موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال إستقباله الآلاف من أهالي مدينة قم المقدسة بمناسبة ذكرى انتفاضتهم ضد النظام البهلوي البائد بتأريخ 9/1/1978

 

 

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیدنا ونبینا أبي القاسم المصطفی محمد، وعلی آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين المعصومين المطهّرين، سيما بقية الله في الأرضين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين.

قدمتم خير مقدم أيها الإخوة الأحباء والأخوات العزيزات من أهل الشموخ والإباء في قم والفضلاء الكرام في حوزتها المبرّزة. والحق يُقال إن جمعكم ولقائكم ويومكم مبعث أمل ونشاط وحراك وملهم للدروس على مدى هذه السنين الطويلة.

إنّ يوم التاسع عشر من شهر دي (المصادف 9/1/1978)، لا يشكّل فرصة للإطراء والإشادة بأهل قم وحسب، رغم أن (العمل) هذا مما يجدر القيام به، فلابد حقاً من الإشادة بأهل قم وشبّانها الذين أطلقوا هذه الحركة العظيمة، وأوجدوا هذا المنعطف التأريخي الذي لا يقلع عن الأذهان أبداً، وهذا مما لا شك فيه. فإنّ مدينة قم هي ذلك الموقع الذي تدفّق منه نهر عارم وانطلقت منه شرارة الثورة التي تبدّلت إلى بحر متلاطم، وهذا ليس بالعمل الهيّن.. قم هي مدينة الثورة ومركز الثورة وأمّ الثورة.

ولكن أقولها هنا بين قوسين بأنّ هنالك نوايا ترمي إلى تغيير الأجواء الثورية في قم وتثبيط الروح الثورية والدينية فيها، فلا تغفلوا عن كيد العدوّ في جميع الجهات والجوانب، من الجانب الاقتصادي الذي يصبّ العدوّ عليه كيده ومكره وعِداءه، إلى الجانب الثقافي الذي لا ينبغي التغافل عن غيلة العدوّ وحيلته وخصامه فيه. فإنهم عاكفون (على هذا العمل)، ويبعثون الأيادي، وهذا ما يجب التنبّه له. وعلى كبار قم وشبابها أن يقفوا سدّاً في وجه الأيادي الخائنة التي تروم تضعيف الدور المركزي والمحوري لهذه المدينة في الثورة وإقصائها عن ذلك. على أي حال فإنّ قم هي المنبع الرئيس والحوزة (العلمية) في قم هي الدعامة المعنوية لهذه الحركة التي هزّت العالم وغيّرته، ومازالت الحركة هذه تواصل مسيرها ونحن مازلنا في بداية الطريق.

وعلى هذا يعتبر يوم التاسع عشر من شهر دي يوماً مناسباً وفرصة ملائمة لتكريم أهالي قم وتبجيلهم، ولكن لا يقتصر الأمر على ذلك، فإنّ اليوم هذا ينطوي على دروسٍ لحاضرنا. وأنا الآن سأتناول جانباً قصيراً مما تتسنى - بحسب ما يبدو لي - مطالعته وتقصّيه ودراسته في قلب هذه الحركة. فليلتفت الشباب إلى ذلك، حيث يجب أخذ هذه الحقائق بنظر الاعتبار سيّما بواسطة الشباب، لأن الأمور بيدكم والمستقبل لكم.

في الحادي والثلاثين من ديسمبر / كانون الأول عام 1977 دخل الرئيس الأمريكي طهران، وألقى كلمة غرّاء! عمد فيها، مغالياً وكاذباً، إلى الإشادة بمحمد رضا (بهلوي)، وقال مما قال في كلمته الغرّاء بأنّ «إيران جزيرة مستقرة»، ولكن ماذا يعني ذلك؟ يعني أن أمريكا كانت فارغة البال من إيران التابعة ومسؤوليها العملاء، لأنها جزيرة مستقرة، والكلام هذا يعود إلى الحادي والثلاثين من ديسمبر / كانون الأول، ولكن لم تمض عشرة أيام حتى انطلقت تلك الحركة في قم، وانتفض أهاليها في التاسع من يناير / كانون الثاني على ذلك النظام الجائر العميل الفاسد، ونزلوا إلى الساحة بأرواحهم وأجسادهم.

