الحياة بطريقة أخرى، على خلاف بلدنا الذي كان يسوده التوقف والركود، ولكن بعد (انتصار) الثورة وحتى يومنا هذا، أدى التغيير في هذه الرؤية إلى تغيّر الأوضاع. حيث نشعر بعد الثورة أننا في تطوّر وتقدّم، علماً بأن حالات التخلّف كثيرة، ولكن التقدم ملموس.

في حديثي بداية العام عرضت بالإجمال لربما قائمة من إنجازات البلد في شتى المجالات - بما فيها البنى التحتية والطاقات الإنسانية وغيرها - لأن البعض لم يعد مستعداً للإقرار والاعتراف بها، حتى أنّ بعض المسؤولين يغفلون عن معطيات الثورة ومكاسبها. فإن البلد رغم كل ما واجهه من قضايا، ورغم كل المشاكل، ورغم فرض الحرب والحظر، ورغم العداء السافر والبيّن للقوى العالمية المهينة، استطاع أن يحقق هذه المكاسب، وما هذا إلا لشعور البلد بالهوية. فقد أدرك الشعب الإيراني هويته وعرفها وشعر بالوجود، وتحرّك بكل قوة واقتدار. فالشعور بالهوية يولّد في المرء مثل هذه الحالة، ويبعث فيه روح الثقة بالذات.

لقد تحدثنا عن «هوية الشعب الإيراني»، فما هي هذه الهوية؟ وكيف يتم تعريف هويتنا الوطنية؟ نحن شعب مسلم ثوري له أصوله في التأريخ.. هذه هي هويتنا. فإن إسلاميتنا وعمقنا التأريخي وثوريتنا، هي عناصر ثلاثة تشكل هوية شعبنا، ولا ينبغي التغاضي عنها.

إسلاميتنا يعني أن قيم الإسلام ومبادئه هي التي تشكل هويتنا. وأصالتنا في التأريخ يعني أن طاقاتنا الإنسانية كانت على مدى التأريخ تتمتع بأفكار عالية وفي شتى المجالات بما فيها الفلسفة والعلم والتقنية، وقامت على مرّ التأريخ بحسب الموقع الزمني بإنجازات كبرى ودفعت بالبشرية إلى الأمام، وهذا ما ينبغي لكم الالتفات إليه. وأما أن نتصوّر بأن «التقنية الحديثة والإبداع يختصان بالغرب وأوروبا منذ اليوم الأول»، فهذا خطأ. حيث أحرزنا في بعض الفترات قصب السبق في الجانب التقني المتناسب مع ذلك اليوم. علماً بأن العلم والتقنية بطبيعة الحال كلما تقدما إلى الأمام كلما ازدادت سرعتهما، ولطالما ضربنا في ذلك مثالاً ولا نروم التكرار. فالتقدم كلما واصل طريقه كلما تضاعفت سرعته، وهذا هو السبب في ازدياد المسافة دائماً بين البلدان المتقدمة علمياً والبلدان المتخلفة، لأن التقدم العلمي يزيد السرعة. فقد كنا في ذلك اليوم من رادة الأمور التقنية بما يتناسب وذلك العصر، وهذا لم يكن يختص ببلدنا إيران، بل كانت هذه هي الحالة السائدة في الكثير من البلدان الشرقية، ومنهم نحن الإيرانيون. إذن إسلاميتنا وأصالتنا في التأريخ، ثم ثوريتنا وهي تشكّل جانباً هاماً من هويتنا.

الثورة تعني تلك الحركة التغييرية العميقة التي استطاعت بالاتكاء على الإسلام تغيير أوضاع البلاد، ومن أهم حالات التغيير هي أنها أخرجت الشعب من الهامش وأدخلته في صلب إدارة البلد. ذلك أن الشعب الإيراني لم يكن له في البلد حول ولا قوة، وكان طوال قرون مديدة على هامش الحكومات ولم يكن له دورٌ في إيجادها. نعم، عندما تشتعل نيران الحروب، كان يأخذ السلطان جماعة من أبناء الشعب ويزوّدهم بالسلاح ويُرسلهم إلى ساحة المعركة.. هذا كان دور الشعب. وأما أن يكون له دورٌ في تحديد سياسية أو انتخاب مسؤول - فضلاً عن المسؤولين من الطراز الأول في البلد - فهذا ما لم يكن له أثر. والشعب كان يجلس مترقّباً لتزول هذه السلالة وتأتي تلك السلالة التي تليها للقبض بزمام الحكم، وكما كانت السابقة تحكم، فلتأت اللاحقة لتحكم أيضاً، وكما كانت السابقة تفرض رأيها بالقوة، فلتأتِ اللاحقة لتفرق رأيها بالقوة كذلك! والشعب الإيراني لم يكن له دور في هذا المسار. فعلى مدى تأريخنا - منذ عدة قرون ومنذ العصور القديمة فصاعداً - مارس الشعب الإيراني دوره ولأول مرة بعد (انتصار) الثورة ودخل من الهامش إلى المتن وصار يقرر مصيره بنفسه. وكما هو واضح فانتخاب الشعب هو الذي يضع المسؤولية على عاتق الأفراد بدءاً من أعلى مسؤول في البلد وهو القائد وإلى رئيس الجمهورية وإلى سائر المسؤولين، وبذلك فهم مسؤولون أمام الشعب.. هذه هي واحدة من أهم الأحداث والتغييرات والتطورات التي قامت بها الثورة.

