موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال لقائه جمعاً غفيراً من قادة أفواج قوات التعبئة بمناسبة اليوم الوطني لقوات تعبئة المستضعفين.


بسم الله الرحمن الرحیم (1)
الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیّدنا محمّد وآله الطاهرین، سیّما بقیّة الله في الأرضین، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعین.
قدمتم خير مقدم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، ونشرتم بأنفاسكم الدافئة وقلوبكم الطافحة بالمحبة والمودة وسيما بكلمات قادتنا الأحباء - السيد جعفري والسيد نقدي - العَبَق التعبويّ في أرجاء هذه الحسينية. وهذا عَبَقٌ لا بد من إدراكه واستشمامه، وهذه ظاهرةٌ ينبغي معرفة حقيقتها المذهلة والمباركة بشكل صحيح.كما وأبارك لكم جميعاً ذكرى يوم تأسيس التعبئة، راجياً الله سبحانه وتعالى أن يجعلكم أنتم الإخوة والأخوات فرداً فرداً وكل من ينضوي تحت قيادتكم، ممن يكون بقية الله الأعظم (أرواحنا فداه) راضياً عنهم وداعياً لهم، وأن يحشركم في الدنيا والآخرة مع هذه الأنوار المقدّسة بقلوبكم وأجسامكم وأرواحكم.
أود أن أغتنم هذه الفرصة لأطرح جملة من النقاط؛ النقطة الأولى هي أن ظاهرة التعبئة ظاهرةٌ إبداعية، ولا يعني ذلك أن قوى المقاومة الشعبية لم يكن لها وجود في البلدان والبقاع الأخرى، فلقد كان لها وجود وهذا ما نعلمه، بيد أن قوات المقاومة في شتى بلدان العالم شرقاً وغرباً، غالباً ما تختص بفترات القمع والكبت والكفاح، وبعد انقضاء فترة الكفاح - سواء عبر إمساك فصائل المقاومة نفسها بزمام السلطة أو إمساك غيرها بمساعدتهم - تنتهي قوى المقاومة وينقضي أمد هذا التنظيم الشعبي، وهذه هي الحالة السائدة في العالم، والمعروفة لدى كل من له اطلاع بفصائل المقاومة الشعبية في شتى بلدان أفريقيا وأوروبا وآسيا.
ففي فترة تسلط الفرنسيين على الجزائر مثلاً، تشكلت فصائل المقاومة الشعبية، ومارسوا كفاحاً مريراً لسنوات طوال لربما يبلغ ثمانية إلى عشرة أعوام، وتجشّموا عناءاً كثيراً، ولكن بعد أن تأسست الحكومة الثورية، تبدّدت هذه الفصائل، حيث تربّع البعض منهم على كرسيّ الحكم، وشكّل البعض الآخر حزباً، وبالتالي لم يبق شيء باسم فصائل المقاومة. أو في عهد الاحتلال الألماني لفرنسا مثلاً، تبلورت جماعات المقاومة من اليساريين واليمينيين والمعتدلين، وأخذت تمارس نضالها لفترات طويلة، ولكن بعد انهيار الاحتلال وتشكيل الحكومة، نفد تاريخ هذه الجماعات ولم يبق أثرٌ منها. وأشرت إلى أنهم إما كانوا يجلسون على سدّة الحكم - وهؤلاء بالطبع، حينما يصلون إلى السلطة يصابون بآفاتها، وهذا ما شاهدته بالعيان في بعض البلدان. فإن أولئك الذين جاهدوا جهاداً مريراً في الخنادق وعلى التراب والأرض لسنوات حتى الوصول إلى السلطة، أخذوا ينتهجون في فترة حكمهم نفس ما كان ينتهجه مثلاً ذلك القائد البرتغالي الذي كان حاكماً على هذا البلد، ويتبعون نفس الاُسلوب دون أي فارق، فقد كان الهدف من النضال هو الوصول إلى السلطة، وهذا ما شاهدته بنفسي في مواطن متعددة حيث تتبدل حقيقتهم -  أو أنه كان يصل غيرهم إلى السلطة، وهم مثلاً يشكّلون الأحزاب، كما هو حال بعض الأحزاب المتواجدة في هذه الدول التي كان نضالها بدافع الوصول إلى السلطة.
فإن الهدف الذي تتوخاه الأحزاب الغربية وبتبعها الأحزاب المتواجدة في كل العالم هو الإمساك بزمام السلطة، وهذا يعني أن الحزب يناضل بغية التربع على كرسي الحكم، ثم يشرع الحزب الآخر بالكفاح لانتزاع الحكم من يديه. وفي الحقيقة فإن الأحزاب التي يُطلق عليها اليوم عنوان الحزب في العالم، لا تشكّل الأرضية لمتابعة المفاهيم والمعارف السامية التي يؤمن بها نفس ذلك الحزب، نظير ما كان يتبادر إلى أذهاننا في أوائل الثورة من مفهوم الحزب، فإن هذا غير دارج في العالم المعاصر، وإنما الهدف هو أن تتشكل فئة - كنادي أو مجموعة - وتسعى للوصول إلى السلطة، وبعد تحقيق أهدافها تقتفي آثار نفس الحكومة السابقة دونما فارق.
إذن فإن فصائل المقاومة تؤول بعد الانتصارات إلى الزوال والاضمحلال والانقراض. وأما أن تبقى هذه الفصائل كالتيار الجاري والنبع الفيّاض بعد الانتصار أيضاً، وتزداد يوماً بعد آخر تألّقاً ووعياً، وتنزل إلى مختلف الساحات التي يحتاج البلد إليها بصورة تنظيمية، وتنمو وتتكامل من الناحية الكمية والنوعية، وتتوصل إلى مفاهيم جديدة، وتتمكن من أداء دورها في الصراعات التي تتولّد حديثاً، كما هو حال قواتنا التعبوية، فهذا ما لم يسبق له في العالم نظير ومثيل.