التفتوا إلى أنّ هذا هو جهاز حسابات أمريكا والغرب. علماً بأنّ الغربيين والأمريكيين أنفسهم يتباهون بقدرة حساباتهم وتقديراتهم وتحليلاتهم ورؤاهم المستقبلية. وهنالك حفنة من المتغربين والمتأمركين في الداخل أيضاً يتبجّحون بقوة حسابات أمريكا وتقديراتها قائلين: «هكذا تحدث الأمريكيون، وهكذا صرّح العالم الأمريكي الفلاني والمركز الدراسي الأمريكي الفلاني، وهكذا عرفوا العالم، وهكذا رسموا المستقبل». بيد أنّ قوة الحسابات والتقديرات الأمريكية قد تجلّت في قولهم: «هنا جريرة مستقرة»، وبعد أقلّ من عشرة أيام عرفنا ما هو المراد من الجزيرة المستقرة، حيث اندلعت انتفاضة قم، ثم تلتها انتفاضة تبريز، ثم انبثقت تلك الحركة العظيمة، ثم ظهر ذلك الإعصار الذي أسفر عن (انتصار) الثورة الإسلامية وسقوط النظام الطاغوتي البهلوي التابع العميل.

هذه هي قوة حساباتهم وتقديراتهم التي مازالت تجري على نفس ذلك المجرى حتى يومنا هذا. قبل فترة وجيزة صرّح أحد المسؤولين الأمريكيين(1) في جمع شرذمة من الإرهابيين والأوغاد قائلاً بأنه يأمل أو يتمنّى أن يحتفل بعيد كرسمس لعام 2019 في طهران، وهو العيد الذي مضى قبل بضعة أيام.. هذه هي قوة حساباتهم، وهؤلاء هم أنفسهم. فإنّ حساباتهم وتقديراتهم هي التي اقتضت أن يحملوا مثل هذا الأمل، كما هو حال أمل صدّام حسين الذي كان يريد الدخول إلى طهران في غضون أسبوع واحد، وكما هو حال أمل زمرة المنافقين، عميلتهم الأخرى، التي كانت تروم الوصول من كرمانشاه إلى طهران مباشرة خلال ثلاثة أيام.. هذه هي حساباتهم وهذه قوة حسابات العدوّ وتقديراته! إنّ بعض المسؤولين الأمريكيين يتظاهرون بالجنون، وأنا بالطبع أرفض ذلك، ولكنهم حقاً حمقى من الدرجة الأولى!

لقد دلّت انتفاضة أهالي قم على اصطفاف بين جهازين للحساب والتقدير، وبين نظامين معرفيّين، وبين نموذجين تحليليين: الأول هو نظام الديمقراطية الليبرالية الغربية الزائفة والمتزلزلة، والآخر هو النظام التوحيدي الإسلامي. وهنالك تقابلٌ بين هذين النظامين في التقدير والتقويم والحساب: النظام التقديري الأمريكي الذي ينظر إلى إيران بتلك النظرة وبتلك الحسابات الأولى، حيث فرض الأمريكيون الحصار على إيران في مجلس الشيوخ الأمريكي منذ الأشهر الأولى من انتصار الثورة، وراحوا يتشدّقون بأن الثورة سوف تسقط في غضون خمسة إلى ستة أشهر.. هذه هي حساباتهم وتقديراتهم. وهذه هي حسابات الثورة الإسلامية وتقديراتها أيضاً، حيث قال الإمام (الخميني) العظيم: «إني أسمع تهشّم عظام الماركسية»(2)، وبعد عام أو عامين، سمع العالم برمّته تهشّم هذه العظام.. هذه هي الحقيقة. والغرب يواجه مثل هذه الظاهرة؛ ألا وهي ظاهرة الثورة الإسلامية. فمن جانب وابلٌ من الأدوات المادية التي تبهر الأعين، عسكرية وسياسية ومالية وغيرها، ومن جانب آخر قوة معرفية وحضارية حديثة الظهور، تتسم بالحيوية والمثابرة، وتحمل رؤية مستقبلية، وتعرف ماذا تريد فعله وما الذي ينبغي لها إنجازه وأيّ مقصد يجب عليها بلوغه.. هذان النظامان قد وقفا وجهاً لوجه.