ومن هنا فقد تغيّرت بعد الثورة المصالح الوطنية، أي تغيّرت الموازين لتحديد المصالح الوطنية. إذ بعد انتصار الثورة وكما ذكرت، تبدّلت الدكتاتوريات إلى السيادة الشعبية، والتبعية إلى الاستقلال السياسي، وحالات التخلّف إلى حالات تقدّم ملحوظة، في البنى التحتية وفي الطاقات الإنسانية وفي الصناعات الهامة كالنانو وتكنولوجيا الأحياء والصناعات الكبرى حيث أصبحنا نبتوّأ فيها الدرجات العليا في العالم وبين مئتين ونيف من البلدان، وكذلك في العلم وفي التعليم العالي وغيرها. إذن فهذه أحداث صنعتها هويتنا الثورية.

والنتيجة: كل ما كان يتعارض مع هذه الهوية لا يدخل في عداد المصالح الوطنية، حتى ولو تصوّرنا أن هذا يدرّ بالربح والنفع على شعبنا.. كلا، كل ما كان معارضاً لإسلامنا وثورتنا وماضينا وسابقتنا التأريخية العريقة لا يعدّ من المصالح الوطنية.

ولكن لا يُحمَل هذا الكلام على غير محمله، فهو لا يعني أن نحرم أنفسنا من حالات التطور العلمية والبشرية المختلفة في العالم.. كلا، وقد صار من الدارج في هذه الأيام أنه ما إن تصدر كلمة من أفواه المسؤولين حتى تخضع للتفسير والتأويل في الإذاعات البريطانية والمواقع الخبرية بما يجاري رغبتهم على نطاق واسع.. فلا يفسّروا هذا الكلام بقولنا: نحن، وبسبب ثورتنا وإسلامنا وسابقتنا التأريخية، نغلق على أنفسنا أبواب الاستفادة من حالات التقدم البشرية! كلا، فالتطورات البشرية ملك الجميع، ولا تعود لشخص معين، ومن حق البشرية بأسرها أن تستفيد منها. فمن كان أكثر عقلاً وفطنة ومعرفة، يستفيد أكثر، ورغبتنا أن نكون أكثر عقلاً ومعرفة، وسنستفيد أكثر إن شاء الله. هذا الكلام يعني أن مصالحنا الوطنية لا ينبغي أن تخضع لإملاءات السياسات الأجنبية. بل علينا أن نعرّف هذه المصالح بأنفسنا وألّا نقبل بالفرض والإملاء.

علماً بأنّ القوى الاستكبارية لا تجلس مكتوفة الأيدي، بل تستخدم مختلف الأساليب لفرض مطاليبها. حيث تحدّد بعض العناوين كأعراف دولية. فأمريكا على سبيل المثال قد حدّدت اليوم عرفاً دولياً وهو أنّ «المصالح الأمريكية يجب مراعاتها في جميع نقاط العالم»، فأصبح هذا عرفاً دولياً. ولو أن بلدة في منطقة نائية من العالم - تبعد عن أمريكا آلاف الكيلومترات أو الفراسخ - تضاربت مصالحها مع المصالح الأمريكية وأرادت تحقيق مصالحها، قالوا بأنها عملت على خلاف الأعراف الدولية. ففي البدء يحددون شيئاً كعرف، ثم على أساسه يتهمون الشعوب والبلدن والحكومات بأنها تسير خارج إطار الأعراف، إذا ما عارضت هذا العرف المحدد! وهذا عمل باطل يمارسونه في الوقت الراهن.

ففي الآونة الأخيرة على سبيل المثال راح الأمريكيون يوجهون إلينا تهمة «زعزعة استقرار المنطقة»! فأصبح هذا عنوان بحد ذاته. أولا ما شأنكم بهذه المنطقة؟ وثانيا أنتم من يزعزع استقرار هذه المنطقة. فإن أمريكا وعمال أمريكا هم الذين يقفون وراء زعزعة استقرار هذه المنطقة، في شمال أفريقيا بطريقة وفي غرب آسيا بطريقة وفي سوريا بطريقة وفي العراق بطريقة أخرى. فإن بذل الأموال لتأسيس التيار الإرهابي الفلاني وتزويده بالسلاح وبالخطط العسكرية ودعمه ومعالجة جرحاه بالمستشفيات، يعني زعزعة استقرار المنطقة.

من الذي أسس داعش؟ من الذي عمل على تقويته؟ وما يتبجّحون به اليوم من أنهم شكّلوا تحالفا ضد داعش، ليس إلا كذب وافتراء. نعم، إنهم يعارضون طغيان داعش وخروجه عن السيطرة، ولكنهم يريدون داعش الخاضع تحت سيطرتهم والقابع في قبضتهم، ومن يروم القضاء على هذه الظاهرة وإزالتها، يقفون أمامه بكل جدّ. ولكم أن تنظروا اليوم إلى الطائرات الأمريكية كيف تقصف القوات العسكرية السورية التي تواجه داعش أو أشباه داعش، وهذا بعينه ما يحدث في العراق أيضاً، حيث راحت داعش تبيع نفط العراق. فقد زارنا أحد المسؤولين الحكوميين - وهي شخصية دولية معروفة - وقال لي بأن عملية سرقة داعش للبترول من المصادر العراقية عبر الشاحنات وبيعه للدولة الفلانية، كانت تُنفّذ على مرأى من الأمريكيين، ولكنهم لم يصدّوهم عن ذلك أبداً ولم يقصوفهم حتى بقنبلة واحدة! كانوا يرتكبون هذا العمل أمام أعينهم وفي الوقت ذاته يدعون أنهم يعارضون داعش، والحال أنهم لو كانوا يعارضونهم لوقفوا أمام هذا العمل الداعم لهم، ولكنهم لم يقفوا أمامهم بل قدّموا لهم المساعدات! فإنهم بالتالي هم الذين عملوا على زعزعة استقرار هذه المنطقة، لا إيران كما يقولون.

