موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال إستقباله القائمين على الملتقى الوطني لـفقه الفن. (1)


بسم الله الرحمن الرحیم
أولاً إنها لبشارة كبرى في أن الحوزة العلمية قد خاضت ساحة الفنّ من منظار المعرفة الفقهية. ومن الواضح، لا يُتوَقَّع من الحوزة العلمية أن تربّي سينمائياً أو شاعراً أو رسّاماً أو نحّاتاً أو معماراً - كما أشار إلى ذلك السيد جرفا خلال كلمته - ولكن المتوَقَّع منها أن تتصدى لبيان المباني الإسلامية في موضوع الفنّ - الذي سوف أتطرق إلى مدى أهميته - بدءاً من الاكتشاف والبحث والغور، ومن ثَم بيانه للناس وللمجتمع. وها أنتم قد بادرتم إلى القيام بهذه المهمة، وهي مبادرة مباركة جداً. فإن هذه الفكرة التي راودتكم وهذا الإنجاز الذي بادرتم إليه لمن دواعي الشكر الحقيقي المنبثق من أعماق القلب، وإن دخول كبار الفضلاء المبرّزين في هذه الساحة لمن مواطن الحمد.
فلا تتركوا العمل وتعطّلوه في منتصف الطريق. وكما نعملُ في فقه المعاملات أو فقه العبادات أو في الآونة الأخيرة مثلاً في فقه العلاقات أو فقه الاقتصاد أو فقه المسائل الاجتماعية المختلفة، فلنعمل حقاً في فقه الفنّ أيضاً بكل ما للكلمة من معنى؛ أي أن يتمكّن العالم في مجال الفنّ أن يعطي رأياً صريحاً واضحاً، سواء في أصل موضوع الفنّ ومفهومه العام، أو في فروعه المتنوعة وشُعَبه المتعددة. وليس ثمة أي إشكال في اختلاف الآراء بشأن هذا الموضوع، كما أن هناك اختلاف في الآراء بين الفقهاء في جميع الأبواب الفقهية؛ فهذا يقول شيئاً وذاك يقول شيئاً آخر، بيد أن حصيلة كل هذه الاختلافات هو التقدم. فالفقه المعاصر والفقه الذي كان في عهد الشيخ الطوسي ليسا على حدّ سواء، ورغم وجود الحجم الكبير من الاختلافات في وجهات النظر، فقد تقدّم هذا الفقه إلى الأمام، وبات يخوض المسائل بمزيد من المهارة والعمق والدقة والنظرة الجزئية التفصيلية؛ وسوف ينحو هذا المنحى في هذا المجال أيضاً.
تقع قضية الفنّ على جانب كبير من الأهمية، وهي تدخل في عداد حياة الإنسان، وتعتبر بحد ذاتها من مستلزمات وجود الإنسان كما هو حال الكثير من الأمور الأخرى. والأمر ذاته يجري في كافة شُعب الفن أيضاً، فعلى الرغم من اختلاف روّادها إلا أن القاسم المشترك بين كل هذه الفنون هو أنها وليدة الذوق والخيال، فإن الخيال القوي والذوق الرفيع، هما اللذان يولّدان الفن. علماً بأن المهارات والتجارب والخبرات دخيلة في هذا الموضوع، إلا أن الذوق يشكّل المادة الرئيسية في ذلك. وكما تلاحظون، فقد برز بين فقهائنا كبار الأدباء ]في مجال الفن والأدب[ على الرغم من أن الفنّ بما هو فنّ لم يُطرح في الحوزات العلمية أبداً. ولقد أشار (2) إلى أن ذلك من باب الاستمتاع والهواية، فإن البعض ]يتعاطى الشعر[ من باب الهواية، ولكن البعض الآخر يعتبر محترفاً حقاً في هذا المجال. ولنذكر على سبيل المثال السيد محمد سعيد الحبّوبي الذي يعدّ شاعراً عربياً محترفاً بارزاً، أو السيد محمد الهندي، أو السيد رضا الهندي الذي نظم تلك القصائد المتعددة والمطوّلة، والذي يعدّ من الشعراء المحترفين في النجف، وهؤلاء كلهم من المتأخرين، أو السيد الرضي؛ إنني قبل سنوات طلبتُ من رجل عربي أديب أن يقارن بين أشعار السيد الرضي وأشعار شاعر آخر - وهو من الشعراء المعروفين ولا أريد التصريح باسمه - فقال لا يمكن المقارنة