علماً بأنّ عِداء النظام الاستكباري الغربي الأمريكي لهذه الظاهرة الحديثة النامية هو قضية طبيعية، فلا يستغرب (البعض) من ذلك. وباعتقادي يتظاهر البعض بالجهل - ولعل القضية شيء آخر - (حين يقول:) «لماذا تكلّمتَ بهذا الكلام الذي أدّى إلى أن تعاديك أمريكا»، زاعمين بأن عِداء أمريكا منبثق من قول الإمام أو قول المسؤول الفلاني الذي تهجّم فيه عليها.. ليست القضية على هذا النحو، وإنما هي من نمط آخر، أشدّ عمقاً من هذه المسائل. أربعون عاماً والقوة الشابّة هذه تواصل دربها، وتتنامى وتتكامل وتتجذّر وتقوى يوماً بعد آخر، وهذا ما هو ماثلٌ أمام أنظارهم. وبظهور هذه القوة المعنوية الحديثة والمثابرة والمتوثّبة، وهذه الظاهرة المذهلة والمعنوية التي لم يكن العالم على معرفة بها، تصدّعت قوة الاستكبار الظاهرية، وبات الصدع هذا يزداد عمقاً وغوراً على مدى هذه الأعوام الأربعين. فإنّ أغنى دول العالم تشهد اليوم أعلى نسبة من الديون والأزمات.. يا تُرى هل هذا مزاح؟ هذه هي نفس تلك الهزة التي ينبغي لشبابنا التركيز عليها. فالقضية ليست اصطفافاً بين هذا المسؤول وذاك في الكلام، وإنما هي الهوية والحركة والمبدأ والمستقبل.

علماً بأنّهم تلقّوا ضربتهم، وذلك لأنهم فقدوا إيران، هذه اللقمة السائغة، في الدرجة الأولى. فإن إيران ليست بلداً نائياً يقبع في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، وإنما هي تقف على قمة الموقع الاستراتيجي الجغرافي في العالم، وتشكّل مركزاً هاماً جداً، لا تبلغ أهميتها أية بقعة جغرافية في منطقة غرب آسيا. وقلّما توجد أرض تتوافر فيها ثروات مادية وطاقات مختلفة بمقدار ما هو متوّفر في إيران، وهذا ما هم يعترفون به. قبل بضعة أيام صرّحت مؤسسة غربية، في سبيل الإساءة إلى هذا الحقير، وأقرّت بأنّ إيران تعدّ خامس دولة غنية في العالم، وقولها صائب، فإنّ إيران بالفعل كذلك، وإنّ طاقاتنا ومواهبنا خارقة. وقد فقدوا هذه اللقمة السائغة، فثارت ثائرتهم في الدرجة الأولى لهذه القضية، والوضع هذا مازال مستمراً بالطبع.

ولكنّ القضيّة الرئيسية هي قضية التقابل بين الحركتين وبين الحق والباطل: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾(3)؛ الآية التي تلاها القارئ الموقّر الآن. فالحقّ حينما يأتي، يهتزّ الباطل بطبيعة الحال. هؤلاء هم مستكبرون ومستعمرون، يتنفّسون ويقتاتون على دماء الشعوب، وإذا بقوة ظهرت في العالم تناهض هذه الظاهرة الجائرة، ولا تنصاع لهم، وتسعى لإيصال صوتها إلى مسامع العالم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وقد نجحت حتى اليوم.. نحن قد حقّقنا حتى اللحظة نجاحاً على مرّ هذه السنوات الأربعين. ولكم أن تنظروا في أيّ البلدان وبين أيّ الشعوب ترتفع صرخة «الموت لأمريكا»؟ هذا ما لم يسبق له مثيل.