والكلام الأخير للرئيس الأمريكي الحالي(8) أيضاً من هذا النمط، حيث وجّه إلى إيران، بمناسبة الأحداث الإرهابية الأخيرة، تهمة «دعم الإرهاب»، بيد أنّ جذور الإرهاب في هذه المنطقة أمريكية. وكذا الحال بالنسبة إلى «حقوق الإنسان»، حيث راح الأمريكيون يطرحونها ثانية، وهي حقاً تبعث على السخرية والذهول! فإنهم يجتمعون مع زعماء نظام قَبَليّ من القرون الوسطى وهو المملكة السعودية - وهذه فضيحة حقاً وباعتقادي وصمة عار لا تنمحي عن الأمريكيين وستبقى منقوشة على جبينهم إلى الأبد - ويتحدثون عن حقوق الإنسان، وذلك ضدّ بلدٍ كالجمهورية الإسلامية! يجلسون في بلدٍ لم يشم من رائحة الديمقراطية والانتخابات وأمثال ذلك شيئاً، وينالون من بلدٍ كإيران ويتهمونه وفيه قد تجسّدت السيادة الشعبية وهو مهدها ومركزها! هذه أمورٌ لا تمحى، فإنها قد لا تبدو إلى العيان في المرحلة الراهنة وفي خضم الضجيج السياسي المتنوع، ولكنها ستبقى خالدة في التأريخ لا محالة.

إذن فحديثنا الرئيس حول صنع القرارات واتخاذها هو أن المصالح الوطنية هي الملاك والميزان في صحة اتخاذ القرارات. والمصلحة الوطنية هي التي لا تنطوي على أي تعارض مع هوية الشعب الإيراني بل ولا تكون بمعزل عنها أيضاً، وإنما تكون منبثقة من هذه الهوية.. هذه هي مصلحة الشعب الإيراني. فعلى المسؤولين والحكومة المحترمة والسلطة القضائية والسلطة التشريعية والذين يتخذون القرارات العامة للبلد أن يأخذوا هذا الأمر بنظر الاعتبار، وهو أن كل ما فيه شائبة تدل على أنه مناهض للإسلام أو أجنبي عنه، ومناهض للثورة أو أجنبي عنها، ومناهض للأصول التأريخية للشعب الإيراني أو أجنبي عنها، أو أي شيء من هذا القبيل، لا يدخل في عداد المصالح الوطنية ولا يمكن أن يخضع للقرار.

وأما التجارب.. قلنا بضرورة أن نستفيد من التجارب، وقد أحصيتُ هنا عدة قضايا. الأولى هي تأثير الانسجام والاتحاد الوطني على النجاح، وهذا أمر فائق الأهمية. وقد جاء في حديث السيد رئيس الجمهورية أيضاً، وأنا أوافق على ضرورة صيانة التلاحم الوطني وتوحيد الصفوف والنظر دوماً إلى القواسم المشتركة. وهذا لا يتنافى مع أن يبدي معترض اعتراضه في قطاع معين إذا كان لديه اعتراضه على السياسة الفلانية أو البرنامج الفلاني. ولكن لا ينبغي أن يكون معنى هذا ظهور صراعات وسجالات في قضايا البلد العامة والأساسية.

ولقد جرّبنا هذا التعاضد والتكاتف وتأثيره على مدى ما يقرب من أربعين عاماً. ففي زمن الحرب أيضاً كانت هناك جماعة معارضة. في تلك الأوقات التي كنا فيها نخوض غمار الحرب المفروضة، كان البعض يقف في شوارع طهران وعلى مفترق طرقها - والمتفرض أن أغلبكم يتذكر هذه الظاهرة - ويوزع البيانات ضدّ الحرب. فقد تكون ثمة معارضات، بيد أن قاطبة الشعب وغالبيته كانت كلمتهم واحدة، وقد ثبتوا على هذه الكلمة. هذا هو الشيء الذي نرنو إليه ويتمثل في الانسجام والاتحاد الوطني. فلا ينبغي إيجاد قطبية ثنائية في البلد، ولا يجوز تقسيم الناس إلى فئتين، كما حدث في عام 1980 على يد رئيس الجمهورية آنذاك، حيث قسّم الناس إلى مجموعتين موافقة ومعارضة، وهو أمر خطير.

ثمة نقطة أخرى في باب الانسجام والاتحاد الوطني، لابد وأن أطرحها عليكم، وهي أن الاتحاد هذا لا يتبلور ولا يتجسّد إلا في حالة تعيين حدود فاصلة جليّة مع العدو. فإن من الأمور التي تزلزل هذا الاتحاد الشعبي وتثير الشبهات وتبثّ الخلافات أو تُظهرها إن كانت موجودة، هو عدم وضع حدود فاصلة مع العدو، وهذا ما ينبغي توخّي الحذر فيه. فالعدوّ لا يقبع في خارج البلد وحسب، بل قد يتسلّل إلى الداخل أيضاً. كما شاهدتم في عام 2009، حيث ظهرت في بعض شوارع طهران جماعات - لم تكن كثيرة العدد بالطبع بل كانت قليلة - أطلقت شعارات صريحة ضدّ النظام. بيد أن المشكلة الرئيسية التي ظهرت، هي عدم تعيين حدود فاصلة من قبل البعض معهم، حيث كان عليهم إعلان ذلك ولم يعلنوا، ومن هنا ظهرت المشاكل التالية. فإنكم حين ترون أنّ البعض يقرعون طبول المناوءة والعرقلة والأذى تجاه أساس نظامكم وأساس ثورتكم وأساس معتقداتكم ودينكم، يجب عليكم تعيين حدود فاصلة معهم والإعلان عن ذلك، وهذا أمر ضروري. سيما نحن المسؤولون الذين يجب علينا بذل قصارى جهودنا الدؤوبة في هذا المجال. فإن حدث هذا، سيتحقق عندذاك الاتحاد والانسجام الوطني ويكتسب معناه.