وهذا هو إبداع الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، حيث أسس التعبئة من صلب الشعب. فإنها ليست مؤسسة مفصولة عن الناس، وإنما هي متكونة من مختلف شرائح الشعب الذين ينتمون إلى هذه المنظومة في الجامعات والمزارع والأسواق والأجهزة المختلفة الحكومية وغير الحكومية. والتعبئة في الحقيقة تعتبر اصطفاءاً خاصاً من بين أبناء الشعب لتكون ممثلة عنه. وهذه هي ما أسسها الإمام (رضوان الله عليه)، فتنامت وتوسّعت يوماً بعد يوم، وظهرت بصورة بارزة عظيمة مذهلة. وإن الكثير من قادة الحرس الثوري الذين تسمعون أو تقرأون عنهم ما يثير الاستغراب سواء من الشهداء أو الأحياء، يدخلون في زمرة التعبويين الذين نزلوا إلى ساحات الدفاع المقدس في بادئ الأمر بهذه السمة، دون أن يكونوا موظفين، فتفتّحت مواهبهم، وتبدلوا إلى قادةٍ كبارٍ أمثال الشهيد باقري والشهيد كاظمي والشهيد بروجردي وغيرهم الكثير؛ هذا في ساحة الجهاد والمعركة. وكذلك الحال في ميدان العلم، فإن الكثير ممن حقق إنجازات كبيرة في ساحة العلم والتكنولوجيا، إما أن يكونوا منتمين إلى منظمة التعبئة، أو أنهم تعبويون في الحال الحاضر دون أن تُسجَّل أسماؤهم في قائمة منظمة التعبئة، حيث يعتبرون أنفسهم من قوات التعبئة، من أمثال شهداء الطاقة الذرية بما فيهم- رضائي نجاد وأحمدي روشن وشهرياري وعلي محمدي وغيرهم - الذين أدّوا دوراً في المسائل الفنية النووية الهامة، وقد شاهدناهم عن كثب، وفي الحقيقة فإن هؤلاء جميعاً يدخلون في عداد العناصر التعبوية. إن للتعبئة تعريفها المحدد: فالمراد منها هم أبناء الشعب الذين يتواجدون في وسط الساحة بأهداف إلهية سامية وبروح دؤوبة لا تعرف الكلل والملل وفي كل مكان يتطلب الأمر، وينزلون بكل قدراتهم وطاقاتهم إلى الميدان، ولا يهابون المخاطر التي تعترض الطريق؛ أي أنهم حملوا أرواحهم على أكفهم. وقولنا بأن «فلاناً قد حمل روحه على كفيه» سهلٌ في الكلام، ولكنه في العمل لا يتسم بهذه السهولة. والتعبوي هو ذلك الشخص الذي أعدّ نفسه لهذه المهمة العسيرة؛ ألا وهي- بذل النفس، بل وحتى بذل تلك الأمور التي قد تكون أعز من النفس-؛ هذا هو معنى التعبئة. وهذا هو من اختصاصات بلدنا ومن مختصات الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.
إن من سمات التعبئة وخصائصها هي التواجد الواسع الذي يجب الحفاظ عليه، في مختلف الساحات العسكرية والعلمية والفنية - من أمثال الشهيد آويني الذي كان تعبوياً، إلى غيره من الفنانين الملتزمين والموالين، سواء في عالم الفنون التشكيلية أو الشعر أو الأدب وما إلى ذلك - وكذا في الساحة التقنية، وأخيراً في المسائل الاقتصادية التي أوصيت رجال الحكومة في شأنها وقلت لهم بأن قوات التعبئة مستعدون للتواجد والمساهمة في ساحة الاقتصاد المقاوم. وعلى الإخوة الأعزاء بالطبع من قادة التعبئة والحرس الثوري أن يحذروا كلّ الحذر، فإن الأنشطة الاقتصادية من المزالق، فـ «إذا اشتدّ الوحل، زلّت الفِيَلة»(2)، فليكونوا مراقبين. وسوف أشير بعد ذلك إلى أن القضايا المالية والاقتصادية ونحوها هي واحدة من أحابيل العدو التي يجب فيها توخي الحيطة والحذر الشديد. فإن الإنسان مُعرَّضٌ للامتحان على الدوام، وهذا ما يجب عليكم أن تعرفوه، وأنتم تعرفون ذلك بالفعل، لأنه من بيّنات المعارف الأسلامية. أي أن المرء حتى إذا بلغ مرتبة بلعم بن باعورا - ذلك الرجل الذي يُستجابُ إذا دعا، ولا يُردُّ له طلب وسؤال من عند الله - فقد يزلّ ويهوى. وهناك طريقٌ مرتفع يصعد بكم إلى الأعلى، وفي جميع اللحظات والآنات والخطوات التي تقطعونها نحو الأعلى، توجد الهاوية تحت أقدامكم، وكلما خطوتم خطوة إلى الأعلى، كلما كانت الهاوية أشد وأقسى وأخطر، مما تؤدي إلى ضرورة المراقبة والحذر، وهذا ما سوف أشير إليه. إذن فإن من سمات قوات التعبئة هي مساحة تواجدهم التي تغطي جميع الساحات التي ذكرناها والتي لم نذكرها ويمكن للتعبويين التواجد فيها.
ثم إن التواجد التعبوي يعني حضور الناس، وأينما تواجدت قوات التعبئة، فذلك يعني أن الشعب الإيراني حاضر ومتواجد في تلك الساحة، وكما ذكرت فإن التعبئة تعدّ نموذجاً ومثالاً ومَعلماً من معالم الشعب الإيراني. ومن الواضح أن التواجد هذا هو في سبيل الدفاع عن المبادئ والقيم والهوية الثورية والوطنية ومساعدة هذا الشعب وهذا البلد لبلوغ تلك المراحل التي تليق به، والتي قد رسمها ببركة الثورة الإسلامية، وراح يحثّ الخطى باتجاهها. فإن هذا هو المراد من تواجد قوات التعبئة، حيث يتعيّن عليهم الدفاع.