إنّ حركة الشعب الإيراني العظيمة تُرعب القوى المادية الظالمة المتغطرسة، وتُخيف الشركات الدولية المصّاصة لدماء الشعوب، إذ يجدون أنفسهم قد وصلوا إلى نهاية المطاف. أجل، الثغرات المعنوية في الحضارات لا تترك أثرها سريعاً. فقد أطلق الغرب حركة صناعية، وحاز على العلم والثروة، وأمسك بزمام العالم، وأثار الضجيج والصخب، بيد أن تلك الثغرة الرئيسية والأساسية، وهي الثغرة المعنوية، أخذت تنخر جسده كالإرضة من الداخل. ولكنها لا تترك أثرها سريعاً، وأحياناً ما يظهر الأثر هذا بعد قرون، واليوم بدأ يظهر ذلك الأثر. ولكم أن تنظروا إلى أمريكا وإلى أوروبا وإلى البلدان التابعة لهما، كلٌّ بحسبه. وإذا في وسط مثل هذا العالم، أخذ الإسلام ينمو، وباتت سيادة الشعب الإسلامية والحركة الإسلامية والحضارة الإسلامية تتنامى يوماً بعد يوم عبر توظيف الإمكانيات العالمية الراهنة والأدوات المتوافرة في العالم، وهذا ما يُخيفهم ويُرعبهم، فمن الطبيعي أن ينصبون العِداء.

توجد هنا نقطتان: الأولى هي نفس قضية السبب في العِداء. ولا ينبغي النظر إلى هذه القضية بنظرة سطحية متساهلة.. السبب في العِداء هو طبيعة هذه الحركة العظيمة وحقيقتها.. السبب في العِداء هو شجاعة الشعب الإيراني وتضحيته ووفائه.. السبب في العِداء هو التزام الجمهورية الإسلامية بمبادئ الثورة الرئيسية؛ الالتزام الذي مازال مستمراً بالكامل حتى يومنا هذا.. السبب في العِداء هو أنّ الجمهورية الإسلامية بدأت تتبلور على أنها حضارة في طور النموّ والازدهار، ولو بلغت بتوفيق الله وعونه منشودها، ستستأصل شأفة الظلم والاستكبار والاستعمار للدول الغربية.. هذه هي أسباب العِداء والخِصام.

علماً بأنّ الشعوب لا تعادي إيران حتى الغربية منها. فإنّ (الأعداء) قد يروّجون في الإعلام لرهاب الإسلام ورهاب إيران ورهاب التشيّع، ولكن حيثما تتبيّن الحقيقة للناس، تجدهم لا يحملون عِداءً تجاه الجمهورية الإسلامية، بل ويحبّذون مثل هذه الحركة وينشدّون إليها ويدافعون عنها. وأما القوى المعادية والظالمة وفراعنة العالم (فإنهم يقفون أمامها)، كما وقف فرعون أمام موسى معادياً رغم علمه بأحقية موسى - وهذا ما يصرّح القرآن به -، بيد أن الله سبحانه وتعالى يخاطب موسى (وأخاه) قائلاً: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ﴾(4)، فاذهبا وانطلقا بحركتكم وواصلا مسيرتكم. أجل، فرعون متربّع على كرسي قدرته وسلطته، وهذا أمرٌ مُخيف ومُرعب، ولكن اِذهبا وانهضا بمهمّتكم، ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ﴾، والخطاب هذا بذاته مُوجَّه اليوم إلى الشعب الإيراني.. إذن هذا هو سبب العِداء.