النقطة الثانية التي تدخل في عداد التجارب: منح الأولوية للطاقات الداخلية. وهذا هو الأمر الذي أعلنّاه في هذا العام تحت شعار: الإنتاج الوطني وفرص العمل.. الإنتاج الوطني يشكّل أحد الأقسام المرتبطة بالطاقات الداخلية، علماً بأن المقصود هنا هو الإنتاج الصناعي والزراعي، أما الإنتاج البرمجي وإنتاج العلم والفكر فهي الأخرى تدخل في عداد الإنتاج المحلي بالتأكيد وتتسم بالأهمية، ولكن الحديث بما أنه كان يدور حول الجانب الاقتصادي، فالمراد هو الإنتاج الصناعي والزراعي وما شاكلهما. ففي الإنتاج الوطني والمحلي لابد وأن تؤخذ الطاقات الذاتية بنظر الاعتبار. وباعتقادي فإن الطاقات الإنسانية الشابة لدينا طاقات جيدة جداً.

قبل بضعة أيام اجتمع جمعٌ من الطلبة الجامعيين الشباب في هذه الحسينية(9)، وتحدث عدد منهم. فقلت لبعض المسؤولين المحترمين إن مستوى فهم هؤلا وإدراكهم وانطباعهم وتلقيهم تجاه قضايا البلد، يعتبر حقاً رفيع ومتقدم للغاية، ولابد من استثمارهم والاستفادة منهم، فإنهم يشكّلون طاقاتنا الإنسانية المتقدمة، وبمقدورهم أن يمارسوا دوراً في تقدم البلد وطفرته إلى الأمام. ولقد استفدنا كثيراً من هذه الطاقات الداخلية في المسائل العلمية. ففي شأن الطاقة النووية، أقيم قبل عدة أعوام معرض في هذه الحسينية لتقديم تقرير لنا في هذا الشأن(10)، وكان يحتوي على أجنجة مختلفة قمت بزيارتها، وكان قد وقف في جميع هذه الأجنحة تقريباً شبابٌ يافعون، وكان يتم تعريفهم من قبل المسؤولين المحترمين. فهؤلاء هم الذين سيّروا عجلة الطاقة النووية بمختلف أقسامها واستطاعوا أن ينهضوا بهذه الإنجازات الكبرى وأن يتقدموا بهذه الصناعة إلى الأمام، وهذا يقف على جانب عظيم من الأهمية. فشبابنا يتمتعون بمثل هذه القدرات.. هذه قضية.

والموضوع الآخر الذي يدخل أيضاً ضمن تجاربنا الأساسية، ويجب عليكم أن تتنبّهوا إليه في إدارة البلد - في أي قطاع كنتم - هو عدم الوثوق بالعدو ووعوده، وهذه كلمة وقضية جادة. ففي بعض المواطن وثقنا بالعدو وتلقّينا ضربة، في حين كان بوسعنا عدم الوثوق، بل ولم نكن نتصوّر أننا سنثق به ولكن وثقنا. فالوثوق بالعدو وبوعوده يسدّد لنا ضربة. وأما أن نستبعد قائلين: «من المستبعد أن يقولوا ولا يفعلوا» فهذا كلام خاطئ. فإن العمل مع الأجانب يستلزم التأكيد على التفاصيل والجزئيات بدقة تامة وتوخي الحيطة والوسواس والحذر. فلا ينبغي الوثوق بهؤلاء لا في مقام العمل ولا في طريقة البيان. وأقولها أيضاً بأن بعض السادة الكرام الحاضرين في هذا المجلس - ماعدا المسؤولين من الطراز الأول كرؤساء السلطات الثلاث وأمثالهم - هم من أهل الخطابة والمنبر، وبإمكانهم أن يتكلموا وتُسمَع كلمتهم، فلا ينبغي أن يستشعر المرء الوثوق بالعدو من لحن قولهم، لأن هذا سيترك تأثيراً سلبياً على الأذهان في الداخل، ويترك تأثيراً على أصدائها بين مناوئينا وأعدائنا في الخارج أيضاً. وهذا ما حدث أحياناً بأننا تراجعنا في قضية معينة من أجل «سحب البساط من تحت قدمي أمريكا أو العدو»، ولكن لا أنه لم يُسحب، بل فقدنا شيئاً أيضاً! فلا يجب الوثوق بالعدو في شتى القضايا.

إني لطالما ذكرتُ بأننا كنا ومازلنا نثق بالمسؤولين الذين تابعوا قضية الاتفاق النووي، حيث نعتبرهم من أبنائنا ومن الموالين والمؤمنين، ولكن في الاتفاق النووي هذا، وفي مواطن كثيرة، بسبب ثقتنا بالطرف والمفاوض الآخر، تغاضينا عن بعض الأمور ولم نولي اهتمامنا بها وبقيت ثغرة، وراح العدو إلى هذه اللحظة يستغل هذه الثغرة، وهذه حقاً من المسائل الهامة. وقد كتب وزير خارجيتنا المحترم الدكتور السيد ظريف، رسالة معبّرة للمسؤول الأوروبي - وهذا ما حدث مراراً بالطبع - طرح فيها مواطن انتهاك روح الاتفاق النووي وجسده. إذ أحياناً ما كانوا يعبرون بانتهاك روح الاتفاق النووي، ولكنه يقول ليس الروح وحسب، بل انتُهك في بعض المواطن على يد الأمريكيين نفس الاتفاق النووي، أي جسده، وكتب قائمة من موارد الانتهاك وأرسلها إليهم. فلا يقولنّ أحد بأن هذا من كلام المعارضين للمفاوضات.. كلا، بل وزير الخارجية المحترم بنفسه، وجّه اعتراضه على ذلك من منطلق تدينه وضميره الحي وشعوره بالمسؤولية. وهذا سببه يعود إلى تساهلنا في قضية هناك، ولولا هذا التساهل، ولولا الوثوق بالعدو، لأغلقت الأبواب أمامه ولما عاد بمقدوره فعل شيء. ولا نروم اليوم إثارة موضوع الاتفاق النووي، ولكن على المجموعة التي عُيّنت للإشراف على الاتفاق النووي - بما فيها رئيس الجمهورية المحترم، ورئيس المجلس المحترم، ووزير الخارجية المحترم، وآخرون - أن يُمعنوا النظر في هذه القضية، وأن يدقّقوا ويراقبوا مجريات الأحداث. فإننا ذكرنا بعض الموارد بالتالي، وإني أعددت لقبول الاتفاق النووي جملة من الشروط الصريحة وأبلغتها كتابة لا بصورة شفهية، وهي شروط لابد من مراعاتها بدقة. ففي الوقت الذي يأتي الطرف الآخر بكل وقاحة ويتقوّل بعض الأقاويل، نحن كلما تراجعنا في هذا المجال، سيُحمَل على محمل الضعف، وعلى أننا مضطرين ومرغمين على ذلك، والشعور بالاضطرار فينا يحث العدو ويحرضه على مضاعفة ضغوطه الباطلة تجاهنا.. هذه أيضاً قضية.

