موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال لقائه الآلاف من أبناء الشعب الإيراني من مختلف محافظات البلاد


بسم الله الرحمن الرحیم


والحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیّدنا ونبیّنا أبي القاسم المصطفی محمد، وعلی آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین الهداة المهدیّین المعصومین، سیما بقیّة الله في الأرضین.

قدمتم خير مقدم أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات، فقد تفضّلتم بالمجيء إلى هنا من مدن نائية وفي هذه الأجواء اللاهبة، ونشرتم اليوم النور في أرجاء هذه الحسينية بما يتسم الكثير منكم بأنوار الإخلاص المعنوية.
ماعدا الجوانب الإدارية والسياسية والدولية، لابد أن نطالب ونتوقّع من هذه الاجتماعات الجوانب المعنوية أيضاً، حيث توجد بينكم وبكل تأكيد أنفاس زاكية وقلوب طاهرة ونيّرة وأدعية مستجابة، وها نحن قد عقدنا ونعقد آمالنا عليها.
يمرّ علينا الأول من شهر ذي الحجة؛ هذا الشهر العجيب، وهو شهر الدعاء وشهر المناجاة وشهر ذكر ميقات الله مع النبي الأعظم، وتصل ذروة هذه الحركة من التضرّع والدعاء والتوسّل في يوم عرفة، حيث نشهد فيه حديث إمامنا العظيم الشهيد (1) مع الله سبحانه وتعالى المتمثل في دعاء عرفة بتلك المضامين العالية. ثم يليه يوم (عيد) الأضحى، وهو يذكّرنا بذلك الذبح العظيم؛ ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾(2). ومن بعد ذلك ندخل في العشرة الثانية من شهر ذي الحجة، وهي عشرة الغدير وتلك الواقعة المذهلة.. إنه شهر هام يمهّد السبيل للدخول إلى شهر محرم، فلنغتنم هذه الفرص اغتناماً معنوياً.
أنتم في الأغلب شباب؛ قلوبكم طاهرة، ونفوسكم نقية، وأدرانكم بالنسبة إلى أمثالنا الذين قضينا عمراً (طويلاً) أقلّ، فالجأوا إلى الله ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾(3) في جميع شؤونكم الشخصية والاجتماعية والسياسية والدولية، وهو سبحانه وتعالى سيجيب. ذلك إن أول سمة تتسمون بها إذا وثقتم بفضل الله وبركاته هي أنكم تشعرون بالقوة والاقتدار، ويبتعد عنكم الضعف والخوف وما شابه ذلك، وهذا في غاية العظمة والقيمة. والشعور الآخر الذي سينتابكم هو الشعور بالأمل، فإن اتكلتم على الله وعلى قوته التي لا غاية لها وعلى نِعمَه التي لا نهاية لها، سيتولّد وينمو فيكم الأمل وسيُضيء قلوبكم. وإذا توافر الأمل والتوكل والثقة بالذات والاتكال على القدرة الإلهية، عندذاك سيضحى الشعب عصياً على الهزيمة، وسيتبدّل الإنسان إلى عنصر لا يقف عند حدّ من حيث الاقتدار والتحرّك والتقدّم.
والسرّ في كلّ ما ورد في كلمات الأئمة الأطهار وأدعيتهم من حثّنا على التوسّل بالله سبحانه وتعالى والتوكّل عليه والتضرّع إليه، هو أنه إذا اتكلتم على الله، «إِنَّمَا یَکتَفِي‌ الـمُکتَفونَ‌ بِفَضلِ قُوَّتِكَ فَصَلِّ عَلىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاکفِنَا، وَإِنَّما یُعطى الـمُعطونَ مِن فَضلِ جِدَتِكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَعطِنَا»(4).. إلهي! أولئك الذين تمكّنوا في الدنيا من صيانة أنفسهم أمام الأعاصير إنما مُنحوا جزءاً من قوتك، فتفضّل بها علينا أيضاً.. هكذا يعلّمنا الإمام السجاد في الصحيفة السجادية قائلاً بادروا إلى الدعاء والسؤال بهذه الطريقة. وإنما أوصونا بالدعاء والتضرّع لئلا نضيّع أنفسنا ولا نرتكب الخطايا. فلا تستصغروا أنفسكم ولا تستضعفوها، وإن كنتم متكلين على منبعٍ لا ينتهي من القوة والثروة، عندذاك سوف تستغنون عن كلّ أحد، «اللهُمَّ أَغنِنا عَن هِبَةِ الوَهّابینَ بِهِبَتِكَ وَاکفِنَا وَحشَةَ القاطِعینَ بِصِلَتِك»(5)، وستتسمون بالقوة والاقتدار حتى لو أعرض عنكم العالم برمته. فقد تولّد هذا الشعور لدى الشعب الإيراني بمقدار ذرة، وإذا به أربعون عاماً وهو واقف أمام القوى الصلفة والوقحة والمتكبرة في العالم بكل قوة وصلابة. فإن الذي بأيدينا وأيديكم في هذا الشأن، إنما هو غيض من فيض، وكلما زدناه زادت هذه الطاقة وهذه القوة.. هذا ما يتعلق بشهر ذي الحجة.
أودّ اليوم أن أتناول ثلاثة مواضع، علماً بأني أُصبتُ بالبرد وقد بُحَّ صوتي وأعتذر منكم على ذلك، بيد أن هذه الأمور لا تُزيحنا عن الساحة، وسنقول كلمتنا. أريد أن أطرح ثلاثة مواضيع بمقدار ما يسمح لنا حال المجلس وطاقته. الموضوع الأول حول قضية الاقتصاد ومعاش الناس وهي القضية الجارية في الوقت الراهن والتي تراود أذهان أغلب الناس، وسأحيطها بعدة نقاط. والموضوع الآخر أمريكا وخباثتها، فقد طُرحت اليوم أقوال جديدة في هذا المجال من قِبَلهم وأمثالهم، وهو موضوع سأتحدث فيه بإيجاز. والموضوع (الأخير) يختص بالوحدة السياسية والعامة بين الناس والمسؤولين وتظافر جهودهم، حيث يتعيّن على الناس وعلى المسؤولين أيضاً في جميع أرجاء البلد أن يصبّوا مساعيهم في سبيل تظافر الجهود وتكميل بعضهم الآخر.
أما القضية الأولى وهي القضية الاقتصادية، فإن المشاكل المعيشية اليوم بات يستشعرها الناس بأجمعهم، وهناك طائفة منهم ترزح حقاً تحت الضغوط وبشدة، وذلك إثر الغلاء الموجود في المواد الغذائية كاللحم والبيض والدجاج، وسائر مستلزمات الحياة، وثمن إيجار العقارات، وأدوات البيت، والوسائل الأخرى، فالغلاء منتشر بكثرة، وهذا ما يضع عبئاً ثقيلاً على الناس، ويتسبب في بروز بعض المشاكل، أو انخفاض قيمة العملة المحلية.. هذه هي المشاكل الاقتصادية الراهنة في البلد.