وحينما نقول يتعيّن عليهم الدفاع، يتبادر سؤال إلى الأذهان، وهو أنه: هل هناك هجومٌ حتى يجب الدفاع؟ وهل ثمة عدوٌ يتعيّن الدفاع لمواجهته؟ هذا سؤال ينقدح في الذهن. وأنتم تعلمون الجواب بوضوح، فإن هناك عدوٌ غدّار محتال مقتدر مخادع شيطاني النزعة يواجه هذه الحركة، ولكن من هو هذا العدوّ؟ إنه الاستكبار.
علماً بأن الذي يجسّد الاستكبار اليوم هو أمريكا، وبالأمس كانت بريطانيا. فإن العدوّ هذا لم يعد عاطلاً عن العمل، وإنما هو في شغل شاغل. وهذا التحليل الذي ورد في مستهلّ حديث قائدنا العزيز جعفري، تحليل صائب تماماً. فإن الصراع العالميّ اليوم قائمٌ بين الحركة الاستكبارية وبين الحركة المبدئية والاستقلال الوطني والماهوي المتمثل بالثورة الإسلامية أو الجمهورية الإسلامية؛ على هذا يدور الصراع اليوم في العالم، ولا يعني ذلك عدم وجود أيّ صراع آخر، فإن الكلاب بالتالي تتكالب على الجيفة، وتتناحر فيما بينها، بيد أن المعركة الأساسية هي هذه، هذا هو الخط الأصلي و الجبهة الأساسية. ولذلك فالعدو موجود وحساس.
وقد ذكرت بأن أمريكا هي التي تجسِّد الاستكبار في هذا اليوم، غير أن هذا يرتبط بالجهاز السياسي للاستكبار، والاستكبار لا يختص بالجهاز السياسي، بل قد يكون الجهاز المالي أكبر أهمية وأشد تأثيراً، كالشركات الضخمة والرأسماليين الكبار في العالم الذين هم في الأغلب من الصهاينة، وهذه كلها تدخل في عِداد منظومة الاستكبار، وهم يمارسون أعمالهم باستمرار، ويمثلون في الحقيقة المال والقوة. وما قيل من مثلّث المال والقوة والتزوير صحيح أيضاً. وكنا في الماضي إذا ما ذكرنا هذا المثلث، نقصد بالتزوير، التزوير الديني. أي العناصر التي تظهر بمظهر ديني وتُعبّد الطريق وتمهّد السبيل لدخول جيش المال والقوة. إلا أن مرادنا من التزوير في الوقت الراهن لا يتلخص في التزوير الديني، وإنما يشمل التزوير السياسي أيضاً. فإن الأجهزة السياسية والدبلوماسية باتت تتابع عملية التزوير ووضع الدسائس والمؤامرات والبرامج والمخططات بكل شدة وقوة، حيث يَظهرون بوجه بشوش، ويتقدمون بأذرع مفتوحة، وفي الوقت ذاته وكما شاهدتم في بعض الأفلام، يحتظنون الطرف الآخر، ويغرزون خنجرهم في صدره. ومن هنا فإن التزوير اليوم يشمل التزوير السياسي والدبلوماسي ونحو ذلك أيضاً، مما يسترعي التفاتنا وتنبّهنا.
وهذا هو ضربٌ من ضروب العِداء الذي قد يظهر بأشكال مختلفة. فلا بد لنا من التنبّه إلى ذلك؛ أي تكرار هذا الأمر مع أنفسنا والتدرب عليه بشكل متواصل، لئلا يغيب عن ذاكرتنا ولكي نعرف ما الذي يجب علينا فعله. وعلينا جميعاً - بما فينا ساسة ومدراء البلاد، وأنتم التعبويون الأعزاء والآخرون من أهل النشاط والفكر والعمل - أن نقوم بإيداع هذه القضية في أذهاننا.
إن من أنواع العِداء، هو العِداء الصلب الذي يتمثل في قذف القنابل وإطلاق الرصاص وإرسال الإرهابيين. وثمة نوع آخر للعِداء وهو العِداء الناعم، وقد أشرت قبل فترة إلى قضية النفوذ والتغلغل، وهي قضية بالغة الأهمية. علماً بأن البعض قد أبدى ردود فعل حيال طرح هذه القضية، قائلين بأن النفوذ قد أصبح مسألة فئوية، وباتوا يستغلونها استغلالاً فئوياً، وأنا لا شأن لي بهذا الكلام، فليرتدعوا عن الاستغلال الفئوي، وليكفّوا عن البحوث التي لا طائل من ورائها حول هذه القضية، وليتجنّبوا طرح عنوان النفوذ فارغاً عن المحتوى المناسب له، ولا شأن لنا بهذه الأمور، ولكن مهما يقال، ومهما يتم من إنجاز أعمالٍ هامة، لا ينبغي التغافل عن أساس هذه الحقيقة، وهي أن العدو في صدد النفوذ والاختراق. وسوف أتناول قليلاً شرح حقيقة النفوذ وطريقته، لئلا نغفل عن أساس القضية. فلا تتهم التيارات بعضها البعض، بأن يخاطب كلٌّ منهما الآخر أنك كنت تقصد من كلامك هذا الشيء، فليكن المقصود كائناً ما كان، ولكن لا ينبغي تناسي هذه الحقيقة التي بات العدوّ يخطط لها.