والنقطة الثانية: ما هي ثمرة هذا العِداء؟ ثمرة هذا العِداء هي أنه من كان الله معه كان النصر حليفه، لأنّ القدرة لله تقدّست أسماؤه. فلو كنّا مع الله وفي سبيل الله، سيكون النصر محتوماً مئة بالمئة، وهذا ما لا ريب يعتريه. نعم، كانت لنا تقصيراتنا في بعض المواطن، ولم نحقّق النصر، وهذا ناتج عن تقصيرنا وعن سوء أدائنا. ولكن حيثما ما عملنا وانطلقنا بشكل صحيح - المسؤلون بطريقة والناس بطريقة أخرى - وكانت حركتنا صائبة، سينصرنا الله سبحانه وتعالى في تلك المواطن لا محالة، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾(5)، وهذا ما لا شكّ فيه.

لقد مضى (على الثورة) أربعون عاماً، وهذه الفترة ليست بفترة طويلة، فإنّ سنّ الأربعين في عمر الحضارات يعتبر بداية البلوغ والحركة الفكرية. سنّ الأربعين لا يعبّر عن فترة الشيخوخة، وإنما يعبّر عن فترة الازدهار التي ستتجلى بإذن الله، ولقد بدأت تتوافر أرضيات هذا الازدهار كما هو مشهود. فالإيمان الديني اليوم ولله الحمد في بلدنا جيد، والعزم الراسخ لدى أبناء شعبنا جيد، والحضور والتأهّب بين الناس جيّد، وأعداد الشباب المؤمن المتسم بالعزيمة الراسخة ليست بالقليلة بل كثيرة - وأنا على معرفة بهم، علماً بأني لا أعرفهم جميعاً، ولكن هنالك الآلاف من الشباب في أطراف البلد وأكنافه عاكفون على القيام بأعمال فكرية عميقة - شبابٌ عالم، متصف بالعزيمة الراسخة، عاكف على البناء والإنتاج والابتكار والإبداع في جميع أرجاء البلد.. هؤلاء هم بُناة المستقبل، يتمتعون بإيمان جيّد قويّ، وتوكّل عالٍ، وثقة بالله كبيرة، وتطلّع إلى المستقبل مشرقٍ، وبصيرة ثاقبة، وهم يعيشون بين الناس وأعدادهم ليست بالقليلة. وما قولي آلاف الأشخاص إلا تعبيرٌ عن دائرة صلتي ومعرفتي، وإلا فإنّ عددهم يبلغ عشرات الأضعاف. إنّ شبابنا على أهبة الاستعداد والجهوزية. وأساس كلّ هذا هو لطف الله وفيضه، فلو لم تكن إرادة الله قد تعلّقت بذلك لما تيسّر هذا الأمر ولما تهيّأت هذه الأسباب.

في برهة زمنية - ولا أتذكّر التفاصيل للأسف - استنتج الإمام (الخميني) العظيم من تيسير أمرٍ بأنّ الله قد تعلّقت إرادته بذلك: إذا أراد الله شيئاً هيّأ أسبابه. فإن تهيّأت الأسباب، يتبيّن أنّ الله جلّ ذكره هو الذي أراد ذلك. وأسباب هذا الأمر هي إقامة الثورة وتشكيل الجمهورية الإسلامية وتأسيس النظام الإسلامي، وهي المقدمة والتمهيد لإقامة تلك الحضارة الإسلامية المتناغمة مع هذا الزمان وهذا القرن.. هذه هي الأسباب التي هيّأها الله سبحانه وتعالي في سبيل بلوغها وسوف نبلغها بإذن الله.

أودّ (اليوم) أن أوجّه خطابين: خطاب إلى المسؤولين ورجال الحكومة وأمثالهم، وخطاب إلى أبناء شعبنا الأعزاء.

أقول لرجال الحكومة أولاً: اعرفوا قدر مكانتكم، فإنّ النهوض بالمسؤولية الفلانية من نِعَم الله الكبرى، وإنّ مقدرة المرء على تقبّل مسؤولية والعمل لمثل هذه الأهداف ولمثل هذا الشعب ولمثل هذا البلد لهي من أعظم نِعَم الله، فليعرفوا قدر هذه النعمة وليكونوا لها شاكرين. وثانياً: ليلتزموا بلوازم هذه النعمة العظيمة، وليحذروا من ألّا تكون لهم ميولهم نحو السلوك الخاطئ والنزعة الأرستقراطية والإسراف والأمور الرائجة بين الطواغيت.. هذه هي وظيفة رجال حكومتنا. فإنّ السبيل هو سبيل الإسلام والحكومة الإسلامية.. نحن لا نستطيع أن نعمل بمثل ما كان يعمل أمير المؤمنين، ولكن يمكننا أن نعتبره مسيراً يتسنى لنا الانطلاق باتجاهه، فلابد لنا من الحركة في ظلّ ذلك المسير.