إنّ الخبراء الاقتصاديين في البلد والكثير من المسؤولين قد اتفقت كلمتهم على أن هذه الأحداث لم تنجم من العقوبات الخارجية وإنما هي ناجمة من الداخل ومن المشاكل الذاتية. وهذا ما تردّد على لسان الكثير من المسؤولين أيضاً، والخبراء كذلك - بحسب معلوماتي - قد أجمعوا على هذا المعنى تقريباً. وهذا لا يعني بأن العقوبات لم تترك تأثيرها، فإن لها أثرها، بيد أنّ التأثير الأساس يعود إلى أدائنا. فلو كان هذا الأداء أفضل وأكثر تدبيراً وأنسب وقتاً وأقوى مما هو عليه اليوم، لما تركت العقوبات أثراً كبيراً، ولأمكن حلّ الأمور والصمود أمام الحظر. فإن المشكلة أكثر ما هي ناجمة عن قضايانا الذاتية والداخلية.
ففي قضية العملة الأجنبية والسبيكة الذهبية وهذه المسائل التي حدثت خلال الشهرين أو الأشهر الثلاث الماضية على سبيل المثال، وقعت مبالغ باهظة - وقيل ثمانية عشر مليار دولار من العملة المتوافرة، وهو مبلغ كبير لبلدنا حيث نعاني من مشكلة في تهيئة العملة الأجنبية ويصعب علينا إدخال أموالنا من الخارج أيضاً - بيد أناس أساؤوا استخدامها وذلك على أثر جانب من عدم التدبير وعدم الالتفات. فهناك من سجّل طلباً لاستيراد سِلعة واستورد سِلعة أخرى، أو طالب بشيء لهدف ما ولكنه لم يُنفق العملة فيه، أو قال بأني أريد السفر ولم يسافر، وبالتالي وضعوا العملة في متناول عدة قليلة وأنفقته، أو باعوه لمهرّب وأخذه إلى الخارج، أو باعوه لأحد واحتكره ليزداد سعره فيأتي ويبيعه بضعفين أو ثلاثة أضعاف ويحصل على ثروة طائلة.. هذه مشاكل إدارية لا صلة لها بالحظر. والمسؤولون الكرام في البلد يعترفون ويقبلون بوجود مثل هذه المشاكل، وبالتالي فإن الكثير من المشاكل هي من هذا النمط، وهي تعود إلى طريقة إدارتنا ورسمنا للسياسات التنفيذية.
حينما يتم توزيع العملة أو السبيكة بصورة خاطئة، فإن لهذا التوزيع طرفين: الأول هو الذي يأخذ كأن يكون مهرّباً أو يبيعه لمهرّب، والآخر هو الذي يعطي. ونحن باستمرار نفتّش عمّن يأخذ بصفته مفسد اقتصادي أو مهرّب، والحال أن المقصر الرئيس هو من أعطى، وهو من يجب التفتيش عنه.
وقد انطلقت السلطة القضائية في الآونة الأخيرة بتحرّي هذه القضية، وهو عمل صائب. لا أن يتّهموا زيداً أو عمراً اعتباطاً.. كلا، ولكن قد ارتُكبت مخالفة بالتالي واقتُرف خطأ كبير. ولا أقول «خيانة»، فإن لساني لا يدور بسهولة على أن أقول بأن هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص يرتكبون خيانة.. كلا، ولكنهم بالتالي أخطأوا واجترحوا خطأ هاماً عاد بضرره إلى الناس. فإنه عندما يصعد سعر العملة الأجنبية هكذا ويهبط سعر الريال، لا يبقى شيء لذلك الموظّف الذي يستلم أجوره يومياً أو يتقاضى راتباً بسيطاً. حين ينخفض سعر الريال ويهبط سعر العملة المحلية، تظهر هذه المشاكل التي ترونها. إذن هذه نقطة وهي أن الحظر له تأثيره - لا أنه عديم التأثير - ولكن التأثير السيء الأساس يعود إلى طريقة أدائنا وإدارتنا.
ثمة نقطة أخرى وهي أن العدوّ يستغلّ نفس هذه النقطة؛ ذلك إنّ العدوّ بالمرصاد. فإن لنا عدوّ.. نحن شعبٌ نواجه، ولأسباب عدة، الكثير من الأعداء الذين يتسمون بالخبث والدناءة، وقد قعدوا لنا في الأطراف بالمرصاد، وبمجرد أن يشاهدون هذه المشكلة في داخل البلد، يجلسون عليها فوراً كما يجلس الذباب على الجرح، ويستغلونها للإيحاء بأن النظام الإسلامي لم يتمكن وأن النظام الإسلامي عاجز، ويبثّون اليأس، ويسوقون الناس إلى التيه والحيرة. والإعلام هذا ترونه ولا أدرى كم لكم صلة بالإعلام العالمي، واليوم قد أصبح العالم الافتراضي في متناول الجميع، فقد انطلقت الهجمات الإعلامية باستمرار ومن كل جانب ضد النظام الإسلامي وضد الإسلام وضد الجمهورية الإسلامية وضدّ كل مفاصل البلد ونحوها، بسبب خطأ ارتكبه زيد أو عمرو أو بكر، فإن العدوّ يستغل ذلك.. هذه هي حركة العدوّ الشريرة، لأي شيء؟ يريد الإيحاء بأن البلد أمام طريق مغلق. 
وأنا أقول: لا يوجد في البلد أي طريق مغلق.. لا يوجد في هذا المجال الاقتصادي أيّ طريق مغلق.. لا يُتصوَّر بأن الحلول غير متوافرة.. كلا، مشاكل البلد والمشاكل الاقتصادية معروفة والحلول معروفة كذلك. فعلى العاملين أن يشحذوا الهمم إن شاء الله وأن يشمّروا عن ساعد الجدّ، وقد انطلقوا وأُنجزت بعض الأعمال، وسأفصّل في هذا المجال لاحقاً، وهذا ما يشهده الإنسان.
أنا الجالس هنا، تصلني على الدوام من قِبَل الشباب المؤمن الثوري الراغب الوقّاد المبدع مقترحات ورسائل وأقوال وأمثال ذلك، وأنا بدوري أرسلها إلى الأجهزة التنفيذية لينتفعوا بها.. هذه أمورٌ تصلني. وفي الآونة الأخيرة رأيت نحو أربعين خبيراً اقتصادياً، بعضهم من الأسماء اللامعة والبعض الآخر نعرفهم، أرسلوا رسالة إلى رئيس الجمهورية كتبوا فيها قائمة من المشاكل الاقتصادية في البلد وقائمة من الحلول أيضاً. وأنا بنفسي طالعتُ الرسالة بدقة، فوجدتها صائبة وكُتبت من منطلق حرصٍ وإخلاص. هؤلاء أناسٌ لا يعارضون الحكومة والجهاز (الحاكم) ورئيس الجمهورية المحترم، ويدخلون في عداد التيار الذي له اليوم حضور كامل في الأجهزة التنفيذية، ولكنهم في الوقت ذاته شخّصوا الإشكالات البنيوية للاقتصاد والإشكالات الحالية في الحركة الاقتصادية للبلد بشكل جيد، وكتبوا عشرين حلاً لها. وأنا حين طالعتُ هذه الحلول وجدتها - على ما أذكر - صائبة بأسرها تقريباً، وهي نفسها التي طالما كرّرناها لسنوات عدة في شعارات السنة. وفي غضون السياسات العامة التي تم إبلاغها للسلطات الثلاث نجد أغلب هذه المسائل - ولا نقول كلها - التي ذكرناها، أخذ يطرحها هؤلاء الاقتصاديون المستقلون والمنظرّون والمفكّرون. إذن فالحلول موجودة.