النفوذ على نمطين: نفوذ جزئي وفردي، ونفوذ تياري. فللنفوذ الجزئي نماذج كثيرة، وهو يعني أن يكون لكم على سبيل المثال مركزاً، أو أن تكون لكم مسؤولية، فيدسّون شخصاً بوجه مقنَّع قد تم تجميله وتزويقه في داخل مجموعتكم، فتتصوّرون أنه صديقكم، والحال أنه ليس بصديق، ليتمكّن عبر ذلك من تحقيق أهدافه، فتارة يقوم بالتجسس واستلام الأخبار وإرسالها، وهو أقل أنواع النفوذ الفردي أهمية، وتارة يقوم بما هو أهم من التجسس، وهو التغيير في قراراتكم. فإنك لو كنت مديراً، ومسؤولاً، ومن أصحاب اتخاذ القرار، وبإمكانك أن تقطع خطوة شاسعة أو مؤثرة، وكانت هذه الخطوة بحيث لو رُفعت بهذه الطريقة لجرت لصالح العدو، فإنه يتدخل في الموضوع ويعمل ما من شأنه أن تخطوَ هذه الخطوة بهذه الطريقة، وهذا يعني اتخاذ القرار. ولهذا النمط من النفوذ تواجد في كافة الأجهزة، ولا يختص بالأجهزة السياسية، بل له وجوده على الدوام حتى في الأجهزة العُلمائية والدينية وأمثالهما أيضاً.
نقل لي المرحوم السيد حسن تهامي، وهو أحد كبار العلماء في بلدنا ومن سكان مدينة بيرجند، حيث هاجر إلى هذه المدينة وأقام فيها، وكان عالماً كبيراً، ولو كان قد بقي في قم أو النجف، لأصبح من مراجع التقليد بالتأكيد، حيث كان غزيراً في علمه. نقل لي قائلاً: حينما اشتعلت نيران الحرب بين العراقيين وبين الإنجليز في سنة 1918، أي قبل مئة عامٍ تقريباً، كان لأحد المراجع آنذاك خادم موسوم بالخير والصلاح، وكان يجالس طلبة العلوم الدينية ويحادثهم، وكان صاحباً وصديقاً لهم جميعا، والكل تعرفه، وقد ذكر اسمه ولكن لم يبق في بالي. ثم تابع حديثه قائلاً: بعد أن انتصر الإنجليز، واحتلوا العراق، وكانت آخر مدينة دخلوا إليها هي النجف، وصل الخبر إلى الطلبة بأن هذا الخادم هو ضابط بريطاني! يقول: لكني لم أصدّق، وقلت مستغرباً: أفهل يمكن ذلك؟ وذات يوم كنت أتمشى في سوق الحويش - وهو سوق معروف في النجف - وإذا بي أرى حوالي عشرة من الضباط والعسكريين البريطانيين يتقدمون على فرسانهم - حيث كانوا يومذاك يترددون على الفرس - وكان في مقدمتهم ضابط، فوقفت على جانب الطريق ليعبر هؤلاء الضباط، ولكنهم حينما وصلوا إلى جانبي، رأيت ذلك الضابط الذي يسير في مقدمتهم، خاطبني من على فرسه قائلاً: يا سيد حسن، كيف حالك! فأمعنتُ ببصري إليه، ووجدته نفس ذلك الرجل الذي كان خادماً للمرجع الفلاني، وكان يعيش فيما بيننا لسنوات طوال. هكذا قد يتم النفوذ الفردي، حيث يتغلغلون إلى دار الشخص أو إلى مؤسسته وجهازه. وأما مثل هذا التغلغل في الأجهزة السياسية، فحدّث عنه ولا حرج، وقد تكون هذه الظاهرة متواجدة في الوقت الراهن أيضاً، وهي ظاهرة خطيرة.
بيد أن الأخطر من ذلك هو النفوذ التياري. وأعني به تأسيس شبكة في قلب الشعب عبر الأموال، وهنا يتضح دور الأموال ودور الشؤون الاقتصادية. وتأسيس الشبكة يتم في الأغلب عبر وسيلتين: الأولى المال، والثانية المغريات الجنسية. حيث يستقطبون الأشخاص، ويجتمعون مع بعض، ويحددون لهم هدفاً مفتعلاً مزيّفاً، ثم يسوقون الأفراد المؤثرين الذين يتمكنون من ترك التأثير على المجتمع صوب الاتجاه المنشود لديهم، ولكن ما هو ذلك الاتجاه المنشود؟ إنه عبارة عن تغيير المعتقدات والـمُثُل والرؤى ونمط الحياة. فيفعلوا ما من شأنه أن يفكر الشخص الذي راح ضحية النفوذ والتوغل ووقع متأثراً به كما يفكر ذلك الأمريكي؛ أي أن يجعلوك تنظر إلى القضية كما ينظر إليها الأمريكي - علماً بأن السياسي الأمريكي لا شأن له بالشعب الأمريكي – وأن تُشخّص الأمور كما يشخصها ذلك المسؤول الرفيع المستوى في الـ"سي آي إيه"، وتبتغي نفس ما يبتغيه في نهاية المطاف، فيكون بالتالي مطمئناً فارغ البال، إذ لا حاجة لأن يخاطر ويخوض الساحة بنفسه، لأنك أنت الذي تقوم بمهمته بدلاً عنه. إذن هذا هو الهدف من النفوذ المتمثل بالنفوذ التياري الشبكي الواسع، لا الجزئي. ولو تم هذا النفوذ حيال الأشخاص الذين لهم تأثيرهم في مصير البلد وسياسته ومستقبله، فانظروا ماذا سيحدث؟ سوف تتغيّر المبادئ والقيم والمطالب والمعتقدات.
وحينما تنظرون اليوم، تؤمنون في شأن القضية الفلسطينية بأن هناك ظلم سافرٌ يُرتَكب بحق أبناء هذا الشعب؛ هذا ما هو مشهود لديكم، وهذه هي نظرتكم. فإن ذلك الذي يُعتدى عليه في قعر داره - من الفلسطينيين العرب، سواء أكان مسلماً أم مسيحياً - يُدان في النظرة الأمريكية. وهو مظلوم في نظركم، فإن تمكّنوا من تغيير نظرتكم، ستنظرون إلى هذه القضية كما ينظرون هم إليها، وتقولون بأن إسرائيل تدافع عن هويتها! ألم يقل أوباما ذلك؟ ففي ذلك الوقت الذي كانوا يقذفون نيرانهم على أهالي غزة ليل نهار، ويهجمون على الناس العُزّل، ويدمّرون منازلهم وحياتهم ومزارعهم وأطفالهم ومدارسهم ومستشفياتهم، قال الرئيس الأمريكي بأن إسرائيل تدافع عن نفسها! هذه هي النظرة التي يحملونها. وتأسيس الشبكات وصناعة التيارات يؤدي إلى أن يحمل الشخص الذي يعيش في داخل إيران مثلاً أو في البلد الفلاني الآخر، نفس هذه النظرة. وهذا هو المراد من النفوذ، فانظروا كم له من الخطورة.