بينهما على الإطلاق. وكان خبيراً بالشعر، إذ أنني لا أستطيع أن أقف على الأشعار العربية وأعرف أوزانها ومدى براعتها كما هو الشاعر العربي. فقال لا يمكن المقارنة بينهما مطلقاً؛ أي أن أشعار السيد الرضي تحتل الصدارة بين الأشعار العربية. ويمكن القول إن هذا هو الاحتراف بعينه، أي أن تعاطيهم للشعر لم يمكن من باب الهواية والاستمتاع، وإنما كان احترافاً وبراعة. ولدينا الكثير من أمثالهم، فقد كان السيد المرتضى شاعراً، والمحقق الحلي شاعراً، ووالد العلامة الحلي شاعراً؛ كل هؤلاء العلماء الكبار كانوا من الشعراء. سوى أنهم تناولوا موضوع الشعر، ولم يتناولوا على سبيل الفرض موضوع العمارة أو الموسيقى وما شاكل ذلك. وهذا مؤشر على أن هذه المادة الطبيعية، وهي الذوق والخيال، إذا ما وُلدت في مكان، فإنها ستظهر وتتجلى حتى في ذلك المناخ الذي لا يُفجِّر هذه الطاقات، كما هو مناخ الحوزات العلمية البعيد عن هذه المسائل كلّ البُعد.
ومن هذا المنطلق، فإن الفنّ شأنٌ من الشؤون الإنسانية، ولا يسعنا البحث في أنّ الفنّ يدخل ضمن أيّ حكم من الأحكام الخمسة ]الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام[، فإنه طبيعة وحقيقة إنسانية وبشرية، وله مظاهره وتجلياته، كما هو شأن سائر أمور بني البشر. فلا بد من تحري تلك المظاهر المختلفة والبحث عن الأحكام الخمسة في شأنها، وإلا فأساس الفنّ ظاهرة إنسانية، وشأنٌ من الشؤون المباركة والضرورية والحقيقية.
إن الفقه يتولى - وفق ما يدعيه - كافة شؤون حياة البشر، فهو كفيل ببيان كل الأمور التي هي موطن ابتلاء الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية من الناحية الشرعية والإسلامية، والفنّ أحد هذه الشؤون، وهذا ما يستدعي من الفقه تناوله والتعرض إليه. أجل، فلقد تأخرنا في التفكير بذلك، وشرعنا في وقت متأخر، وكان ينبغي التصدي لهذه المهمة قبل هذا الأوان بكثير، والآن حيث نهضتهم بهذه المسؤولية والحمد لله، تتعين عليكم مواصلة الطريق دون توقف. وأما الكلام في أن أبناء الحوزة العلمية هل بوسعهم خوض الساحات الفنية كالسينما أو المسرح أو سائر الفنون أم لا؟ فهو بحث آخر. ومن الواضح أن الطالب إنما يدخل الحوزة العلمية عن هدف، ولا يُقصد من هذا الهدف الأنشطة السينمائية، كما لا يُقصد منه الأنشطة التجارية أو المعمارية، وهذا أمرٌ بديهي ولا تقتضيه الضرورة، ولكن ليس ثمة مانع من أن يدخل الطالب ساحة من الساحات الفنية إذا اقتضت مهارته ذلك، شريطة أن لا يُشغله ذلك عن مهمته الرئيسية.
وإذا ما أراد فقيه كبير أن يدلي برأيه في المسائل الفنية، عليه أن يكون عارفاً بمقولة الفن، وإن لم تكن له معرفة بهذه المقولة وكان جاهلاً بها وبحدودها وثغورها وتعاريفها، فمن المستبعد أن يتمكن من إصدار حكمٍ صائب في هذا المجال؛ ذلك أن من شرائط الاستنباط الصحيح للحكم، معرفة الموضوع. ولذا لا بد من التعرف على الموضوع جيداً، ولو جهلنا به، لما أمكننا التوصل إلى الحكم الصحيح. وهناك باعتقادي أعمال كثيرة يمكن إنجازها في هذا المضمار، سواء في مجال أصل الفنّ وفلسفة فقه الفنّ - التي أشار إليها السيد علي دوست وهو مصيب بالكامل في ذلك، لأنه بحث صالح للدراسة والمداولة - أو في مجال التفقّه في الفنّ عبر الدخول في المسائل الفنية من الناحية الفقهية، وتعيين حدودها وثغورها، وبيان رأي الإسلام فيها.