ووظيفة المسؤولين الأخرى هي الشجاعة والعقلانية. فليتّصفوا بالشجاعة، ولا يتراجعوا أمام انتهار هذا وذاك، وليقوموا بما هو صائب وما ينبغي فعله حيال تبجّحات وترّهات الساسة الأمريكيين والأوروبيين وغيرهم. إذ تلاحظون بأنهم يتكلمون كلاماً لا أساس له، ويتحدثون أحياناً كما يتحدث المهرّجين حقاً، حيث يقول المسؤول الأمريكي - يريد بذلك امتهاننا في العالم مثلاً - بأنّ على إيران أن تتعلّم حقوق الإنسان من السعودية! ما الذي ينبغي قوله لهذا الإنسان؟ وهل بالإمكان وصفه بكلام آخر وعنوان آخر غير المهرّج؟ أمثال هؤلاء لا قيمة لتهديدهم ولا لوعدهم ولا لقولهم ولا لتوقيعهم، ولا ينبغي الاعتناء بهم. ولابد من السير في الطريق الصحيح بشجاعة وعقلانية، لا بالأحاسيس والعواطف، إذ لا تتيسّر إدارة البلد بمجرد العواطف. فالعواطف ضرورية للغاية ولكن إلى جانب مساندتها بالعقلانية. فلابد لنا من اختيار الطريق بالعقلانية، والانطلاق فيه بالمحفزات والعواطف.

وهنالك وظيفة أخرى يجب على المسؤولين الالتفات إليها، وهي تثمين الطاقات الذاتية والداخلية في البلد ومعرفتها. فإن الكثير من الطاقات تبقى عاطلة إن لم نتعرّف عليها، وهذا ما حدث بالفعل وللأسف، حيث جهلنا الكثير من الطاقات، ومنها طاقات نفس هؤلاء الشبّان الصالحين. فإنّ هنالك عُقَدٌ في عمل بعض المسؤولين في جانب من التشكيلات الحكومية الهائلة التي يستطيع هؤلاء الشباب فتحها، سواء بأنامل أفكارهم الشبابية الوقّادة أو بأنامل إنجازاتهم العملية. فليعرفوا قدر الشباب وليرجعوا إليهم وليستفيدوا من آرائهم. فقد حقّقنا النجاح في أغلب المواطن التي استفدنا فيها من آرائهم. فلابد من معرفة قدر الشباب وتثمين طموحاتهم كذلك. فإنّ الشابّ طَموح، ولا ضير في ذلك. لأن نفس هذه الطموحات هي التي تسيّر الشعب إلى الأمام وتصدّه عن التوقّف. كما ولا ينبغي الخوف من ضجيج الغربيين وصخبهم.

وليولوا اهتماماً خاصاً بقضية معاش الناس ومعاش الطبقات الضعيفة، فإنّ هذا يعدّ اليوم أهم عمل ويشكّل الأولوية الأولى، لأنّ العدوّ قد ركّز جهده على ذلك. وعلى هذا تعتبر معالجة المشاكل المعيشية، التي تعاني منها الطبقات الضعيفة، من أساسيات وأمهات عمل المسؤولين على البلد ولاسيما المسؤولين الحكوميين. قد تكون الموارد الداخلية قليلة، غير أن الإنسان يشهد في داخل البلد أشخاصاً وتياراتٍ يلتهمون هذه الموارد ظلماً. فإنّ حالات الدلالة والوساطة والاستئثار المتفشية في المسائل المادية وفي التجارة وغيرها تحول دون تقدّم البلاد. نحن دوماً ما نؤكّد على الإنتاج المحلي، ولكنّ الدلّال الفلاني المستورد، الذي يرى ذلك لا ينسجم ومصلحته، يسلك مختلف الطرق لعرقلة هذا المسير، ولهذا كما نرى لا يُؤتي (الإنتاج المحلي) ثماره. فإنّ متابعة معاش الناس لا تتلخّص في توزيع الأموال، بل يعتبر النظر إلى هذه المجالات الضارّة والخطيرة والتصدّي لها من المسائل الهامة أيضاً. هذا ما نبّهنا المسؤولين وأكّدنا عليه في مجالس العمل مع ذكر الخصائص والتفاصيل أحياناً، ونعيد التأكيد عليه ثانية.. هذا هو خطابنا الموجّه إلى المسؤولين.