ولكن من هم الذين يتعرضون لهذا النفوذ؟ في الأغلب هم النخب والمؤثرون وصُنّاع ومتخذوا القرار، فإنهم هم الذين يصبحون عرضة للهجوم، ويحاول الأعداء التغلغل والتوغل في أوساطهم، ومن هنا فإن النفوذ لخطر كبير. وقول البعض بأن زيداً من الناس قد استغل مفردة النفوذ استغلالاً فئوياً لا يحدّ من أهمية المسألة. فإنه فعل ذلك أم لم يفعل - ولا يحق له بالطبع أن يستغل هذه القضية استغلالاً فئوياً -، لا يُغير واقع الأمر، ولا يمكن التغاضي عن هذا الواقع.
والذي يكمّل هذا النفوذ والتغلغل هو الممارسات الهامشية، فإن من الأمور التي تؤول إلى تكميل عملية النفوذ، هي تخطئة الذين يشدّدون على الأسس والرؤى الصائبة والقيم، وهذا ما يكمّل النفوذ والاختراق. ولا أريد القول بأن هؤلاء الذين يخطّئون التعبئة ويتهمونها بالتطرف والتشدد وما إلى ذلك، إنما يتعاملون مع المتغلغلين ويسايرونهم عن وعي ومعرفة، ولا أدّعي ذلك ولا توجد لدي معلومات في هذا المجال، ولكن عملهم يعتبر في الحقيقة عوناً ومساعدة، فإن هؤلاء الذين يعمدون في شتى القطاعات وبمختلف الأساليب إلى توجيه التهمة للتعبئة بالتشدد والتطرف وأمثال ذلك، إنما يعبّدون طريق النفوذ في حقيقة الأمر، وإن مشروع التوغل والتغلغل يتم تكميله بواسطتهم، لأن التعبئة تعتبر واحدة من السواتر الحصينة والرصينة، ولا ينبغي ضعضعة هذا الساتر وزعزعته.
وإنني أوصي وأنصح كل من هو قادر على الحديث والكلام من أصحاب المنابر، بأن لا يحاولوا إضعاف أسس البلاد وركائز الثورة الرئيسية، ولا يَسِموا البعض فور حديثهم عن المباني والأسس بالتشدد والتطرف والفئوية وما إلى ذلك؛ كلا، ليس الأمر كذلك. ولا يخطّئوا الأسس، ولا يوجّهوا تهمة التطرف، ولا ينكروا بيّنات الثورة. فإن للثورة بيّنات وواضحات ومحكمات، وهذه الأجزاء العشرون ونيّف من كلمات الإمام الخميني بين ظهرانيهم، ولقد كان الإمام مظهراً للثورة، ومتحدثاً باسم الثورة، ومبيّناً لحقائق الثورة. فلينظروا على أي المسائل كان يؤكد الإمام ويشدّد. وليتجنّبوا نكران بيّنات الثورة. وهذه هي تلك الأمور التي تتسم بالأهمية.
إنني أعتبر التعبئة في غاية الأهمية، وأراها ظاهرة تتسم ببالغ الأهمية والتأثير والبركة والمستقبل المشرق، وأعتقد أن ما يُبذَل من جهود وأعمال، وما يُوجّه إليها من إساءة وتشويه، لا تزلزل قوات التعبئة، وسوف تزداد تأصّلاً وتجذّراً إن شاء الله يوماً بعد آخر. فلقد كانت التعبئة ذات يوم غرسة دقيقة رقيقة، وأصبحت اليوم دوحة عظيمة، وسوف تكون بعد اليوم أصلب عوداً بفضل الله، ولكن يجب عليكم أن تراقبوا هذه الشجرة الباسقة لئلا تتسرب إليها الآفات. وإنني هنا أخاطبكم وأناشدكم بأن تتوخوا الحيطة والحذر. إذ تارة ينهالون على الشجرة بالمنشار، وهذا ما يمكن صدّه، وتارة أخرى تتسرب الآفة إلى داخل الشجرة، وهنا يصعب علاجها.
وإن واحدة من آفات التعبئة هي الغرور. فإننا ما دمنا تعبويين، ونُعتبر من الصفوة والعينة، ويُساق إلينا كل هذا الثناء والإطراء، ننظر إلى الآخرين بعين الاستصغار؛ وهذه آفة. فإنكم كلما تعاظمتم وتساميتم، لا بد وأن يزداد تواضعكم ويتضاعف خشوعكم بين يدي الله تعالى. ولكم أن تنظروا إلى استغفارنا الذي يصدر أحياناً من أفواهنا قائلين: «أستغفر الله ربي وأتوب إليه»، وأن تقارنوا بينه وبين استغفار الإمام السجاد. أو أن تنظروا إلى أدعيتنا، وتقارنوا بين ابتهالنا وتضرعنا في الدعاء، وبين تضرّع أمير المؤمنين في المناجاة، أو تضرّع الإمام الحسين في دعاء عرفة، أو تضرع الإمام السجاد في الصحيفة السجادية، لتجدوا أنه شتان ما بينهما، ولكنهم يجتهدون في الابتهال والتضرع والاستغفار أكثر منا بآلاف المرات. فانظروا إلى أمير المؤمنين بكل ما يتسم به من عظمة ومنزلة وعبودية وتقوى، كيف يتحدث في دعاء كميل عن الخوف من عذاب الله! ولهذا كلما تعاليتم، يجب أن تستصغروا أنفسكم أمام الله وأمام خلقه. ولقد علّمونا في دعاء مكارم الأخلاق بأن نقول: «وَلا تَـرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا» (3). فلننظر إلى مسؤولياتنا، وإلى تقصيراتنا، وإلى نقاط ضعفنا ونقصنا، وهي ليست بالقليلة، وأنا أتحدث عن نفسي، وأنتم الشباب أفضل منا، ولكننا جميعاً نعاني من النقص، فلنولي مزيداً من اهتمامنا بها. إذن فالغرور هو أحد الآفات. وعليكم أن تراقبوا أنفسكم لئلا تصابوا بالغرور لكونكم تعبويين وتضحويين ومستعدين لبذل الـمُهج.