وأما أن يروّج العدوّ وبتبعه جماعة في الداخل من أصحاب النفوس الدنية في الصحيفة الفلانية أو الموقع الإلكتروني الفلاني قائلين بأن «البلد وصل إلى طريق مغلق، ولا مفرّ لنا سوى اللجوء إلى الشيطان الفلاني أو الشيطان الأكبر الفلاني» فهذه خباثة.. كلا، الطريق سالك والحلّ متاح، والحلول هذه في متناول المسؤولين، وبمقدورهم تنفيذها والعمل بها، وذكرتُ بأنهم قد ابتدأوا ببعضها، ولكن عليهم أن ينطلقوا بمزيد من الجدية.
أنا الآن أقولها لكم وأطرحها على ما يسمى بالملأ العام، ولكن لطالما ذكرتُ نفس هذه القضية في الاجتماعات الخاصة للرؤساء والمسؤولين المحترمين في البلد مراراً وتكراراً، وهم بدورهم يتابعونها ويتحركون بالتالي بمقدار وسعهم، وهي ضرورة أن يختاروا أعواناً جيدين وناشطين جيّدين، وهم نفس هؤلاء الشباب المؤمن. إذ لا يوجد لدينا قليل من الأيادي ومن الطاقات المستعدة والمتأهبة للعمل والمرابطة والمندفعة والكفوءة. ففي الآونة الأخيرة كتب لي رسالة ووقّع عليها ما يقرب من خمسة آلاف طالب جامعي، وأنا بالطبع لم أرَ الرسالة ولكن وصلني خبرها، يقولون فيها بأننا في خدمة الثورة وفي خدمتكم، مستعدون.. هؤلاء مستعدون ومتأهبون للعمل، فلا يوجد لدينا قليل من الطاقات الإنسانية، والبلد ولله الحمد غني من حيث الطاقات الإنسانية. فليتم الانتفاع بهم وطلب العون منهم، وستُنجز الأعمال إن شاء الله.
إنني وفي خطبتي صلاة عيد الفطر الأخيرة خاطبتُ المسؤولين أمام الملأ العام قائلاً لهم: توفّرت في البلد سيولة (مالية) كبيرة وهذا ناجم من الأخطاء ومن السياسات الخاطئة التي أدّت إلى ارتفاع السيولة في البلد وتسببت في بروز مشاكل كثيرة. ثم قلتُ بأن المسؤولين في البلد لو استطاعوا التفتيش عن طرقٍ لتوجيه هذه السيولة باتجاه الاقتصاد الإنتاجي، سواء في الصناعة أو الزراعة أو العقارات وأمثالها، لتبدّلت نفس هذه السيولة التي تعتبر اليوم تهديداً إلى فرصة، وكذلك الحال لو استطاعوا توجيه نصف هذه السيولة أيضاً. ومن هنا أيضاً أخاطب المسؤولين الحكوميين الكرام - وأنتم تعلمون بأني أدعم الحكومة، بل وأدعم جميع الحكومات - وأوصيهم بكل تأكيد أن يجتمعوا ويفّكروا ويستعينوا بأهل الخبرة والاطلاع والفطنة ويتوصّلوا إلى سبلٍ لتوجيه هذه السيولة الكبيرة نحو الإنتاج، وهذا عملٌ يمكن تطبيقه وتنفيذه، وهو واجب في أعناق المسؤولين المحترمين الحكوميين والاقتصاديين ولابد من إنجازه.. هذه نقطة. 
والنقطة الأخرى هي أنّ هؤلاء الذين يحلّلون القضايا الاقتصادية وأحياناً يكتبون التقارير ويرفعون هذه التحليلات إلى السلطات العليا في البلد، يقولون بأن السبب من بروز هذه المشاكل في السوق وفي بيئة التجارة والعمل هو أنّ الناشطين الاقتصاديين كانوا على علمٍ بما سيفرضه العدوّ من عقوبات في شهر آب أو تشرين الأول مثلاً ولذلك لملموا أوضاعهم.. جيّد، ولكن لو أن الناشطين الاقتصاديين قد أعدّوا أنفسهم لعلمهم بالحظر، فعلى رجال الحكومة أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة الحظر أكثر. وسبق أن ذكرتُ بأن للحظر تأثير أقلّ، حيث يقول البعض ثلاثين بالمئة، ويقول البعض الآخر عشرين بالمئة، ولا أعلم مقداره بالضبط لأقول ثلاثين بالمئة أو عشرين بالمئة، ولكن أعلم بأنّ تأثيره أقلّ. وبالتالي لو يترك الحظر تأثيره حقاً، لكان من المحتوم عليكم، أنتم الذين تعلمون بأن من المقرر فرض الحظر، أن تعدّوا أنفسكم. واليوم أيضاً يجب عليكم إعداد أنفسكم فإنه لم يفت الأوان بعد. ولو قال قائلٌ: لقد فات الأوان وهذا أمر غير ممكن، فقد قال شططاً، وهو إما جاهل وإما يُلقي الكلام على عواهنه.. كلا، لم يفت الأوان. واليوم أيضاً بمقدورهم اتخاذ القرار حیال المبادرة العدوانية والخبيثة للعدوّ - وسيصل الدور إليه أيضاً - والقيام بالإجراءات اللازمة، وهذا عمل يمكن تطبيقه. ولو قال أحد: كلا؛ لا يمكن القيام بشيء وقد فات الأوان والطريق مغلق، فهو إما جاهل أو.. وقد ذكرتُ بأني لا أورم رمي أحدٍ بالخيانة، ولكن القول نابع من منطلق خيانة، إن لم يكن ناجماً عن الجهل.. هذه أيضاً نقطة.