والقضية التالية التي تعدّ في عداد تجاربنا، والتي يجب عليكم أن تأخذوها بنظر الاعتبار في إدارة البلد وإدارة المنافع والمضار والفرص والتهديدات، هي قضية الاقتدار العسكري والأمني في البلد. وهي قضية في غاية الأهمية، ومن المسائل التي يجب أخذها بنظر الاعتبار بكل تأكيد. فإن بعض مسؤولينا يدخلون في زمرة المسؤولين العسكريين والأمنيين مباشرة، وتقع الواجبات والوظائف الضرورية على عاتقهم، وتتم في هذا القطاع إنجازات جيدة. بيد أن السواد الأعظم من المسؤولين في البلد لا صلة مباشرة لهم بالقضايا الأمنية والعسكرية، ولكن بوسعهم أن يتركوا أثراً بصورة غير مباشرة. فلابد لهم بالتأكيد أن يلتفتوا إلى هذه النقطة، وهي ضرورة صيانة عوامل اقتدار البلد حقاً، بما فيهم القوات المسلحة، والحرس الثوري، وقوات التعبئة، والعناصر المؤمنة والولائية. وأقولها لكم: إن الذي يصنع من صدره درعاً، ويقف أمام العدو في شتى الميادين، ويتحمّل الظروف الصعبة، هو العنصر المؤمن الثوري الولائي.. إنه هو الذي يقف صامداً، فلابد من حفظه وصيانته. وعلى المسؤولين في شتى الأقسام - سواء في الجامعة أو في القطاعات الصناعية أو في الحقول العلمية أو في المرافق الخدمية - مراعاة هذه العناصر.

من الواضح أن العدو يغتاظ من الحرس الثوري.. أفهل تريدون أن تكنّ أمريكا مودتها لقوات القدس؟ أم هل تتوقعون من أمريكا أن تحب مثلاً القيادي الفلاني الناشط في هذه المجالات؟ من الواضح أنها تستاء منهم! ومن المعلوم أنها تضع الشروط في الأقسام المختلفة! لأنها تريد أن تجرّدنا من عوامل الاقتدار. هذا بالضبط كأن يقال لكم: فريقكم المصارع يشارك في مسابقات البطولة العالمية، شريطة أن تحذفوا من المنتخب الوطني بعض المصارعين الأقوياء.. ما معنى هذا؟ معناه أنكم شاركوا للهزيمة والانكسار! نحن نسمح لكم بالمشاركة في المسابقات الدولية، ولكن تعالَوا من أجل أن يخسر فريقكم.. هذا هو معناه. فأن يقولوا بأن شرط هذا العمل هو ألّا يفعل الحرس الثوري كذا، أو ألّا تتدخل قوات التعبئة، أو ألّا يشاركوا ويتدخلوا في القضية الإقليمية الفلانية مثلاً، يعني عليكم ألّا تُنزلوا عوامل اقتداركم إلى الساحة، والواجب علينا أن نفعل عكس ذلك، وأن نزيد من اهتمامنا بالاقتدار العسكري والأمني ومن إتقانه وإحكامه بكل تأكيد.

والقضية التالية التي تعتبر هي الأخرى في غاية الأهمية، قضية الاقتصاد في البلد، ولقد أحطناها بأبحاث كثيرة، كما وفصّل السيد رئيس الجمهورية أيضاً في هذا الجانب وفيما ينبغي فعله. ولقد أشار إلى موارد متعددة قائلاً: «ينبغي القيام بهذا العمل، وينبغي أداء ذاك العمل»، ولكن من المخاطَب في هذا الكلام؟ إنه هو. فإن حالات ما ينبغي فعله في الأعم الأغلب لا يتيسر القيام بها إلا من قبل نفس السيد الدكتور روحاني وفريقه التنفيذي في الحكومة الثانية عشرة، إلا بعض ما قد يرتبط بالمجلس أو بالسلطة القضائية أو ببعض المؤسسات الأخرى، بيد أن معظمها بيد رجال الحكومة، فإنهم هم الذين يجب عليهم القيام بما ينبغي فعله.. هذه حقيقة. إذن فالقضية الاقتصادية قضية بالغة الأهمية.