والآفة الثانية هي الغفلة. فإنها واحدة من الأمور التي تترتب على الغرور، لأن المرء إذا ما اغترّ كثيراً بقوته وقدراته وقِيَمه، كأنه سيطمئن من نفسه وبالتالي سيصاب بالغفلة. فلا تغفلوا، ولتنظروا دوماً بأعين مفتوحة وأبصار ثاقبة.
والآفة الأخرى - وسأكتفي بهذا المقدار - هو الدخول في مسابقات البهارج الدنيوية، فهي مسابقة بالتالي، حيث التسارع في البحث عن زخارف الدنيا وزبارجها، وعن المزيد من الأمور الكمالية، وعن الحياة الأفضل، والربح الأكثر. والتسارع يكون في التسابق، وأهل الدنيا هم الذين يخوضون هذا السباق، علماً بأن البعض في هذا السباق أذكى وأدهى، فيتقدم نحو الأمام حتى ينهب المليارات، والبعض الآخر لا يبلغ هذا المستوى من الدهاء والذكاء. بيد أن أهل الدنيا وعبيد الدنيا في سباق. فلا تخوضوا هذه الساحة السباقية، ولا تقولوا بأن فلاناً قد حصل على شيء، وأنا صفر اليدين، ولا بد لي أن أكون مثله؛ كلا، فإن هذه ليست من آفات التعبئة فحسب، بل هي آفة كل مؤمن. ولقد شاهدنا الكثير ممن كانوا موسومين بالخير والصلاح وكانوا من الموالين، ولكنهم عندما غرقوا في بحر ملذات الدنيا، أصبحت شيئاً فشيئاً حدّتهم كليلة، وقدراتهم ضئيلة، ودوافعهم ضعيفة. فإذا ضعفت الدوافع ضعفت العزائم، وإذا ضعفت العزائم ظهرت آثارها في العمل، وأخيراً ضاعوا وتاهوا.. هذه هي الآفات.
وما هي أولويات التعبئة في هذا اليوم؟ هي التقوى والطهارة في الدرجة الأولى. وإن وصية كل الأعاظم من أرباب المعنى - الذين قد وصلنا بخدمة البعض منهم - هي الإعراض عن الذنوب. فالبعض يطالب بأذكار مطلوبة تأخذ بيد الإنسان إلى المقامات الرفيعة، وهم يقولون: دعكم عن الذكر! ولكن لا تُذنبوا. وهذه هي الخطوة الأولى التي ما إن يخطوها الإنسان حتى تُعالَج الكثير من مشاكله الروحية والمعنوية والمادية. فإننا جميعاً مُعرَّضون لاقتراف الذنوب والوقوع في المزالق والزلات، ويجب علينا المراقبة كما ذكرت. ولو كنتم تراقبون أنفسكم - وهي التي يُعبَّر عنها بالتقوى. فإن المراد من التقوى التي تكررت كل هذا التكرار في القرآن الكريم هو مراقبة النفس من عدم الوقوع في الذنوب والفساد - سوف ينصركم الله سبحانه وتعالى ويثبّت أقدامكم. والمراقبة بحد ذاتها تستنزل الرحمة الإلهية، والتقوى تبارك في حياة الإنسان وفي عمره وفي آناته وفي ساعاته. وهذه هي أولى توصياتي.
والتوصية الثانية هي البصيرة. ولطالما كررت هذه الجملة الواردة عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) خلال كلماتي حيث يقول: «ألا... وَلا یَحمِلُ هَذَا العَلَم إِلّا أَهلُ البَصَرِ والصَّبر» (4). وقد ذكر أولاً أهل البصر، وهم أصحاب الرؤى الصائبة، وأهل البصائر الذين يُدركون المشهد. فلا بد من تعزيز البصيرة يوماً بعد يوم، ومعرفة المشهد الداخلي، والوقوف على مجريات الأحداث في الداخل، ففي أي المواطن يتلمّس الإنسان تواجد العدوّ؟ وفي أي المواطن يستطيع المضيّ قُدماً باطمئنان قلب وراحة بال؟ هذه هي البصيرة المتمثلة بمعرفة مكانتنا في العالم المعاصر.