والنقطة الأخرى تحوم حول الفساد. فإنّ واحدة من الأمور التي يجب إنجازها هي مكافحة الفساد. وما رسالة رئيس السلطة القضائية الموقّر التي كتبها لنا قبل يومين، ونحن بدورنا أجبنا وأكّدنا عليها، إلا خطوة إيجابية مهمة في مكافحة الفساد والمفسد، فلابد من معاقبة المفسدين. ولكن لماذا نُعلن ذلك ونصّر عليه جهاراً؟ لأن التجربة أثبتت بأنه إذا تمت مكافحة الفساد والمفسدين والتصدي لهم، تعالت صرخاتٌ وصيحاتٌ من هنا وهناك. فقد كتبتُ قبل اثني عشر عاماً تقريباً رسالة إلى رؤساء السلطات الثلاث حول الفساد وقلت فيها - بما يقارب هذا المضمون، وهي موجودة ضمن الوثائق - بأنّ مَثَل الفساد كمَثَل التنّين الذي له سبعة رؤوس، فإن قطعتَ رأساً من رؤوسه، سيظهر برؤوسه الأخرى، ولذا يجب مكافحته بشكل كامل. وأما إعلان هذا الأمر جهاراً فهو لأن يعلم الجميع ويعرفوا بأنّ من المقرر أن يتم التصدي للمفسد بشكل حاسم ودون مراعاة أية مجاملة(6). اسمحوا.. اسمحوا! هل أنتم محكمة حتى تطالبوا بالإعدام؟! البعض منهم قد يُحكم عليهم بالإعدام، والبعض الآخر كلا، بل قد يُحكم عليهم بالسجن، فلا تشحنوا الأجواء مطالبين بالإعدام كي يُجبَروا على تنفيذه، علماً بأنهم لا يُجبَرون على ذلك بل يراعون الأمر. فقد كتبتُ (في جواب الرسالة) بأنّ (التصدّي) لابد وأن يكون عادلاً ودقيقاً؛ بمعني أنه يجب إنجاز العمل بدقة وعدالة.
ثمة نقطة بالغة الأهمية في مجال الفساد، أودّ أن أطرحها، فليتنبّه إليها الجميع، وليلتفت إليها الشعب الإيراني قاطبة. إني كنتُ منذ سالف الزمن أعارض وأناهض الفساد والمفسدين الاقتصاديين وغيرهم، وهذه هي عقيدتي الراسخة في الوقت الراهن أيضاً، بيد أنّ البعض إذا أراد الحديث عن الفساد يتحدث بإفراط، فانتبهوا إلى ذلك! يتكلم بطريقة وكأن الجميع فاسد، والفساد قد غطى كل المدراء وكافة الأجهزة والمفاصل! كلا، ليس الأمر كذلك، فإن الفاسدين هم نزر يسير. نعم! الفساد قليله أيضاً كثير ولابد من مكافحته، إلا أنّ هذا شيء، وأن تتحدث بطريقة يتصوّر المستمع بأن الفساد قد ملأ كل الأرجاء (شيء آخر). وهناك من يعبّر تعبيراً غربياً ويقول: «فساد تنظيمي».. كلا! ذلك الذي يرى الفساد تنظيمياً، إنما قد عشعش الفساد في دماغه وفي عينه. هناك كم هائل من المدراء والمسؤولين الذين يتصفون بالإيمان والنزاهة في جميع أنحاء البلد وفي كل الأجهزة ويبذلون الجهود والمساعي، فلِمَ تظلموهم؟ ولـِمَ تتكلمون بما يخالف الحقيقة؟ ولماذا تظلمون النظام الإسلامي؟ أجل! لا ينبغي أن يكون في النظام الإسلامي حتى فاسد واحد، ولكن الموجود عشرة أشخاص فاسدين مثلاً لا عشرة آلاف فاسد، والفارق بينهما كبير جداً، فالتفتوا إلى ذلك.
يقوم البعض بالحديث والكتابة هنا وهناك - واليوم قد انتشر العالم الافتراضي أيضاً - بكل سهولة ويقول بأن «الفساد قد ملأ الأرجاء».. كلا! ليس الأمر على هذا النحو. نعم! يوجد فساد في أجهزة مختلفة. ولكني رأيتُ بأن هناك من يتهم جماعة في المجلس وفي أماكن أخرى على سبيل المثال، وإن أمعنتَ النظر بشكل صحيح، تجد بأن الذين اتُّهموا ليسوا إلا أشخاصاً قلائل، ولا يمكن تعميم هؤلاء القلة على الجميع. هذا إذا كانت التهمة صادقة، وإلا فقد تكون نفس هذه التهمة كاذبة ومخالفة للواقع، وقد وُجِّهت عن جهل وعدم اطلاع، ولكن حتى إذا كانت صادقة فهي ترمي عدة أشخاص في قبال عدد كبير. فالتفتوا بأن الإفراط والتفريط خطأ في جميع المجالات.
وأما حصيلة البحث في الشأن الاقتصادي، فالمشاكل الاقتصادية في البلد موجودة ومعروفة، وحلولها معروفة كذلك؛ سواء الحلول الجذرية أو الحلول القصيرة المدى. هذا وإني قد طالبتُ رؤساء السلطات الثلاث المبجّلين بعقد جلسات مشتركة للبحث عن حلولٍ لمسائل البلد ومشاكله الاقتصادية مع بعضهم الآخر.. هذا ما طالبتُهم به قبل شهرين تقريباً، والجلسة هذه تُعقَد بشكل متواصل، ورؤساء السلطات الثلاث يتداولون فيها البحث مع بعض الخبراء الأمناء من هذه السلطات حول الشؤون الاقتصادية. وهو إنجاز مهم طالبنا به السادة وهم بدورهم أخذوا ينفذونه.
كما ويجب على أجهزة المراقبة أن تنزل إلى الساحة بقوة وبأعين مفتوحة. وعلى الأجهزة الاستخباراتية وأجهزة المراقبة المرتبطة بالسلطة القضائية وأجهزة المراقبة المتعلقة بمجلس الشورى، وعلى كافة أبناء الشعب المؤمن كذلك أن يشعروا بأن هناك واجب في أعناقهم وعليهم ممارسة أدوارهم. ولقد رأيتُ في إحدى الصحف بأنه قد طولب المؤمنون والولائيون والتعبويون وغيرهم من الناس بأن يبلّغوا (المعنيين بالأمر) إذا ما بلغهم الخبر أو وجدوا مكاناً يحتكر (سلعة) على سبيل المثال. وهذه فكرة جيدة وصائبة جداً، فإن الكثير من الأعمال التي تم إنجازها، إنما أُنجزت بمساعدة الناس.
وعلى الحكومة أيضاً أن تستفيد من الطاقات المتوثبة والذكية، في الوزارات وفي المديريات العامة والعليا لا فقط في الأعمال الجزئية، وأن تُغلق طرق الفساد. نعم! السلطة القضائية تعاقب، ولكن بوسع السلطة التنفيذية أن تصدّ سبل الفساد وتحول دون الأعمال الباعثة على الفساد. ففي قضية العملة والسبيكة هذه، لو مورست الرقابة والدقة والمتابعة، لأغلق سبيل هذا الفساد، ولكنهم لم يُغلقوا هذه البوابة، ولم يتم العمل الذي لابد من إنجازه، فظهر الفساد. إذن فواحدة من الأعمال هي صدّ طرق الفساد وإغلاق أبواب الفساد.