ولو أردنا التعرف على رأي الإسلام فيما يتعلق بأصل الفن، فإن الإسلام - كما يبدو - لا يوافق على الفنّ وحسب، بل يحثّ ويشجّع عليه. فالقرآن أثرٌ فني، ولكم أن تلاحظوا بأن هناك في الآيات الكريمة مواضع كثيرة تتضمن التقدّم والتأخر في ترتيب الجُمل حفاظاً على سجع الآيات. هذا على الرغم من أن القرآن لا يلتزم بالسجع ولا بالقافية بمعناهما المصطح لأنه ليس كتاب شعر، ولكن في نفس الوقت قد يقتضي جمال الكلام أن توضع في وسط الآية جملة معترضة لتتطابق آخرها في السجع مع سائر الآيات حفاظاً على حُسنها وجمالها. وأضف إلى ذلك الوزن والموسيقية في الكلام، ولقد تم إهمال مسألة موسيقية الكلمات في آيات القرآن الشريفة وإغفالها. فقد انطلق البعض بحثاً عن الوزن في القرآن وعن آياته الموزونة، وقام باستخراجها، فهي كثيرة تلك الآيات التي لها وزن وعروض. وأما الموسيقى في كلمات القرآن، حتى في تلك المواطن الفاقدة للوزن، فهي أمرٌ مذهل، تُطرب المسامع وتبهرها، وهذه مسألة يدركها من له أنسٌ ومعرفة بالقرآن الكريم. إذن فالقرآن أثرٌ فني. ولقد كان النبي الأكرم يشيد بالشعراء الذين يسيرون على منهاج الحق، والقرآن الكريم أيضاً يثني على الشعراء ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ (3)، كما كان أغلب أهل البيت أيضاً يمارسون نظم الأشعار.
وفيما يتعلق بالقراءة، هناك رواية في باب الغناء - الباب الذي أشار إليه ]أبو القاسم علي دوست[، ونحن أيضاً أسهبنا البحث فيه - ]ما مضمونها[ أن أحداً كان يقرأ القرآن بصوت حسن، فقيل للنبي إن هذا الرجل يمتاز بصوت حسن، قال فليقرأ القرآن، وحين شرع بتلاوة القرآن، قال النبي - على ما في ذهني - اقرؤوا القرآن على هذه الطريقة؛ أي بالصوت الحسن. وهذا هو الفنّ بالتالي، وهو فنّ الموسيقى التي لها أقسامها وأنواعها.
أو على سبيل المثال تزويق العبارات وتجميلها بواسطة علمائنا. ولكم أن تنظروا ما سطّروه من أسجاع جميلة في مستهلّ كتبهم، وما نثروه في إجازاتهم المختلفة والمتبادلة فيما بينهم - بما فيها إجازة الاجتهاد وإجازة الرواية - من عبارات بديعة وأسجاع رائعة، وهؤلاء هم الفقهاء أنفسهم. وكذلك الحال في الجمل التي يستخدمونها بين طيات كتبهم. علماً بأن هذه الظاهرة لم تتجلّ كثيراً في المدوّنات الفارسية ولاسيما في الآونة الأخيرة، إلا أن النثر الفارسي الذي كان يستخدمه مثلاً العلامة المجلسي في كتبه كان نثراً جميلاً، وهذه كلها تدخل في عداد الفنّ. ومن هنا فإن البحث في أنّ الإسلام هل يؤيّد الفنّ أم لا؟ بحث بيّنٌ باعتقادي، إذ من الواضح أن الإسلام ينظر إلى الفنّ نظرة مؤيدة كما ينظر إلى سائر مظاهر حياة الإنسان.