وفي الشأن الاقتصادي، يعتبر الإنتاج المحلي غاية في الأهمية! وأما كلامه بشأن الاستثمار فهو صحيح. علماً بأني تحدثتُ في موضوع الحاجة إلى الاستثمار الداخلي والخارجي قبل خمسة أو ستة أعوام في الجلسة التي عقدناها هنا في الطابق العلوي، وكان الكثير منكم حاضراً فيها إلى جانب عدد من الخبراء الاقتصاديين. فذكرتُ هناك بأننا نحتاج لقطاع البترول مثلاً إلى كذا مقدار من رأس المال وكذلك الحال بالنسبة لسائر قطاعات البلد. وبالتالي فإن هذه احتياجات موجودة ولابد من تأمينها، ولكن توجد هنا نقطة ظريفة، وهي أن المسؤولين الاقتصاديين الأعزاء - في هذه الحكومة أو الحكومة السابقة - حين يلتقون بنا أحياناً، يضعون في الأغلب شروطاً صعبة لتوفير فرص العمل! وأحياناً ما يقال بأن توفير فرصة عمل واحدة يحتاج إلى مئة مليون. نعم، هناك بعض المشاغل التي تحتاج إلى استثمار مئة مليون لتوفيرها، ولكن ثمة مشاغل كثيرة لا تحتاج إلى ذلك. نحن اليوم نستطيع توفير فرص عمل في أريافنا وفي مدننا الصغيرة وفي مختلف مناطق بلدنا، بمبالغ أقل بكثير (مما ذكر). وهذا ما تلاحظونه، فقد بثّ التلفزيون تقريراً - شاهدته بصورة عابرة - عن فردٍ وفّر فرصة عمل لعشرين شخصاً مثلاً بإبداعه واندفاعٍ منه، في القطاع الفلاني والصناعة الفلانية، وكل رأسماله من البداية وإلى النهاية لم يبلغ مئة مليون، ولكنه استطاع تمشية الأمور شيئاً فشيئاً وتوفير فرص عمل لشعرين شخصاً مثلاً، وذلك من خلال عمل إنتاجي.

يجب أن يكون بوسعنا الاهتمام بقضية الأرياف - وهي قضية دوّنتها هنا - ومعالجتها بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى، والصناعات الريفية تشكل الجزء الأكبر من المعالجة والحل. فالأرياف بحاجة إلى صناعات تتناسب والوضع المعيشي فيها، ونحن قد قصّرنا في هذا الشأن. فلابد من الاهتمام بالصناعات الريفية وتوفير الإمكانيات الضرورية للقرى والأرياف. وقد أشاروا إلى خطوط الإنترنت.. نعم الإنترنت بدوره شيء، ولكن الأوجب منه على سبيل المثال الطرق وإمكانيات التردد ونقل المحاصيل بسهولة. فلا ينبغي أن يباع الكيلو الواحد من المحصول الفلاني بالآلاف في مركز المدينة الفلانية الكبيرة، والريفي لا يستطيع أن يربح على نفس هذا المحصول بأكثر من عُشر سعره مثلاً. فلو تمكّنا من تنظيم عملية التواصل وتأمينها، وتسهيل الأمر على الريفي في تردّده وبيعه وشرائه، ستبقى الأرياف بالطبع هي المولّدة والمنتجة وستعالج الكثير من المشاكل. فقد تولّدت المناطق العشوائية بسبب الأوضاع المتفاقمة في الأرياف التي تتسبب في رحيل أهلها (إلى المدن). ذلك أن واحدة من مشاكل البلد هي السكن العشوائي وما يترتب عليه من مفاسد ومن آفات اجتماعية كثيرة.

ومن القضايا المهمة أيضاً قضية الاستيراد، علماً بأن بعض البضائع المستوردة تعالج مشكلتها بالرسوم، وأما بعضها الآخر فلا يمكن حتى للرسوم أن تعالج مشكلتها. ومن هنا ينبغي الحيلولة دون الاستيراد في بعض المجالات. وبالطبع فقد تشجعون الاستيراد في مجالات أخرى، ولا إشكال في ذلك، ولكنه منوط بالاحتياجات والإمكانيات المتاحة في البلد. ففي الموارد التي يكون فيها إنتاج داخلي، يلحق الاستيراد ضرراً بهذا الإنتاج، ولابد هنا من الحؤول دون الاستيراد بكل شدة. إذ يلاحظ المرء أحياناً بعض الشكاوى - تارة يكتبونها لنا وأخرى يسمعها المرء في بعض التقارير العامة - بأن للمنتج الداخلي عتبه وشكواه قائلاً: إننا ننتج هذه البضاعة بكل مشقة، وإذا بها تُستورَد بكميات كبيرة. والمستهلك الداخلي أيضاً، وهو الجهاز الحكومي أو شبه الحكومي الفلاني على سبيل المثال، لا يشتري البضاعة المحلية بذريعة أنها لا تصل إلى جودة تلك البضاعة الخارجية. بيد أن سعرها أزهد، فقم باستهلاكها والاستفادة منها ومساعدة الإنتاج المحلي، وستكون تجارب المنتج اللاحقة أفضل. وهذا شيء طبيعي وواضح، وإلّا إذا أردنا استهلاك البضائع الفاخرة باستمرار، لا يتأتى عندذاك للإنتاج الداخلي بلوغ محطاته المرجوة في أي وقت من الأوقات.

وهناك قضية تهريب البضائع، وهي تعد من القضايا المهمة، وينبغي التصدي لها بكل جدّ.

لقد دوّنتُ هنا بأن معظم الوزارات تستطيع حقاً ممارسة دورها في تمتين الاقتصاد الوطني. فالكثير من الوزارات لا صلة لها ظاهراً بالشؤون الاقتصادية - ولنأخذ على سبيل المثال وزارة العلوم فإنها ليست وزارة اقتصادية - لكنها تستطيع أن تلعب دوراً في تعزيز الاقتصاد الوطني. من قبيل أن يوجّهوا أطروحات الدكتوراه والماجستير وما شاكلهما لتصبّ في خدمة الاقتصاد الوطني وتعالج المسائل والمشاكل الداخلية للبلد، وشبابنا مستعدون لذلك.. هذه واحدة من الأعمال الهامة. ومنها أيضاً التواصل بين الصناعة والجامعة الذي أكّدنا عليه منذ سنوات. وكذا الحال بالنسبة لباقي الوزارات.