وعلى الناس أيضاً أن يتحركوا في قبال تحريضات العدوّ ببصيرة، ولقد أثبت الناس بصيرتهم والحمد لله، وسأذكر بعض النقاط حول أحداث كانون الثاني لاحقاً. - وإن كانت الجلسة تطول قليلاً ولكن لا إشكال في ذلك، رغم أنكم جئتم من مكان بعيد، وأنا أيضاً أُصبتُ بالبرد، ولكن شعرتُ وأنا أتحدثّ إليكم بأن صحتي قد تحسّنت قليلاً - فإن الناس قد عملوا ببصيرة، وليعملوا اليوم أيضاً ببصيرة، وليعلموا بأن العدوّ يريد استغلال نقطة الضعف هذه المتوافرة فينا. فإن نقطة الضعف موجودة - لا أنه ليس لها وجود - ولكن العدوّ يروم استغلال نقطة الضعف هذه ضدّ الشعب الإيراني ولصالحه.. إنه لا يبغي إزالة نقطة الضعف، بل سيساعد على ازديادها ما استطاع إليه سبيلاً، لأنه يريد استغلالها. غير أنّ الناس كما أثبتوا فيما مضى بأنهم يعملون ببصيرة، عليهم أن يعملوا في هذا المضمار أيضاً ببصيرة.
وعلى الأجهزة الإعلامية أيضاً - بما فيهم الإذاعة والتلفزيون والصحف ومواقع العالم الافتراضي - ألّا ينشروا بذور اليأس بين الناس، وألّا يتحدثوا بطريقة تسوق البعض إلى اليأس من الإسلام. علماً بأنهم إذا أرادوا الانتقاد فلينتقدوا، وأنا لا أعارض الانتقاد المنطقي، ولكن لا يبثّوا اليأس في نفوس الناس. أحياناً ما يجري الحديث في صحيفة أو في برنامج متلفز أو في برنامج إذاعي بطريقة تَدَع المرء يقول: «يا للعجب! كأن الأبواب كلها مغلقة»، ولكنّ الأمر ليس كذلك، والأبواب ليست مغلقة، فلِمَ يتحدثون بهذه الطريقة؟ اِعلموا! لا شك أن الشعب الإيراني والثورة الإسلامية العزيزة ونظام الجمهورية الإسلامية كما تجاوز المراحل العصيبة الأخرى، سيتجاوز هذه المراحل التي هي أسهل من سابقاتها بكل سهولة إن شاء الله.
وأما قضية أمريكا.. أولاً أقول بأن الأمريكيين في أدبياتهم وفي تصريحاتهم خلال الأشهر الأخيرة أو النصف الأخير من هذا العام قد ازدادت وقاحتهم وازداد سوء أدبهم. علماً بأنهم في الماضي كذلك لم يكونوا مؤدبين في كلامهم، وقلما كانوا يراعون الأدب الدبلوماسي والسياسي والأدب الدارج في العرف الدولي في حديثهم، إلا أنهم اليوم قد ازدادوا صلافة وسوءاً في الخلق بالنسبة إلى ما مضى؛ لا تجاهنا وحسب، بل تجاه كل العالم وتجاه كل شيء وكل القضايا المختلفة، وكأن الحياء قد سُلب منهم؛ بمعنى أنهم يمارسون أفعالاً ويتفوّهون بكلمات ويتخذون مواقفاً تَدَع المرء حقاً في حيرة متسائلاً: هل هم بشر؟
شاهدتم في الأسبوع الماضي بأن السعودية قد ارتكبت في اليمن خلال أسبوع واحد جريمتين مروّعتين: في بداية الأسبوع هجمت على مشفى وقتلت فيه عدداً من المرضى بالقنابل والصواريخ، وفي نهاية الأسبوع استهدفت حافلة تقلّ أطفالاً لهم من العمر ثمان وتسع وعشر سنوات وقتلت أربعين إلى خمسين طفلاً بريئاً.. يا لها من مصيبة عظيمة؟ هل لديكم في المنزل طفل له من العمر ثمان أو تسع سنوات؟ (إنها مصيبة) تهزّ قلب الإنسان! هذه جريمة اقترفتها السعودية وقد زلزلت العالم وهزّت ضميره، والحكومات بدورها - ومن باب المجاملة - أطلقت كلمة وأعربت عن أسفها وقالت شيئاً، وبالتالي (فهي جريمة) هزّت الجميع. ولكن ماذا صنعت أمريكا هنا؟ إنها وبدل أن تدين هذه الجريمة الواضحة، جاءت لتقول بأن «لنا مع السعوديين تعاون استراتيجي»! أليس هذا فقدان للحياء؟ أليس هذا انعدام للخجل؟
هذا هو ديدنهم في جميع القضايا، فإن الأعمال التي يمارسونها تدلّ على صلافتهم ووقاحتهم. كالذي قام به الرئيس الأمريكي حين فصل ما لا يقلّ عن ألفي طفلٍ يبلغون من العمر عامين أو ثلاثة أعوام أو خمسة أعوام - أو أقل أو أكثر - عن أمهاتهم بذريعة أن «هؤلاء مهاجرون»، ولكنه بالتالي لا يمكن الاحتفاظ بالأطفال، فماذا يفعلون بهم؟ وضعوا الأطفال في الأقفاص.. انظروا! يفصلون الطفل عن أمه، ومن بعد ذلك وفي سبيل أن يتمكنوا من الاحتفاظ بهذا الطفل البعيد عن أمه، يسوقون ألفي طفل إلى الأقفاص! هل سبق لهذه الجريمة مثيل في التأريخ؟ إنهم يمارسون هذه الممارسات، ويقفون دون أن يرفّ لهم جفن، ويواصلون مسيرتهم ولا يشعرون بالخجل! والحق يقال إن أدبيات هؤلاء وتصريحاتهم وممارساتهم ومبادراتهم في الآونة الأخيرة قد اتسمت حقاً بوقاحة وصلافة شديدة.
إن هؤلاء وبهذا الأسلوب البذيء المشين أخذوا يتحدثون بشأننا وبشأن الجمهورية الإسلامية، ولكن ماذا يقولون؟ ماعدا قضية الحظر وفرض العقوبات باتوا يطرحون موضوعين آخرين: الأول قضية الحرب، والثاني قضية المفاوضات. علماً بأنهم لا يصرّحون بشنّ الحرب، ولكنهم بلغة الإشارة والتلميح يريدون القول على حدّ زعمهم بأن الحرب قد تشبّ نيرانها، فيهوّلون شبح الحرب لإرعاب الشعب أو إرعاب الجبناء، إذ يوجد لدينا بالتالي حفنة من الجبناء، ولذلك يطرحون شبح الحرب ويضخّمونه.. هذا هو الموضوع الأول.