(وأما الخطاب الموجّهة إلى) الناس. أولاً يجب على أبناء شعبنا الأعزاء جميعاً أن يمدّوا يد العون للمسؤولين. فإن دار الحديث عن تعزيز الإنتاج المحلي والمنتوج الداخلي، يقع شطر هام منه على عاتق الناس. إذ بوسع المنتج للمنتوجات المحلية، والمستهلك للمنتوجات المحلية، والبائع وصاحب الدكّان الذي يبيع فيه المنتوجات المحلية؛ بوسع هؤلاء جميعاً أن يتركوا أثرهم. كما أنّ كيفية الإنتاج وطريقة التوزيع تعتبران من الأمور الهامة أيضاً. لقد أطلقنا على هذا العام عنوان «إنتاج البضاعة الإيرانية» وشدّدنا على (ضرورة الاهتمام) بالبضاعة الإيرانية، وها هو العام قد شارف على نهايته، فكم قد (عملنا) في هذا المجال؟ لا شك في أنّ هنالك أعمالٌ أُنجزت ولكن كم قد تقدّمنا إلى الأمام؟ يجب علينا أن نتقدّم في هذه المجالات. وبمقدور الناس أن يساهموا في هذا الشأن وأن يتعاونوا في إنجاز أعمال الخير.

ومن الأمور التي يستطيع الناس القيام بها على أتم وجه في خدمة هذا البلد، هي الحضور في ساحات الثورة. ومن الإنجازات الأخرى التي بمقدور الناس إنجازها هي الوقوف أمام الإشاعات التي يبثّها الأعداء. فإنّ واحدة من أساليب العدوّ ودسائسه الفاعلة في الوقت الراهن هي بثّ الإشاعات التي تُربك الناس، وتثير الاختلاف فيما بينهم، وتسوقهم إلى توجيه التُهم لبعضهم الآخر، وتقوم بتأليبهم ضدّ بعض، وهذا ما لا يتحقق بتوفيق الله، سوى أن هذا هو مبتغى العدوّ، فعلى الناس أن يتنبّهوا وأن يكونوا على وعي ويقظة.

يدعون الناس بكلّ صلافة إلى مواجهة الثورة والنظام.. هؤلاء الناس الذين يستند النظام إليهم. ولولا دعمهم ومساندتهم للنظام، لما أولى (الأعداء) اهتماماً بالغاً بهذا الأمر. إنّهم وبكلّ وقاحة يحثّون نفس هؤلاء الناس ويشجّعونهم ويحرّضونهم على الوقوف في وجه النظام. فعلى الناس أن يصمدوا أمام هذا الإعلام، وأن يهبّوا للعمل ضدّ هذا الإعلام. واليوم حيث الشباب ناشطون في الفضاء المجازي، بوسع هذا الفضاء أن يكون وسيلة لأن يُلقم العدوّ حجراً.