التنفيذ الصحيح للمادة 44 والتي لم يتم تنفيذها بالشكل المطلوب والصحيح لا في هذه الحكومة ولا في الحكومة التي سبقتها. فلابد من تدارك حالات التخلف عبر تنفيذ هذه المادة التي تفيد تسليم المسؤوليات الاقتصادية للقطاع الخاص بالشروط والظروف الخاصة التي تم تحديدها والإعلان عن سياساتها ووضع القوانين لها. وهذا سيساعد الاقتصاد الداخلي تماماً.

وبالطبع فإن قضية أمن الاستثمار هي الأخرى تقع على جانب كبير من الأهمية. فإن جانباً من أمن الاستثمار يرتبط بالسلطة التنفيذية، وجوانب أخرى منه تتعلق بأجهزة أخرى كالسلطة القضائية والأجهزة المختلفة الأخرى.. هذه أيضاً قضية.

علماً بأننا نتحدث كثيراً فيما يتعلق بالأمور الاقتصادية. ولقد قلنا الكثير طوال هذه الأعوام، سواء أنا شخصياً أو رجال الحكومة أو أعضاء مجلس الشورى أو غيرهم، ولكن لابد من النزول إلى ساحة العمل، وينبغي أن تكون هناك خطة عمل وخارطة طريق واضحة. وإن من أولى المهام التي يجب أن تضطلع بها الحكومة إن شاء الله، هي إعداد خارطة طريق واضحة وكاملة وشاملة، بغية أن يتسنى للقطاعات المختلفة القيام بكل هذه الأعمال المرتبطة بها.

وإن من الأمور المؤثرة التي تساعدكم على إدارة البلاد هي قضية الفضاء الافتراضي، وهي قضية فائقة الأهمية. وما هو أهم من كل شيء في هذا المضمار هو الشبكة الوطنية للمعلومات. وهنالك تقصير في هذا الجانب للأسف، ولم يتحقق الأمر الذي كان ينبغي تحققه. ولكن لا يمكن العمل بهذه الطريقة. وأما أن نقصّر في هذه المجالات بذريعة أنه لا ينبغي الوقوف أمام الفضاء الافتراضي، فهذا لا يعالج المشكلة ولا يعتبر منطقاً صحيحاً. فالفضاء الافتراضي اليوم لا يختص بنا وللعالم بأسره صلته بهذا الموضوع، والبلدان التي أسّست شبكة معلومات وطنية وسيطرت على الفضاء الافتراضي لصالحها ولصالح قيمها ليست بلداً أو بلدين. فإن لأفضل البلدان وأقواها في هذه المجالات خطوطها الحمراء، ولا تسمح بوفود الكثير من أجزاء ومعطيات الفضاء الافتراضي الموفدة من قبل أمريكا والأجهزة التي تقف خلف أستار هذه القضية، بل تسيطر على الأمور. ومن الواجب علينا أيضاً أن نُحكم سيطرتنا. وهذه السيطرة لا تعني أن نحرم الشعب من الفضاء الافتراضي. ففي الوقت الراهن يتساقط وابل من المعطيات الصحيحة والخاطئة على رؤوس مستخدمي الإنترنت، بما فيها من معلومات خاطئة مغلوطة ضارة وشبه معلومات - ذلك أن البعض منها ليست معلومات حقيقية بل هي شبه معلومات - فلماذا نسمح بحدوث ذلك؟ لماذا نسمح بانتشار أمور في داخل البلد تتعارض مع قيمنا ومبادئنا القطعية والعناصر والأجزاء الرئيسية لهويتنا الوطنية، على يد خصومنا ومن يريدون بنا السوء؟ كلا، اعملوا على أن ينتفع الجميع من منافع وأرباح وفوائد الفضاء الافتراضي، وزيدوا من سرعة الإنترنت، وقوموا بما ينبغي القيام به في هذا الشأن، ولكن فليتحقق هذا حيال الأمور التي ليس فيها ضرر على بلادكم، وليس فيها ضرر على شبابكم، وليس فيها ضرر على الرأي العام لديكم، وهذا أمرٌ مهم جداً. إذن فقضية الشبكة الوطنية للمعلومات قضية بالغة الأهمية.

والقضية الأخيرة التي أطرحها هي قضية أمريكا.. إنّ الكثير من قضايانا مع أمريكا لا تقبل الحلّ أساساً، والسبب في ذك أنّ مشكلة أمريكا معنا هي نحن أنفسنا - أي الجمهورية الإسلامية بذاتها - هذه هي المشكلة، لا الطاقة النووية ولا حقوق الإنسان، بل مشكلتها مع نفس الجمهورية الإسلامية. فأن تتأسس حكومة ونظام ودولة، في مكان هام وعلى أرض ثرية كإيران، لا تأبه بما تصدره قوة كأمريكا من «نعم ولا»، بل هي التي تقول «نعم أو لا» في الشؤون المختلفة، فهذا مما لا تطيقه أمريكا، ومن هنا تناهضها وتعارضهها. فكيف تريدون حل هذا التعارض؟ إذن فمشاكلنا مع أمريكا لا تقبل الحل، لأن مشكلتهم مع أساس النظام الإسلامي.