والموضوع الآخر هو قضية المفاوضات، حيث يقولون بأننا على استعداد لأن نتفاوض مع إيران. علماً بأن هذه من الأساليب والألاعيب القديمة بأن يقول أحدهم مفاوضة من دون شروط مسبقة ويقول الآخر مفاوضة مع الشروط! إنها ألاعيب سياسية قد أكل الدهر عليها وشرب، ولا تستحقّ البحث. على أي حال راحوا يتحدثون حول الحرب وحول المفاوضات أيضاً. وسأستعرض بشأن كل موضوع منهما عدة نقاط، ولكن قبل ذكر هذه النقاط، أودّ أن أخاطب الشعب الإيراني بإيجاز وفي كلمتين قائلاً: لا تندلع الحرب ولا نتفاوض.. كان هذا خلاصة القول لتعلموا وليعلم الشعب الإيراني بأجمعه، بيد أن الكلام هذا يستند إلى استدلال وبرهان، وليس مجرّد ادّعاء وقول وأمنية وشعار.
لا تندلع الحرب، لماذا؟ لأن للحرب طرفين: طرف نحن وطرف هو.. نحن لا نبدأ بحرب، بل ولم نبدأ بأي حرب، وهذا ما تفتخر به الجمهورية الإسلامية، ونحن بالطبع قد خضنا حروباً ولكن الطرف المقابل كان هو البادئ. علماً بأن الطرف المقابل إذا بدأ بالحرب، سننزل إلى الساحة بكل قوة واقتدار، ولكننا لا نبدأ بالحرب.. هذا من جانبنا. وأما الجانب الأمريكي فإنه هو الآخر لا يبدأ بالحرب أيضاً، لظني بأن الأمريكيين على علم كذلك أنهم لو بدأوا بحربٍ هنا ستنتهي بضررهم مئة بالمئة. ذلك إنّ من يعتدي على الجمهورية الإسلامية وعلى الشعب الإيراني فإنه قد يسدّد ضربة ولكنه سيتلقّى الضربة الأكبر، كما كان الأمر على هذا المنوال حتى هذه اللحظة. فإنّ الأمريكيين ذات مرة هجموا على (صحراء) طبس، ولكنهم - كما تتذكّرون - نجّسوا أنفسهم وعادوا أدراجهم! صحيح أنهم قد لا يدركون الكثير من المسائل، ولكن يبدو لي بأنهم ليسوا كذا إلى هذا المستوى بحيث لا يفقهون (هذه الحقيقة)! إذن فالحرب لا تندلع نيرانها بكل تأكيد.
وأما قضية المفاوضات. فقد جاء هذا الرجل(7) مقترحاً بأننا على استعداد لأن نتفاوض مع إيران، وهنالك جماعة في الداخل أيضاً - ولا أدري ماذا أعبّر عنها - قالت: ياللعجب! الأمريكيون قدّموا مقترح التفاوض. بيد أنّ اقتراح التفاوض من قِبَل الأمريكيين ليس بالشيء الجديد، بل في الأعم الأغلب هم الذين كانوا يريدون التفاوض معنا على مدى هذه السنوات الأربعين. فإن ريغان، الرئيس الأمريكي المقتدر - الذي كان أكثر قوة واقتداراً من هؤلاء بكثير، حيث اختلفت أمريكا يومذاك عما هي عليه اليوم اختلافاً كبيراً - قد أرسل شخصاً بالخفية إلى طهران وإلى مطار مهرآباد، وفي نهاية المطاف عاد هذا الشخص صفر اليدين، وهي قضية مك فارلين المعروفة التي حدثت في زمن الإمام الخميني (رضوان الله عليه). فإن هذه ليست هي المطالبة الأولى من جانبهم! أجل، إنهم دوماً يطالبون ونحن نردّ ونرفض، وسأبيّن لماذا نرفض. نحن لم نقبل أبداً ولا نقبل اليوم أيضاً بالمفاوضات التي دوماً ما كان الأمريكيون يطالبوننا بها. ولكن لماذا لا نتفاوض؟ اِسمعوا، فالحديث طويل في هذا المجال.. لماذا لا نتفاوض؟ لهذا السبب: يعتمد الأمريكيون في مفاوضاتهم على هذه المعادلة التي سأذكرها، فلننظر هل يتفاوض الإنسان العاقل مع هذه المعادلة ومع هذا الطرف أم لا؟
أولاً: التفاوض في العرف السياسي لا يعني الجلوس والتحادث والاستفسار عن الحال والصحة.. التفاوض يعني الأخذ والعطاء.. يعني أن تجلسوا على طرفي الطاولة، وأنتَ تُعطي شيئاً وتأخذ شيئاً.. هذا هو معنى المفاوضات السياسية. ولكنّ الأمريكيين بما أنهم يستندون إلى قوة عسكرية وقوة مالية وقوة إعلامية، إذا أرادوا أن يتفاوضوا مع طرف آخر، يحدّدون أهدافهم الرئيسية مُسبقاً، ولكنهم يذكرون بعضها ولا يذكرون البعض الآخر، وإنما يعمدون باستمرار وفي أثناء العمل إلى نقض العهد وإضافة المطاليب والمساومة، وبالتالي فإن أهدافهم الرئيسية محددة بالنسبة لهم.. هذا أولاً.
ثانياً: لا يتراجعون عن هذه الأهداف الرئيسية خطوة واحدة.. نعم، قد يطرحون أهدافاً فرعية ومسائل تافهة لا قيمة لها على الهامش ثم يغضّون الطرف عنها، وهو بحسب الظاهر نوع من التراجع، إلا أنهم لا يتراجعون عن مطاليبهم وأهدافهم الرئيسية أبداً، ولا يقدّمون أيّ تنازل.
ثالثاً: يطلبون من الطرف المقابل في المفاوضات تنازلاً بالنقد، ولا يقبلون منه الوعود قائلين بأننا لا نثق بها، وهذا ما جرّبناه في الاتفاق النووي وفي مواطن أخرى. وهاهم الآن يتفاوضون مع كوريا الشمالية أيضاً على هذا المنحى، حيث يطالبونها تنازلاً بالنقد، فإن امتنع الطرف المقابل من دفع هكذا تنازل أثاروا في وسائل الإعلام الضجيج والصخب على الصعيد العالمي قائلين بأنهم لا يتفاوضون وعليهم العودة إلى طاولة المفاوضات وما شابه. يثيرون ضجيجاً كبيراً يدفع الطرف المقابل في الأعم الأغلب إلى التنازل والانفعال.
رابعاً: إنهم لا يدفعون أي شيء نقدي بإزاء ما يأخذونه من الطرف المقابل نقداً، وكما أنك في كل صفقة تستلم المال وتسلّم البضاعة لا يسلّمون البضاعة، وإنما يأخذون النقد ويقطعون في قبالها الوعود، ولكنها وعود قوية ومتنية: كن على ثقة ولا تردّد ولا تشك، حيث يُطمئِنون الطرف المقابل بوعودهم، وهو بدوره يرى أنهم يقطعون هذه الوعود بكل قوة ومتانة.