وأما حول العقوبات.. العقوبات تفرض بعض الضغوط على أي شعب وأي بلد. والعقوبات التي فرضوها على الشعب الإيراني، كما صرّح الأمريكيون والفرح يغمرهم: «لم يسبق لها مثيل في التأريخ»! أجل، لم يسبق لها مثيل في التأريخ، بيد أنّ الهزيمة التي ستلحق بهم في هذا المجال أيضاً سوف لا يسبق لها مثيل في التأريخ بإذن الله. وبمقدور الشعب والحكومة والمسؤولين جميعاً أن يقوموا بما من شأنه إنهاء هذه العقوبات لصالح البلد بالكامل. كما كان الحظر قد فُرض علينا خلال الحرب (المفروضة) أيضاً، بحيث كانوا لا يبيعوننا حتى الأسلحة الفردية وحتى الأسلاك الشائكة كما ذكرنا ذات مرة(6)، إلّا أنّ نفس هذا الحرمان قد أدى إلى توظيف المواهب الذاتية والوصول إلى ما نحن عليه اليوم في الجانب الدفاعي، حيث تبوّأنا الرتبة الأولى في المنطقة وأحرزنا قصب السبق عليها بتوفيق الله في هذا الشأن، وذلك بفضل العقوبات، وإلّا لو كنّا منذ اليوم الأول نشتري كلّ احتياجاتنا، وكانوا يبيعونا إياها في قبال ما يتقاضوه من أموالنا، لما فكّرنا في أن نصنع بأنفسنا ولما وصلنا إلى هذا المستوى.

والكلام ذاته يجري في جميع القضايا. حيث يخاطبني شبّاننا قائلين - وهذا ما أثبتوه (عملياً) وليس مجرّد ادّعاء - بأنه ما من وسيلة يحتاج البلد إليها، من قطع غيار وغيرها، لا نستطيع تصنيعها، وبوسعنا أن نصنع كلّ شيء، والحقّ معهم، فقد اختبرناهم في بعض المواطن ووجدناهم كما يقولون. نحن نمتلك مثل هذه الطاقة البشرية. يجب أن نصنع من الحظر وسيلة للازدهار وللوصول إلى قمة الإبداع والإنجاز. يجب علينا أن نستغني عن منتوجات غيرنا، وأن نجعل الآخرين يحتاجون إلى منتوجاتنا، وهذا أمرٌ يمكن تحقيقه.

نحن بتوفيق الله سنتخطى المشاكل الناجمة عن العقوبات، علماً بأنها تولّد بعض المشاكل، ونحن اليوم نعاني منها، ولكنها تؤثّر في بداية الأمر، ولو صمدت الحكومة وصمد الشعب، واتّسموا بالوعي واليقظة، وبذلوا الجهود والمساعي، وشحذوا هممهم، سنتجاوز هذه المرحلة منتصرين لا محالة. وكما حققنا النصر في الحرب المفروضة، وتجرّع صدّام الأمّرين ونزل إلى الدرك الأسفل (من الجحيم)، وغدت الجمهورية الإسلامية أكثر ازدهاراً وانتعاشاً، سيهوي أعداؤنا كذلك، أولئك الذين يعملون ضدّنا في أمريكا وأوروبا والغرب، إلى الدرك الأسفل (من النار)، وستبقى الجمهورية الإسلامية بإذن الله.

رحمة الله على الروح الطاهرة لإمامنا (الخميني) العظيم الذي فتح أمامنا هذا الطريق، فلا ننسى نصائحه ووصاياه. ورحمة الله على الأرواح الزاكيات لشهدائنا الأبرار الذين بذلوا مهجهم في هذا المسير. ورحمة الله على الذين جاهدوا في هذا السبيل حتى هذه اللحظة. ورحمة الله عليكم يا أهالي قم الأعزاء. أبلغوا سلامي إلى سائر الإخوة والأخوات من أهل قم.

والسلام عليکم و‌رحمة الله وبرکاته

 

الهوامش:

1 ـ جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمریکي.

2 ـ صحیفة الإمام الخمیني، ج 21 ، ص 222 .

3 ـ سورة سبأ، جزء من الآیة 49 .

4 ـ سورة طه، جزء من الآیة 46 .

5 ـ سورة الحج، جزء من الآیة 40 .

6 ـ کلمة سماحته في أمسیة مذکرات الدفاع المقدس بتاریخ 26/09/2018.