وأقولها لكم: مع غض النظر عن النظام، فإن لهم مشكلتهم مع استقلال البلد أيضاً. بمعنى أنه حتى لو كان على رأس السلطة نظام غير نظام الجمهورية الإسلامية، وأراد أن يكون مستقلاً، فستكون لهم مشكلتهم معه. وهذه تجربة حركة تأميم النفط أمام أعيننا. ففي النهضة الوطنية أحسن الدكتور مصدق الظن بالأمريكان، بل كان يودهم، ولكنه لم يكن يرغب في الاتكاء عليهم - وقد كان بالطبع خصماً للبريطانيين - وإنما كان يرغب في الاستقلال. بيد أن الذي كان سبباً في نشوب الانقلاب ضد الدكتور مصدق لم يكن بريطانياً بل كان أمريكياً، وقد كان الجهاز الذي يقف وراءه هو المخابرات الأمريكية أكثر من الاستخبارات البريطانية.. هذه هي حقيقة أمريكا. أي إنهم لم يتمكنوا من الانسجام حتى مع نظام وحكومة ليست دينية أبداً ولا هي حكومة ثورية - فالنهضة الوطنية لم تكن حكومة ثورية، إنما كانت تسعى وراء استقلال البلاد وانتشاله من نير البريطانيين، وتصورت أن أمريكا ستسعفها - والسبب في ذلك أنهم يعارضون استقلال البلد.

اعلموا إن لهذا البلد جاذبيته، وأنتم تعلمون ذلك، ولكن زيدوا من معلوماتكم.. نحن نمتلك بلداً جذاباً، فموضعنا مهم، ومنطقتنا مهمة، وقضايانا الإقليمية مهمة، ومصادرنا الجوفية مهمة. ذات مرة قلتُ في هذه الجلسة إننا نشكّل واحد بالمئة من سكان العالم، وتتوافر في بلادنا أكثر من واحد بالمئة من الطاقات الأساسية والمعادن الرئيسية في العالم.. هذا فضلاً عن النفط والغاز، وما عداهما هناك ثروة هائلة كامنة هنا. أضف إلى ذلك الطاقات البشرية الخارقة. فإن هذا بلد جذاب، والقوى التي تمتهن التطاول على هذا المكان وذاك، غير مستعدة لغض الطرف بسهولة عن مثل هذه اللقمة السائغة، إلّا إذا منعناها من ابتلاعها، ونحن نمنعها، بل الثورة الإسلامية هي التي تصدّها عن ذلك.

وعليه فهذه الأمور ذرائع.. حقوق الإنسان ذريعة، وزعزعة استقرار المنطقة - التي أخذ الأمريكيون مؤخراً يتحدثون عنها في شعاراتهم ضدنا - ذريعة، والإرهاب ذريعة، وكذا الحال بالنسبة لباقي الكلام الذي يطلقونه. فإنهم هم الإرهابيون وهم الذين ينتجون الإرهاب وهم حماة كيان كالكيان الصهيوني الذي هو عقل الإرهاب وأمّ الإرهاب، وقد نشأ منذ البداية على الإرهاب والقتل والظلم. إذن فهذه كلها ذرائع، وإنهم يعادون النظام الإسلامي. فلا يمكن الانسجام والتفاهم مع أمريكا. وينبغي عدم إطلاق كلام غامض ذي وجهين في هذه المجالات يمكن أن يسيء البعض استغلاله، وإنما يجب طرح الأمور بشكل صريح وواضح.

وليعلم الأمريكيون أنفسهم أن الجمهورية الإسلامية لن تتنازل عن مواقفها الرئيسية.. نحن لن نكف عن مقارعة الظلم، ولن نتخل عن مناصرة فلسطين، ولن نتنازل عن الكفاح من أجل إحقاق حقوقنا. نحن شعب حيّ، والثورة حيّة وشابة لحسن الحظ. حيث كانوا يترقبون أن تصاب الثورة بالشيخوخة.. نحن نشيخ والثورة لا تشيخ. وهي، والحمد لله، في ذروة نشاطها وشبابها وقدرتها وفاعليتها وتوالدها وإنتاجها. فإنكم حين تنظرون إلى هؤلاء الشباب الثوري، تصدّقون أن الثورة لا تزال تنتج وتتوالد، وفيها نماء مستمر. وهذا ما يبشر بمستقبل مشرق لشعبنا إن شاء الله. ونتمنى أن يتحسن وضع شعبنا يوماً بعد يوم إن شاء الله، وأن يتسنى للبلد ردّ التهديدات على أفضل وجه بإذن الله.

إلهنا! نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تجعلنا ممن يعرف قدر الثورة الإسلامية.

إلهنا! نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تجعلنا ممن يعرف قدر الدماء الزاكية التي أريقت في سبيل إرساء دعائم هذا النظام، وأن تعرّفنا على واجباتنا وأن تجعلنا من العاملين بها.

إلهنا! انظر إلينا نظرة لطف ورحمة في هذه الأيام المتبقية من شهر رمضان ولاسيما في ليالي وأيام القدر.

إلهنا! نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تنصر الشعب الإيراني في جميع الميادين والساحات.

إلهنا! انصرنا في الميادين المعنوية والمادية واكتب لنا التوفيق والنجاح.

إلهنا! اجعل الروح الطاهرة لإمامنا الخميني الجليل، وأرواح الشهداء الطيبة، والقلب المقدس لولي العصر راضياً عنا.

والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته

 

 

 

الهوامش:

1 - في بداية هذا اللقاء ألقى حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسن روحاني رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية كلمة.

2 - من لا يحضره الفقيه، ج 1 ، ص 490 (دعاء أبي حمزة الثمالي).

3 - سورة الزمر، جزء من الآية 22 .

4 - سورة المائدة، جزء من الآية 13 .

5 - سورة البقرة، جزء من الآية 74 .

6 - الكافي، ج 2 ، ص 329 .

7 - تحف العقول، ص 296 .

8 - دونالد ترامب.

9 - كلمة قائد الثورة الإسلامية في حشود الطلبة الجامعيين من مختلف أنحاء البلاد وممثلي التنظيمات الطلابية في الجامعات بتاريخ 07/06/2017.

10 – زيارة سماحته لمعرض التقنيات النووية بتاريخ 15/06/2006.