لقد امتزج اليوم الفنّ بالمجتمعات البشرية ودخل في صميم حياتهم، ولا يعتبر شيئاً زائداً أو شكلياً، فالعمارة على سبيل المثال من صنوف الفنّ، وقد عُجنت بحياة الإنسان. والمرء الذي يعيش في عمارة، سيترك النمط المعماري فيها أثره على روح الإنسان وفكره وسيرته ونمط حياته. وهذه كلها من الأمور الواضحة البيّنة. نعم، يجب تعيين الحدود والثغور تجاه الشُعب المختلفة - كالغناء ونحت التماثيل -. ]وقد تتغير[ بعض الفتاوى المعروفة والمشهورة بين الفقهاء، بعد التعمّق وإمعان النظر - كما في قضية منزوحات البئر، حيث كان يُحكَم عليها بطريقة لفترة زمنية، ثم تغيّر حكمها بالمرة - هكذا تجري الأمور حقاً، طبعاً مع انتهاج سبيل الاحتياط. ومن هذا القبيل مسألة نحت التماثل أو مسألة الغناء. وكلام السيد علي دوست صحيح تماماً. فإن أهم الروايات ]المنقولة في هذا المضمار[ قد وردت في ذيل هذه الآية الشريفة: ﴿لَهْوَ الْحَديثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، إذ لم يقتصر على «اللهو»، بل أردفها بقوله: ﴿لِيُضِلَّ﴾. والرواية تحدثنا في إطار هذه الآية، حيث تقول الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (4). إذن هذه هي شروط الحرمة، والرواية التفسيرية تفسّر وتبيّن هذه الآية، ولا تفسّر شيئاً آخر.
ومن هذا المنطلق، فهناك الكثير من الأمور الحديثة والجديدة التي يمكن بيانها في شتى الفروع والشُعب الفنية. ولنذكر على سبيل المثال قضية التمثيل، فهناك شبهة تراود الأذهان، وهي تلبّس الرجل بلباس المرأة، وتلبّس المرأة بلباس الرجل، ولكن إذا ما خاض المرء البحث الفقهي وتعمّق فيه، يجد أن المعنى الموجود يختلف مبدئياً عما تداول تفسيره، بحيث يكون الناتج منه أن المرأة إذا ارتدت ثوب الرجال، أو الرجل إذا ارتدى ثوب النساء في التمثيل، ففيه إشكال. ولذا باعتقادي يمكن إنجاز الكثير من الأعمال في هذا المجال، والمهمة هذه تقع على عاتق الفضلاء.
علماً بأن النقطة الهامة التي أشار إليها السادة، هي الانضباط الفقهي؛ أي ألّا تترك الأجواء أثرها علينا، فلو تصاعدت موجهة في جزء من أجزاء المجتمع، وبدأت تفرض الضغوط علينا قائلة: لِـمَ تحرّمون الشيء الفلاني، وتمنعون الشيء الفلاني، وانطلقنا نتدارس هذه القضية متأثيرين بهذه الأجواء، فهذا عملٌ مغلوط، وسلوك بعيد عن الصلاح حقاً؛ كلا، بل تجب مراعاة الانضباط الفقهي بالكامل، ومراجعة الكتاب والسنة، والعمل على غرار ما كنا نعمله في استنباط سائر الأحكام الفقيهة من الرجوع إلى الكتاب والسنة. فلنستخدم الأمارات في محلها، والأصول في مواطنها، ولنستمثر كل ما هو متاح في متناول فقهاء الشيعة من هذا المخزون الفكري العظيم، من خلال ما يسمى بطريقة وأسلوب الاستناط الرائجة والمتكاملة والناضحة، ولنستعمل كل جوانبها، ونصل في مجال الفنّ إلى النتائج المطلوبة إن شاء الله.
وسنبقى في انتظار لنستفيد إن شاء الله من نتائج اجتماعكم وثمار ملتقاكم هذا. ولو بقينا على قيد الحياة نشهد مواصلة عملكم الجديد الذي شرعتم فيه بإذن الله. فإنه «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى‌ یَوْمِ القِیَامَةِ» (5). ذلك أنكم قد أطلقتم هذا العمل في الحوزة العلمية، وكل من يمارس بعد ذلك العمل في هذا المجال، وكان مشمولاً للمثوبة الإلهية، سيصل أجره إليكم بالتأكيد. راجياً لكم النجاح والتوفيق.
والسلام علیکم ورحمة الله

الهامش:
1- اقيم هذا الملتقى من قبل مكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة بتاريخ 2016/01/13، وفي بداية اللقاء تحدث كل من حجج الإسلام والمسلمين أحمد واعظي (رئيس مكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة)، أبو القاسم علي دوست (أمين الملتقى في الجانب العلمي والمحتوائي) والسيد أبو القاسم حسيني، رافعين تقاريرهم.
2- أبو القاسم علي دوست، أمين الملتقى في الجانب العلمي والمحتوائي.
3- سورة الشعراء، جزء من الآية رقم 227.
4- سورة لقمان، جزء من الآية رقم 6.
5- أصول الكافي، ج 9، ص372.