وأخيراً: بعد أن انتهى الأمر وفات الأوان، ينقضون نفس هذه الوعود القوية والمتينة ويرمونها بكل سهولة في غياهب النسيان! هذا هو أسلوب تفاوض الأمريكيين.
والآن هل ينبغي الجلوس والتفارض مع هذه الإدارة ومع هذا النظام المتغطرس المزوّر؟ لماذا نتفاوض؟ والاتفاق النووي مثال واضح على ذلك. علماً بأني تشدّدتُ في هذا المجال - ولم تراعَ بالطبع كل الخطوط الحمراء التي عيّناها - إلا أن الطرف المقابل تعامل بهذه الطريقة. إذن لا يمكن التفاوض مع هذه الجهة وهذه الإدارة. بل وكل دولة تفاوضت معها في شتى المسائل، لاقت العراقيل والمشاكل من قِبَلها، إلا إذا كانت تشترك معها في الاتجاه، من قبيل بريطانيا. علماً بأن أمريكا تفرض رأيها عنوةً حتى على بريطانيا وعلى الدول الأوروبية أيضاً، إلا أن بينهم بالتالي قواسم مشتركة في بعض الجهات، ويتعاملون ويتعاونون مع بعض. ولكنها (على أيّ حال) تتّبع هذا الأسلوب في التفاوض، أياً كان الطرف المقابل.
ينبغي لنا أن ننزل إلى ساحة المفاوضات ونخوض هذه اللعبة الخطيرة في الوقت الذي لا تستطيع ضغوط أمريكا وإثاراتها أن تترك أثرها فينا لما نتمتع به من قوة واقتدار. نعم، إذا وصلت الجمهورية الإسلامية من الناحية الاقتصادية والثقافية إلى ذلك الاقتدار الذي نصبو إليه، لا إشكال حينئذ في التفاوض. ولكن الأمر ليس على هذا النحو في الوقت الراهن، فإن تفاوضنا سينتهي هذا التفاوض بضررنا لا محالة، لأن التفاوض مع هذا الطرف المتغطرس إلى هذا المستوى، لا يدرّ علينا إلا بالضرر. ومن هذا المنطلق منع الإمام (الخميني) التفاوض مع أمريكا وأنا أمنعه كذلك. فقد قال الإمام: ما لم تدخل أمريكا في دائرة الإنسان لا نتفاوض معها، ولكن ماذا يعني ما لم تدخل في دائرة الإنسان؟ يعني مادامت تدعم إسرائيل وتساند الجماعات الشريرة في المنطقة، وهذا ما نقوله نحن أيضاً. ولو فرضنا على سبيل المحال أن الجمهورية الإسلامية قرّرت في وقتٍ ما أن تتفاوض مع الإدارة الأمريكية، فإنها لا تتفاوض مع هذه الإدارة الحالية على الإطلاق.
وليعلم الجميع - بما فيهم السياسيين والدبلوماسيين والشباب المتحمسين وطلاب الأقسام السياسية وروّاد عالم السياسة - بأن التفاوض مع نظام متعجرفٍ وجَشِعٍ مثل أمريكا لا يعدّ سبيلاً لدفع العِداء، وإنما هو أداة بيده لممارسة العِداء. التفتوا! هذه معادلة قطعية تؤيّدها تجاربنا وتؤيّدها الملاحظات السياسية المختلفة كذلك. يقول البعض بأن التفاوض يحدّ من العِداء.. كلا، التفاوض لا يحدّ من العِداء، وإنما يمنحه وسيلة لممارسة المزيد من العِداء. ومن هنا نحن لا نتفاوض وهو أمر محظور، فليعلم الجميع ذلك.
لقد ركّزت أمريكا جهودها اليوم على الحرب الاقتصادية، فالحرب العسكرية غير قائمة ولا تقوم على خلاف الحرب الاقتصادية، إذ قد ركّزت جهودها اليوم على الحرب الاقتصادية، لماذا؟ لأنها يئست من الحرب العسكرية.
كما يئست من الحرب الثقافية أيضاً. فقد انقطلت في عقد التسعينات، وهو العقد الثاني من ثورتنا، حركة ثقافية خبيثة ضدنا، عبّرتُ عنها آنذاك بالغزو الثقافي والغارة الثقافية، في سبيل أن يتنبّه الشباب ويفتحوا أعينهم ويعلم الناس.. انطلقت حركة ثقافية واسعة ضدّ بلدنا في عقد التسعينات، ولكم أن تنظروا الآن إلى المولودين في ذلك العقد، حيث باتوا يلتحقون اليوم بصفوف المدافعين عن المقدسات ويقدّمون رؤوسهم وتعود أجسادهم! فمن ذا الذي كان يخمّن ذلك؟ في تلك الفترة التي انطلق فيها ذلك الغزو الثقافي الواسع، تفتّحت هذه الأزهار في بستان الجمهورية الإسلامية وتكاملت هذه الغرسات وتربّى من أمثال (الشهيد) حججي، إذن فقد انتصرنا في الحرب الثقافية وهُزم العدوّ فيها.
كما وشنّوا حرباً ثقافية (أخرى) في عقد التسعينات وجزء من عقد الألفين لرمي مآثر الدفاع المقدس في بقعة النسيان، وشدّدوا على ذلك. بيد أن الجمهورية الإسلامية أطلقت تقنية ناعمة وهي حركة قوافل السائرين إلى النور (لزيارة المناطق الحربية). فإن هذه الحركة تمثّل تقنية وقوة ناعمة، حيث انطلق الملايين من الشباب لزيارة المناطق الحربية، وهي معقل المعرفة والقدس والتضحية، وشاهدوا هناك ماذا كانت الأوضاع وماذا حدث، حيث شرحوا لهم ووضعوهم في صورة الدفاع المقدس.
نعم، هذه هي الجمهورية الإسلامية.. تربي المدافعين عن المقدسات، وتُطلق قوافل السائرين إلى النور، وتنشئ المعتكفين في المساجد ومعظمهم من الشباب، كظاهرةٍ تمثّل رمزاً سامياً للتضرّع والقداسة، ولم يكن لهذه الظواهر وجود فيما مضى، إذن فنحن المنتصرون على العدوّ في الحرب الثقافية، ونحن المنتصرون في الحرب العسكرية أيضاً. 
كما ونحن المنتصرون في الحرب الأمنية والسياسية كذلك. حيث أضرموا نيران الحرب الأمنية والسياسية في عام 2009 وما جرى فيها من أحداث. وهذا ما بذلوا عليه الجهود لأعوام، ولم ينبثق الأمر بين عشية وضحاها. بيد أنّ الشعب الإيراني ونظام الجمهورية الإسلامية تغلّب على مؤامرة العدو.
واليوم بعد أن هُزم العدو في الجبهة الثقافية والجبهة الأمنية والجبهة السياسية والجبهة العسكرية، ركّز جهوده على الجبهة الاقتصادية. وأنا أقولها لكم بأنّ العدوّ بتوفيق الله سيُهزم في هذه الجبهة أيضاً. 