يصبّ البعض كل جهده لتحقير الذات وامتهان الشعب والقول بأننا لسنا على شيء! مبيّنين ذلك بشتى الأساليب، حيث يتحدثون بإسهاب عن البلد الفلاني أو الشعب الفلاني أو سلوك الدولة الفلانية بالإشادة والإطراء، وفي الأغلب لا تشير هذه الأمور إلى الحقيقة، وإنما تشابه الأفلام السينمائية. ففي الأفلام السينمائية عندما يريد الشرطي احتجاز شخص، يقول له في بادئ الأمر: كن حَذِراً، فقد يُستَخدم كل ما تقوله ضدّك في المحكمة. فانظر كم هو إنسان شريف هذا الشرطي بحيث ينصح المتهم - الذي قد يكون مجرماً - في بداية المطاف بأن يراقب لسانه لئلا يخرج من فمه كلاماً كثيراً قد يُستخدم ضده في المحكمة. ولكن هل أن قوات الشرطة الغربية والأمريكية على هذا النمط؟ هذا ما يُعرض في الأفلام الهوليوودية. وأما شرطة أمريكا، فإنها إذا ألقت القبض على شخص، تضربه، وترميه بالرصاص، وتقتله، كما فعلت ذلك حيال البعض بسبب حمل أسلحة الأطفال. والأفلام السينمائية تزيّن كذباً المحاكم والشرطة والجهاز الحكومي وأمثال ذلك، فإنها بالتالي أفلام سينمائية. والبعض يعمل في كتابة مقالاته ومدوناته وكلماته كما تعمل الأفلام السينمائية، حيث يقوم بالنسبة إلى الآخرين بإظهار ما يفتقرون إليه، وتزئينه وتجميله، وفي الحقيقة إثارة الشعور بالحقارة والدونية لدى أبناء شعبنا؛ كلا، ليس الأمر على هذا النحو. فإن شعبنا شعبٌ عظيم، قد خرج من امتحانات كبيرة ناجحاً مرفوع الرأس، وحقق إنجازات باهرة. إن شعبنا هو ذلك الشعب الذي كان إذا أسر رجلاً في الحرب المفروضة، لا يضربه ولا يقتله، بل كان يداوي جروحه، ويسقيه الماء من زمزميته الخاصة.. هكذا هو شعبنا. فإنه يحتجز بعض الأوغاد المتهمين بالتجسس - وكان لا يُستبعَد تجسسهم - من البلد الفلاني في مياه البحر، ويجلبهم إلى داخل البلد، ومن ثَمَّ يكسوهم ثياباً جديدة، ويعيدهم إلى أوطانهم.. هذا هو شعبنا في تعامله وفي حِلمه وفي إنصافه وفي شجاعته. إن شعبنا هو ذلك الشعب الذي أنقذ نفسه من وطأة الإذلال والامتهان التي طالت عدة قرون، واستطاع أن يُعلن كلمته في ذورة العزة، نحن شعبٌ كهذا، وليس هذا مزاح. إذ يجتمع عتاة العالم من شتى البلدان ليتساءلوا: ماذا نصنع مع إيران الإسلامية؟ وهذا يدل على الاقتدار المادي والعسكري والسياسي والمنطقي والأخلاقي لهذا الشعب، ولا يعني ذلك أننا مبرّأين من أي ضعف، بل نعاني من حالات ضعف كثيرة، بيد أن قدراتنا ومبادءنا ونقاطنا البارزة والمشرقة ليست قليلة، فلماذا يمتهنون الشعب؟ لقد اعتاد البعض بشكل متواصل على استصغار البلد والشعب والمسؤولين. والبصيرة أن يعرف المرء ويُدرك هذه الحقائق، ويقف على مكانته، ومكانة بلده، ومكانة شعبه، ومكانة منطق الثورة، ومكانة ذلك النهج والصراط المستقيم الذي رسمه الإمام الخميني في هذا البلد؛ فالبصيرة هي معرفة مكانة هذه الأمور.
والاستعداد والجهوزية والتأهب هي الأخرى من الشرائط اللازمة والتوصيات الواجبة التي لا بد وأن نوصي بها إخواننا وأخواتنا في قوات التعبئة، إذ يجب أن يكون المرء على أهبة الاستعداد. - هنا انطلقت هتافات الحضور بأننا مستعدون يا قائد الأحرار-  أشكركم كثيراً وأعلم أنكم على استعداد.. جيّد.. كفى، فقد أزلتم عن أنفسكم الأتعاب، حيث كنتم قد التزمتم الصمت لمدة، ثم أطلقتم الهتافات، وارتفع عنكم التعب والنصب، فالتفتوا الآن:
الصراع القائم اليوم في العالم هو صراع حقيقي. والأطراف التي تواجهنا ثمة بونٌ شاسع بينها وبين القيم الإنسانية. وهناك قضايا تدور في أطرافنا لا يمكننا أن نمر عليها مرور الكرام. وأولاها هي القضية الفلسطينية، فإنها ليست قضية صغيرة. حيث يمرّ على احتلال الأراضي الفلسطينية أكثر من ستين عاماً، وقد تعاقبت الأجيال تلو الأجيال على الشعب الفلسطيني، بيد أن أهداف فلسطين ومبادءها باقية ثابتة على خلاف ما يسعى إليه العدو من القضاء عليها. وإن مما يُؤسف له أن الحكومت العربية قد انشغلت بأمور أخرى بحيث لا تتوافر لها الفرصة أو لا تريد ولا تسمح لها المجاملات والملاحظات والتحالفات مع أمريكا وغيرها أن تتعرض للقضية الفلسطينة. إلا أن هذه القضية تعتبر في غاية الأهمية، ولا يمكننا تركها والإعراض عنها.
لقد انطلقت اليوم انتفاضة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وبدأ الناس بالكفاح والقتال، غير أن الأبواق الاستكبارية أصدروا تجاهها حكماً جائراً بالكامل، فإن ذلك الذي احتُلّ بيته ولا يأمن على نفسه وماله في عُقر داره - حيث يهدمون منزله بالجرافات لبناء المستوطنات ويبيدون مزرعته - إذا ما رمى المعتدين بالحجارة وصفوه بالإرهابي! وأما ذلك الكيان الذي يسحق حياة هذا الإنسان وأمنه وكرامته وثروته ودنياه، يعبّرون عنه بأنه مظلوم يدافع عن نفسه! وهذه هي من عجائب عالمنا المعاصر. فقد قام أحدٌ باغتصاب دارٍ وأخرج صاحب الدار منها، وأخذ يواصل ظلمه وجوره عليه، ويقولون أنه يدافع عن نفسه! وأما صاحب الدار المظلوم الذي سُلب منه أمنه، وفقد داره، وأصبحت عياله وأطفاله وكرامته وحيثيته وكل أموره مهدّدة، إذا ما شتم ذلك المعتدي ورماه بالحجارة، يقولون بأنه إرهابي! أفهل يعتبر هذا شيء صغير وغلط صغير وخطأ صغير وظلم صغير يمكن التغاضي عنه؟ كلا.. لا يمكن التغاضي عن ذلك. ونحن ندافع عن حركة الشعب الفلسطيني ما استطعنا بكل وجودنا وبالغ قدرتنا.
وكذلك الحال بالنسبة إلى القضايا الأخرى التي تجري حولنا في الظروف الراهنة، حيث نجد أن الحكم الإنساني العادل المنصف في شأنها شيء، والحكم المغرض الخبيث للغربيين وساساتهم وأجهزتهم الإعلامية شيء آخر، كما هو الحال في قضية البحرين واليمن وسوريا.
ففي الشأن البحريني، أيّ شيء يطالب به الشعب البحريني يا ترى؟ يقول الشعب البحريني: امنحوا لكل فرد من أفراد هذا الشعب صوتاً واحداً لانتخاب حكومته. ألستم تتبجحون بالديمقراطية؟ ألا تزعمون أنكم مظهر الديمقراطية والذائدون عنها؟ أَوَ توجد أوضح من هذه الديمقراطية؟ ولكنهم لا يحرمونهم منها فحسب، بل ويضايقونهم أيضاً، ويهينونهم، ويحقّرونهم. ويفعلون ذلك مع الأكثرية من هذا الشعب، فالذين يطالبون بذلك في البحرين هم أكثرية تربو على السبعين أو الثمانين بالمئة، وأما تلك الأقلية الظالمة التي بيدها مقاليد الأمور، فهي تمارس في حق هؤلاء ما يحلو لها، حتى أنها تنال من مقدساتهم أيضاً. ففي شهر محرم المنصرم، تعرّضوا لأصحاب المنابر وقرّاء المراثي والرواديد، ومن يرفع علم العزاء، ويقرأ المصيبة والرثاء، بل وتعرّضوا لمن يلعن يزيد قائلين: لماذا تلعن يزيد؟! سبحان الله.. يكفي لهم عاراً أنهم يزيديّون، ويدافعون عن يزيد. فإن يزيد الخبيث الذي لا يوجد أشدّ منه خزياً وعاراً على مرّ تأريخ الإسلام، ألا ينبغي لعنه؟! لعنة الله على كل من يُؤذي النبي وذريته وآله. هذه هي فِعالهم، وهذا ما يخص الشأن البحريني.
وفي الشأن اليمني؛ شهورٌ متتالية وهم يواصلون قصف شعب اليمن، وإمطار البيوت والمنازل والمستشفيات والمدارس بالقنابل، وضرب أناسٍ لم يجترحوا أي جرم أو ذنب، وإذا بالأجهزة المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأمثال ذلك، تدعم المهاجم وتدافع عنه! هذا هو حال العالم الظالم، وهذا هو حال العالم الذي تواجهونه، والاستكبار الذي تهتفون ضده.
وكذلك الحال في الشأن السوري، وقد تحدثنا خلال الأيام الأخيرة في هذا الشأن، وقلنا - ونُشر في وسائل الإعلام - بأن هؤلاء يناصرون ويدعمون أخبث الإرهابيين وأشقاهم في سوريا والعراق، ويقدّمون لهم المعونات بصورة مباشرة وغير مباشرة، ويصرّون على أن يتم تشكيل الحكومة السورية بهذه الطريقة لا بتلك. ولكن بأي حق؟ فإن الشعوب برمتها هي التي تقرر مصيرها وتختار حكومتها بنفسها، فما شأنكم بذلك؟ إذ تأتون من مكان بعيد وبلاد نائية إلى هذه المنطقة لأغراض خبيثة! هذه هي الحالة السائدة في عالم الاستكبار. وفي قبال هذا العالم، فإن الإنسان البصير هو الذي يعرف ماذا يجب عليه فعله، ويعلم أن موقفه هو الموقف الحق.
وبمقدور التعبئة أن تبيّن للآخرين بأن مواقف الجمهورية الإسلامية في إيران هي أكثر المواقف منطقية يتأتى لأي إنسان منصف وعاقل اتخاذها، فإن المواقف الرسمية لرجال الحكومة في الشأن السوري والعراقي والبحريني واليمني والفلسطيني اليوم مواقف واضحة وجليّة.
تعتبر التعبئة لنظام الجمهورية الإسلامية بركة ورصيداً وكنزاً لا ينفد، لأن الشعب ليس له نفاد. وأقولها لكم: بتوفيق من الله سوف يقوم أبناء شعبنا الإيراني العزيز أولاً بصيانة هذا الكنز الثمين، وثانياً باستخراجه، وسوف يصل ثالثاً إلى ذروة التعالي والترقي بمساعدة هذه الهمم والعزائم والبصائر لا محالة. والأعداء سيُرغَمون على النظر والتفرّج ومشاهدة تقدم الشعب الإيراني، دون أن يسعهم القيام بشيء. وهذا ما سوف يتحقق بعون الله.
رحمة الله على إمامنا الخميني العظيم الذي فتح أمامنا هذا الطريق.
ورحمة الله على شهدائنا الأبرابر الذين ألهمونا بتضحياتهم درساً عملياً وأفهمونا كيف يجب علينا أن نعمل.
ورحمة الله عليكم أنتم الأعزاء الذين تعمدون بجهوزيتكم اليوم إلى إدخال السرور في قلوب أبناء الشعب وبثّ الأمل في نفوسهم.
والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته.


الهوامش:
1-    تم هذا اللقاء بمناسبة الذكرى السنوية لتشكيل قوات التعبئة بتاريخ (1979/11/26)، وفي بداية اللقاء تحدّث اللواء في الحرس الثوري محمد علي جعفري القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية، والعميد في الحرس الثوري محمد رضا نقدي رئيس منظمة تعبئة المستضعفين رافعين تقريريهما عن أبرز نشاطات وبرامج قوات التعبئة وظروفها.
2-    ديوان سعدي الشيرازي "كلستان" الباب الخامس.
3-    الصحيفة السجّاديّة.
4-    نهج البلاغة، الخطبة رقم 173.