علماً بأنهم يبذلون قصارى جهدهم للانتصار في هذه الحرب، ويتحدثون إلى الشعب الإيراني بالمكر والحيلة. فقد شارك أحد المتخلّفين ذهنياً في برنامج متلفز وخاطب الشعب الإيراني قائلاً بأن حكومتكم تصرف أموالكم في سوريا والعراق! إنه حقاً إنسانٌ متخلّفٌ ذهنياً، فإنّ هؤلاء هم الذين قال رئيسهم(8): أنفقنا سبعة تريليون دولار في المنطقة - أي في سوريا والعراق - دون أن نجني شيئاً، والحق معه، فإنهم أنفقوا على حدّ تعبيرهم سبعة تريليون دولار ولم يغنموا أي مغنم حتى اليوم، بينما لم تقم الجمهورية الإسلامية بأي واحد من هذه الأفعال، ولا يمكن المقارنة بين القضيتين أبداً! فإن سوريا والعراق دولتان صديقتان لنا، واجهتا خطراً من جانب أمريكا والسعودية يهدّد استقرارهما، فبادرنا إلى مساعدتهما واستطعنا أن نمدّ يد العون لهما، وسنقدّم العون بعد اليوم أيضاً لكل دولة صديقة، فالقضية ليست قضية بذل الأموال وما شاكل، وإنما هي تبادلٌ بين الحكومات من أخذ وعطاء وبيع وشراء، ولكنّ (هذا الرجل) يتحدث بهذه الطريقة ليزرع الشكّ والتردّد في (قلوب) الشعب الإيراني تجاه مواقف النظام الإسلامي وحكومة الجمهورية الإسلامية.
إنّ الهدف المتوخى لأمريكا من الحرب الاقتصادية هو إيجاد السخط، علّهم يتمكّنون من تبديل هذا السخط إلى أعمال شغب في الداخل.
أودّ أن أنقل لكم خبراً وليس تحليلاً: هل تتذكرون أحداث شهر كانون الثاني؟ قبل نحو ستة إلى سبعة أشهر نزل عدد من الأشخاص إلى الشوارع في بعض المدن وأخذوا يُطلقون الشعارات ويمارسون بعض الممارسات لبضعة أيام. وكانت أمريكا، إلى جانب إسرائيل والسعودية، قد بذلت مساعيها لمدة ثلاثة أو أربعة سنوات في سبيل إثارة هذه الاضطرابات، والله يعلم كم قد أنفقوا من الأموال لذلك! منذ ثلاثة إلى أربعة أعوام وهم يبذلون مجهودهم علّهم يتمكنون، لبعضة أيام وفي عدة مدن، من أن يجمعوا مئتي شخص أو خمسمئة شخص أو ألف شخص لإطلاق بعض الشعارات. ثم نزل الشعب الإيراني إلى الساحة دون أن يطلب منه أحد - ولقد قلتُها يومذاك بأن الشعب حقاً هو الذي نزل إلى الساحة، فلله درّ هذا الشعب - وطهّر الأجواء وأزال الأدران وهزم (العدو). فقد قام الشعب الإيراني في غضون عدة أيام بإحباط الجهود التي بذلها هؤلاء لعدة أعوام. ثم قالوا بأن الحركة هذه كانت تنطوي على بعض العيوب، ولذا فسوف نزيحها ثم نعود لاحقاً لإثارة هذه الأحداث مرة أخرى. وقال الرئيس الأمريكي بأنكم ستسمعون من إيران أخباراً هامة بعد ستة أشهر، ويقصد بذلك شهر تموز الفائت، حيث اجتمع فيه قبل عدة أيام عدد قليل قاموا بإطلاق بعض الهتافات. فإنهم يُنفقون الأموال ويبذلون الجهود لخلق حادثة ما، وإذا بها تظهر على هذه الشاكلة، فالشعب الإيراني واعٍ وبصير. أجل، المسائل المعيشية تفرض الضغوط على الناس، والكثير منهم يعيشون حالة سخط واستياء، ولكنهم لا يرضخون لمؤامرات ومطاليب المخابرات الأمريكية والكيان الفلاني التعيس البائس! فإن العدوّ ضعيف وعاجز ومهزوم وستلحق به الهزيمة في جميع المراحل المستقبلية لا محالة، ولكن شريطة أن نكون أنا وأنتم يَقِظين، وشريطة أن نؤدي أنا وأنتم واجباتنا، وشريطة ألّا نُصاب أنا وأنتم باليأس والإحباط.
يتحدث البعض بطريقة ويعمل بطريقة - تحت مظلّة أننا نريد إصلاح الأمور ونريد مناصرة الضعفاء وما شاكل - تصبّ في خدمة مخطط العدوّ دون أن يعلم. فإنّ أولئك الذين يطالبون الحكومة بالتنحّي (عن السلطة) وما إلى ذلك، إنما يعملون لصالح مخطط العدو.. كلا، على الحكومة أن تبقى متسنّمة هذا المنصب بقوة واقتدار، وعليها هي أن تُنجز الأعمال. فإن رئيس الجمهورية منتخَب من قِبَل الناس، والمجلس أيضاً منتخَب من قِبَل الناس، كما أن لرئيس الجمهورية حق وللمجلس حق كذلك؛ لكليهما حقوق وتكاليف، فلابد لهم من أداء التكاليف، ولابد أيضاً من حفظ حقوقهم وكرامتهم. إذ يجب على المجلس أن يحفظ كرامة رئيس الجمهورية، ويجب على رئيس الجمهورية أيضاً أن يحفظ كرامة المجلس؛ فلابد من حفظ بعضهما الآخر، ولابد من تظافر الجهود فيما بينهم. وإنّ هذه الجلسة العليا التي عقدناها لرؤساء السلطات الثلاث في المسائل الاقتصادية وقضايا البلد الهامة في الآونة الأخيرة، ينبغي أن تكون واحدة من ثمارها تظافر الجهود فيما بينهم وإضافة الإمكانيات وتكميل البعض الآخر. وعلى الناس أيضاً أن يتحرّكوا ببصيرة، وأن يعلموا ماذا يصنعون، وأن يعرفوا إلى ماذا يبادرون، وأن يُدركوا ماذا يقولون وماذا يريدون. 
وأنا على ثقة بأن يد القدرة الإلهية مساندة لهذا الشعب، كما قال الإمام (رضوان الله عليه) لي بأني أرى يداً مقتدرة فوق هذا الشعب وفوق هذا النظام. فقد كان الإمام (رضوان الله عليه) يرى يد القدرة الإلهية، ونحن أيضاً نرى يد القدرة الإلهية، وقد تجلت وتجسّدت قدرة الله في قدرة الناس وفي إيمانهم.
على أمل أن يمنّ الله سبحانه وتعالى عليكم جميعاً بالتوفيق.
إنني أشكركم ثانية على ما تعنّيتم للمجيء إلى هنا وأسأل الله تعالى لكم التوفيق.


والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته