موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال إستقباله رؤساء السلطات الثلاث وكبار مسؤولي النظام الإسلامي

 

بسم الله الرحمن الرحیم (1)

الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیّدنا ونبیّنا أبي القاسم المصطفی محمّد وعلی آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، سیّما بقیّة الله في الأرضین.

 

أرحّب بكم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء أجمل ترحيب، وأتقدّم بالشكر للسيد رئيس الجمهورية أيضاً علی كلمته التي قدّم فيها إيضاحات مفصلة وجيّدة.

إن من بركات هذا اللقاء الرمضاني، هو الانتهال من أجواء شهر رمضان المعنوية. صحيح أن هذه الجلسة جلسة استثنائية، وذلك لما اشتملت عليه من حضور شتی المسؤولين، وشخصيات النظام البارزين، وأصحاب المناصب والمهام، من مختلف التيارات والتوجهات، ولما توافرت فيها من فرصة الحوار والبحث وتجديد اللقاء وتبادل المحبة وأمثال ذلك، وهذه كلها من بركات هذه الجلسة، ولكن الأهم منها جميعاً، هي النقطة التي ذكرتها؛ أي الدخول في الأجواء المعنوية لشهر رمضان. حيث نقرأ في فقرات الدعاء الوارد في أيام شهر رمضان: «وَهذا شَهرُ الصّیام، وَهذا شَهرُ القیام، وَهذا شَهرُ الإِنابَة - ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾(2) - وهذا شَهرُ التَّوبَة، وَهذا شَهرُ الـمَغفِرَةِ وَالرَّحمَة»(3). هذا الشهر وهذا المناخ، ينطوي علی هذه الخصائص والسمات.

ولكن توبتنا من أيّ ذنب؟ فالإنسان من أمثالي غارق في بحر الذنوب من قمة رأسه إلی أخمص قدميه، بيد أن الذنوب علی نمطين: ذنوب تضرّ الإنسان الذي اقترفها فقط، وذنوبٌ تلحق الضرر بعد ارتكابها بالآخرين أيضاً. فالشيء الذي يقطّعه المرء ويمضغه بأسنانه، تارة يكون صلباً، يؤدي إلی تهشّم الأسنان، دون أن يلحق الضرر بعضو آخر، وتارة أخری يتناول الإنسان بأسنانه طعاماً يؤول إلی إيقاف الكبد عن العمل، ولا تقصير للكبد في ذلك، وإنما المقصر هو الأسنان والفم.. هكذا هي ذنوبنا أحياناً، فقد نقطع خطوة، أو نتفوّه بكلمة، أو نسير في مسيرة، تلحق الضرر بالمجتمع وبالبلاد، وهذه ذنوب هامة وكبيرة. قال تعالی: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(4)، إذ أحياناً ما يقترف المرء ظلماً، تكون العقوبة التي وضعها الله له شاملة تشمل المجتمع بأسره، فلا بد من تجنّب اقتراف مثل هذا الظلم، والوقوع في مثل هذه الفتنة. وهذا خطابٌ موجَّه لنا نحن المسؤولين، وليس موجَّهاً لآحاد الناس. فإننا نحن المسؤولين الذين بوسعنا أن نعمل عملاً يؤدي إلی إلحاق الضرر بالمجتمع، أو علی العكس من ذلك، نقوم بما يدرّ النفع علی المجتمع.

إن للمرحوم العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) بيانٌ في تفسير هذه الآية الشريفة الواردة في سورة النساء: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾(5)، حيث يقول بأن المجتمعات البشرية في البلاد، تشكّل مجتمعاً خاصاً، وتشغل دائرة معينة، وتحمل هوية مستقلة وحدانية تختلف عن هوية الأفراد؛ أي أن المجتمع من منظورٍ خاصٍ يعتبر كالإنسان الواحد، فكما أن الإنسان الواحد إذا اشتكی منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء، كذلك المجتمع، إذا اقترف جزء منه عملاً، قد يتسبب في أن تعمّ نتائجه علی المجتمع بأسره. فثمة نوازل تنزل بالمجتمع، وهناك عددٌ من أبناء هذا المجتمع لا ذنب ولا تقصير لهم في هذه النازلة، إذن فكيف يمكن القول: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾؟ يقول العلامة بأن هذا هو القول الصائب، وهنا أيضاً يمكننا القول: ﴿فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، سوی أنّ هذه النفس، تمثّل موجوداً وسيعاً باسم المجتمع الذي اقترف جزء منه ذنباً. فلو تعيّن علينا تجنّب مثل هذه الذنوب، لا بد لنا من توخي الحذر الشديد، وهذا ما يحتاج إلی مراقبة ودقة، ويجب أن نتعلّمه من أجواء شهر رمضان، وأن نلقّن به أنفسنا، وأن نشعر بالمسؤولية حقاً أينما كنّا.

وقد وردت في نفس هذا الدعاء الوارد في أيام شهر رمضان طلباتٌ كثيرة من الله، وهو دعاءٌ جيّد جداً. ولو وُفّقتم إن شاء الله لقرائته وإمعان النظر فيه، لوجدتم أنه دعاء عجيب، فإنه - علی ما هو المأثور عن الإمام (عليه السلام) - يعلّم الإنسان الطلبات التي لا تخطر بباله، ويعلّمنا المسائل التي نسأل الله بها، ومنها النجاة من هذه الأمور التي سأذكرها: النجاة من مرض فقدان الدافع والمحفز، والنجاة من غياب الحيوية والنشاط - هذه أمورٌ لا تتبادر إلی أذهاننا بأنها من الأمراض التي يجب أن نسأل الله تعالی النجاة والشفاء منها - والنجاة من الغفلة، والنجاة من قساوة القلب تجاه ذكر الله ونصح المشفق الذي ينصح الإنسان طلباً للخير له. والعبارة هي: «وَأَذهِب عَنّي فیهِ النُّعاسَ، وَالکَسَلَ، وَالسَّأمَةَ (الشعور بالتعب)، وَالفَترَةَ (فقدان الدافع والمحفز)، وَالقَسوَةَ (قساوة القلب)، وَالغَفلَةَ (اللامبالاة)، وَالغِرَّةَ (الاغترار بالنفس)». هذه مطاليب نسأل الله إنقاذنا منها.

هذه جملة من الذنوب، وهناك ذنوبٌ أكبر، ولكن ما هي الآثار التي تتركها هذه الذنوب علی الإنسان؟ واحدة من الآثار هي أن الإنسان إذا ما ابتُلي بذنبٍ، قد يزلّ في لحظة مفصلية حساسة. يقول تعالی في كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾(6)، ففي معركة أحد، أولئك الذين لم يتمكّنوا من الصبر والثبات، وراحت قلوبهم تهفو لاكتساب الغنائم لدرجة تغافلوا عن المهمة الخطيرة الملقاة علی عاتقهم، وبدّلوا الحرب المنتصرة إلی حرب مهزومة، ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾، وأوقعتهم في هذه الورطة خطايا كانوا قد اقترفوها من قبل. وهذه مرحلة؛ أي أن ذنوبنا تؤدي إلی أن لا نتمكّن من الصبر والمقاومة في لحظة حساسة مفصلية. ونحن المسؤولون في هذه البلاد، بدءاً من هذا العبد الحقير، ومروراً بالمسؤولين في السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، ووصولاً إلی المراتب الأدنی من المسؤوليات، والجميع مسؤول، لو قمنا بما يؤول إلی أن يكون الناتج ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾، وأن تزلّ أقدامنا، ونعجز عن الاستقامة في المواطن التي يجب فيها الصمود والثبات، عندذاك سيهدّدنا خطر كبير.. هذه مرحلة.

والمرحلة الأعلی والأنكی، هي أن الخطيئة التي قد نقترفها، تؤدي بنا إلی أن نُصاب بالنفاق، وأن تختلف قلوبنا عن ألسنتنا. يقول تعالی: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾(7)، فأولئك الذين لم يفوا بما عاهدوا الله، ولم يلتزموا بما واعدوه، سيكون الناتج: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ﴾، علماً بأن لهذه النتيجة آلية منطقية بالكامل، ولا يسمح المجال لأن أوضّح أنّ ذنباً واحداً كيف يسوق الإنسان إلی النفاق.

والأسوء من ذلك، هي أن تؤول ذنوبنا وخطايانا وانحرافاتنا أحياناً - لا قدّر الله - إلی تكذيبنا بما أنزل الله. ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾(8). وسبيل العلاج هو المراقبة، فلنراقب أنفسنا، وليكن لنا إشرافنا علی ذواتنا وعلی مجموعتنا، ولنرفع من محفّزاتنا، ولنُكثر من أعمالنا، ولنتجنّب المزالق، وهذه في كلمة واحدة هي التقوی. وهذا هو المراد بالتقوی التي هي فلسفة الصوم وغايته في شهر رمضان. فالتقوی هي مراقبة النفس، وعلينا أن نراقب أنفسنا علی الدوام. علماً بأنني أنا المخاطَب بهذه الكلمات في الدرجة الأولی، والمسؤولية تقع علی عاتقنا جميعاً، فلنعرف قدر شهر رمضان.

أيها الإخوة الأعزاء، أيها الأخوات العزيزات! لنعرف قدر شهر رمضان الذين نحن فيه. فلقد جاءت وانقضت آلاف الآلاف من أشهر رمضان على مدى التأريخ، وستأتي آلاف الآلاف من أشهر رمضان التي لا نكون أنا وأنتم فيها، وبين هذه المليارات من أشهر رمضان علی مر التأريخ، ستمرّ علينا عدة أشهر أو عدة عشرات من هذه الأشهر، وسنوفّق لأن نشهد عشرين، أو ثلاثين، أو خمسين، أو ستين شهراً من أشهر رمضان بين هذه المجموعة التأريخية، منذ سنّ تكليفنا وإلی آخر أعمارنا، فلنعرف قدرها. فلقد كان بيينا في شهر رمضان من العام الماضي أناسٌ من أصدقائنا والمقربين لنا وافتقدناهم في هذا العام. ولا نعرف من سيكون منا في العام القادم ومن سوف لا يكون، فاعرفوا قدر هذا الشهر، وهو شهر الاستغفار، وشهر التوبة، وشهر التذكر، وشهر التوجه إلی الله تعالی، وشهر العبادة، وشهر البكاء، وشهر التعلّق بالأمور المعنوية.

يقول الشاعر: كم من الأشهر التي ستتعاقب واحداً تلو الآخر ونحن تحت التراب(9).

وفيما يتعلق بقضايا البلد، أودّ القول بأننا نشهد ظرفاً حساساً، والبلد في الفترة الراهنة يمر بظروف هامة. لقد بيّن السيد رئيس الجمهورية الإجراءات، ولكن لا بد من متابعتها، ومواصلتها، وإكمال الناقص منها، وهي إجراءات ضرورية بأسرها، وعلی سائر الأجهزة في البلد أيضاً أن تكون لكلٍّ منها إجراءاته. فإن أوضاع البلد في الوقت الراهن تشهد ظرفاً خاصاً، لا في هذا الشهر أو في هذه السنة، بل في هذه الحقبة والمرحلة الزمنية بالخصوص. لماذا؟ لأنه من جانب قد تفتّحت الأعين أمام إمكانيات البلد الهائلة. ففي بدايات الثورة، لم نكن علی علم واطلاع بالكثير من إمكانيات البلاد، ولم نكن نملك تجربة ومعرفة بها. واليوم نجد نائب المجلس، والوزير، والمسؤول، والشخصيات الفكرية، وساسة البلد، قد اكتسبوا معرفة جديدة تجاه هذه الدائرة العظيمة التي تنطوي عليه بلادنا من الطاقات والإمكانيات، وهذا هو واقع الأمر. وحين أطالع المقالات التي يكتبها أصحاب الرأي، أجد أن الاهتمام بهذه الحقائق كبير والحمد لله. فالإمكانيات جبّارة، والبلد بلدٌ عظيم ومذهل.

قبل عدة أعوام قلت في هذا المكان(10)، بأن سكاننا يشكّلون نحو واحد بالمئة من سكان العالم، ومساحة بلدنا أيضاً تشكّل تقريباً واحد بالمئة من مساحة العالم، بيد أن الإمكانيات التي منحها الله تعالی لنا، تفوق نسبة الواحد بالمئة بكثير، وحينها قلتُ بأنها تصل إلی ثلاثة أو أربعة بالمئة، وأخيراً بلغني تقرير بأنها تصل إلی نحو ستة أو سبعة بالمئة؛ أي أن إمكانياتنا تعادل ستة أو سبعة أضعاف متوسّط إمكانيات العالم، سواء من حيث السكان، أو من حيث الطاقات الإنسانية، أو من حيث الإمكانيات الطبيعية.. هذا هو أحد جوانب الأمر.

ومن جانب آخر فإن لنا أعداء، وإن بلدنا ليس بلداً مجرداً عن الهواجس والأعداء والمترصدين، وإنما هو بلد يواجه أعداءً. علماً بأن العِداء في البلدان والدول والقوی ليس بالأمر الجديد، ولكنه بالنسبة إلی الجمهورية الإسلامية يعتبر عِداءاً خاصاً، لماذا؟ وما هو السبب؟ السبب هو أن الجمهورية الإسلامية ظاهرة لم يسبق لها مثيل في العالم، وهذا ما تشهده القوی العالمية بكل دقة. ولعلكم قرأتم أو سمعتم قبل عدة أعوام، في البلد الفلاني الذي يعادينا، قد تأسس مركز أبحاث يُعنی بالدراسة والبحث حول الإسلام والإسلام السياسي، وذلك ليعرف حقيقة هذه الظاهرة وماهيتها. فقد أُقيم نظام علی أساس الإسلام، وعلی أساس المرتكزات الإسلامية التي تنطوي علی مناهضة الاستكبار، والاستبداد، والظلم، والتمييز، وأكل الربا، والممارسات التي ترتكبها القوی العالمية في الوقت الراهن. لقد تأسس نظام بهذه الركائز الفكرية والعملية، وأخذ يتنامی ويتجذّر ويزداد نفوذاً يوماً بعد آخر، وقد بذلوا قصاری جهدهم لإيقاف مسيرته التقدمية ولكن دون جدوی. فأخذوا يصرخون بأنفسهم إن إيران هي الفاعل المطلق في المنطقة، وإن نفوذها لا يقاس بنفوذ أي بلدٍ آخر في المنطقة، وهذا ما يقوله الأمريكيون أنفسهم، ولا أقوله أنا شخصياً لإبراز العضلات.. هكذا هو هذا النظام، وهذا يعني أن هناك قوة جديدة أخذت تظهر وتتبلور في الظرف الراهن علی الصعيد العالمي، وراحت تتحدی المطامع الظالمة لقوی الاستكبار. وهذا هو السبب الذي يقف وراء معاداة الجمهورية الإسلامية، وهذا العِداء لم يشهده أيّ بلدٍ آخر. أجل، فإن هناك كما ذكرت اختلاف بين الدول علی القضايا الترابية والحدودية، واختلاف في المطامع والتبادلات التجارية، بيد أن هذا النمط من العِداء مختص بالجمهورية الإسلامية. إذن، فإننا من جانب قد عرفنا تلك الإمكانيات وأدركناها وأحصيناها، ومن جانب آخر، يواجهنا عدوٌ لدود عنود.

ولا بد من معرفة العمل الذي يريد العدو إنجازه، ليستنی لنا الوقوف علی برنامجنا الأساسي العام. وهذه البرامج الحكومية والسياسات التنفيذية، تنضوي برمتها تحت تلك البرامج الرئيسية وتكتسب معناها في هذا الإطار، وهذا ما ينبغي لكم التنبّه له. فإن هذه المشاريع التنفيذية لا بد من إنجازها، ولكن ينبغي النظر إليها في قلب تلك النظرة العامة الشاملة، من أجل أن تؤتي ثمارها. فعلينا أن نعرف ماذا يريد العدو أن يصنع؟ وما هي خطته حيالنا؟ لنقوم علی هذا الأساس برسم خطتنا للتحصين وإحلال الأمن والصيانة والحراسة أمام العدو.

ولو أردتُ بيان هذا الأمر في جملة قصيرة، أقول بأن مخطط العدو هو الوقوف أمام قدرات الجمهورية الإسلامية، وذلك إما بالقضاء عليها أو الحؤول دون تناميها علی أقل تقدير.. هذه هي خطة العدو. ولكن ما هو واجبنا حيال ذلك؟ واجبنا هو أن نزيد من قدراتنا ما استطعنا. ولقد قلتُ مراراً وتكراراً في هذه الجلسة وفي جلسات أخری خلال الأعوام الماضية: يجب أن تغدو البلاد مقتدرة، وعلينا زيادة مستوى قدراتنا المختلفة، فإن قمنا بذلك، حينئذ يمكننا أن نقول للناس بطمأنينة: ناموا قريري العين، وكونوا علی اطمئنان. وإن لم نقم بذلك، عندها سنعيش بالضرورة حالة من التشويش والاضطراب.

ولكن ما هي الإمكانيات والقدرات التي نتمتع بها؟ لقد دوّنتُ هنا جملة من القدرات التي تتعرض لمزيد من العِداء والخصام:

الأول هو الإيمان الإسلامي. وهذا ما قد يثير استغراب البعض قائلين بأن العالم المعاصر هو عالم حرية الفكر والعقيدة وأمثال ذلك! كلا.. إنهم يعادون الإسلام الأصيل الذي أفصح عنه الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وأصبح ركيزة للحكومة الإسلامية والجمهورية الإسلامية أكثر من أي شيء آخر. فانظروا إلی الأنشطة التي تُمارَس اليوم في العالم لتحطيم سدّ هذا الإيمان في كل مكان ولاسيما في نظام الجمهورية الإسلامية وفي أوساط الناس. ولو كنتم تتعاطون الشبكات الاجتماعية والفضاء الافتراضي، ستعرفون وتُدركون جيّداً أين تتجه إشارتي، حيث باتوا يسلكون كافة السبل لزعزعة إيماننا الإسلامي. ولكن من المقصود بنا؟ هل المقصود أنا الشيخ الذي ذرّفتُ علی السبعين أو الثمانين؟ كلا.. فإنهم لا يحملون قلقاً كبيراً تجاهنا، وإنما يبتغون استهداف إيمان الجيل الذي يأتي بعدنا وجيل ما بعد بعدنا، وها هم يبذلون الجهود في ذلك. إذن فإن إحدی مجالات اقتدارنا هي إيماننا الإسلامي الذي أصبح غرضاً لسهام عِدائهم.

والثاني الاقتدار العلمي، ولقد خطّطوا، وتشبّثوا حتی باغتيال علمائنا، واستخدموا الأدوات الخبيثة المحظورة في جميع العالم لإيقاف مسيرتنا العلمية. فإن دودة ستوكسنت(11) التي ضربوا بها النظام السيبراني للجمهورية الإسلامية قبل سنتين أو ثلاث، كان بمقدورها القضاء علی هذا النظام بأكمله، وهي جريمة معروفة علی الصعيد الدولي، وكان بالإمكان ملاحقة المرتكبين لهذه الجريمة والأخذ بتلابيبهم في المحاكم الدولية، ولكننا لم نفعل ذلك وللأسف.. فقد تقدّموا في عدائهم إلی هذا المستوی. وهم يعارضون التقدم العلمي الذي يُفضي إلی الاقتدار العلمي بكل قوة. وهذا باعتقادي هو السبب الرئيس الذي يقف وراء الضغوط علی القطاع النووي، حيث نجدهم يكرورن القول بأن إيران تمتلك القنبلة الذرية والنووية، وهم يعلمون بأنهم يكذبون، وسأتناول الحديث لاحقاً حول الملف النووي باختصار.

والاقتدار الاقتصادي الذي سأتعرض له فيما بعد. والاقتدار الدفاعي الرادع، وهذا ما يعارضونه أيضاً بكل قوة. إذ لا بد أن يكون البلد كالقلعة التي تهدّمت جدرانها، ليمكنهم فعل كل ما يحلو لهم. ولو أن قطاعاتنا تتمتع بمعدات دفاعية، وقدرات هجومية مضادة، تكون وكأنها قد بنت سوراً حول هذه القلعة، وهذا ما هم يعارضونه. والكلمات التي يطلقونها بشأن الصاروخ وما شاكله، تعني: معارضة القوة الدفاعية.

والاقتدار السياسي الوطني الذي يعني الاتحاد والانسجام بين أبناء الشعب. ولطالما ذكرتُ بأن الاختلاف في التوجهات الساسية لا إشكال فيه، والحبّ والبغض تجاه زيد وعمرو لا بأس فيه، إنما الإشكال يكمن في نشوب الاختلاف بين الناس حيال ركائز حركة البلاد الأساسية والعامة، وهنا مكمن الإشكال، وعلی الناشطين السياسيين والاجتماعيين أن يحولوا دون حدوث ذلك. ولحسن الحظ فإن الاتحاد قائم في هذا اليوم، بل ومنذ انطلاقة الثورة الإسلامية. وهذا لا يعني أن الثورة ويوم انتصارها لا يوجد لهما معارض، بل هناك من يعارضهما، بيد أن غالبية الشعب وقاطبته تهفو قلوبهم إلی الثورة ومظاهرها ومعالمها وذكرياتها، وإلی اسم الإمام الخميني وذكراه، وهذه نعمة عظيمة جداً، وهذا هو الاقتدار السياسي للشعب.

والاقتدار الناجم عن شبابية السكان، الذي يتم التغافل عنه. فإنه منذ أعوام وأنا أحذّر من قضية تحديد النسل وما شاكلها بشكل متواصل (12)، ولحسن الحظ فقد أُنجزت بعض الأعمال، وحقق بعض المسؤولين إنجازات جيدة في هذا الشأن، بيد أن ذلك العمل الذي لا بد من التصدي له بشكل كامل لم يتم إنجازه بعد. فإن جمهور شبابنا اليوم يعدّ ظاهرة ونعمة، لأن الشابّ مصدر للحركة ومنبع فياض للتوثّب والتحرك والنشاط والابتكار والإبداع، وهو الذي يقوم بإنجاز الأعمال. ولو افتقدنا هذه الظاهرة الشبابية بعد عشرين عاماً ستتضرر البلاد، لأن الشاب لا يمكن استيراده، ولا بد أن نقف أمام هذا الضرر من اليوم. وهذا الكلام الذي قد يشيع أحياناً - وأنا لم أتحقق منه بالضبط وليس لدي اطلاع كبير فيه - من استمرارية بعض المناهج السابقة المغلوطة في بعض الأماكن كإسقاط الجنين ونحو ذلك، إن كانت صحيحة، فإن مسؤوليتها تقع علی عاتق رجال الحكومة المعنيين، وعليهم متابعتها. وعليه فقضية شبابية السكان تعتبر من القدرات العظمية والهامة جدّاً.

إذن فالعدوّ موجود، وهذه القدرات أيضاً متاحة في الوقت الراهن، وقد أصبحت عرضة لهجمات العدو. ولكن ما هي النتيجة؟ النتيجة هي التي ذكرناها دوماً: لا بد من معرفة العدو، والوقوف علی أساليب عمله، والاطلاع علی النقاط التي يريد العدو التسلل والهجوم منها وصدّهم عنه فيها. كالحرب العسكرية بالضبط، ففي الحرب العسكرية يقوم المتخصصون بالاستطلاع الميداني، والاستطلاع عن العدو، ويقدّرون أو يعرفون نية العدوّ، وأنه يريد الهجوم من هذا الموقع، فيغلقونه. وإن هذه الحرب القائمة اليوم في الميادين السياسية والاقتصادية، أهم من الحرب العسكرية، وأوسع نطاقاً. ولذا يجب معرفة مواطن توغّل العدو، وهذا واجبٌ في أعناق الجميع.

والآن ينبغي لنا أن نعرف ونقول: من هو العدوّ؟ قلنا بأن لنا عدوّ، فمن هو هذا العدوّ؟ لقد عرض العدو نفسه أمام أعيننا عارياً مجرداً بالكامل، ولا حاجة لأن نبحث عنه، فالعدو هو شبكة الاستكبار والشبكة الصهيونية.. شبكة الاستكبار التي تقف الولاياالعدو. نفسه أمام أعيننا عارياً مجرداً بالكامل، ولا حاجة لأن نبحث عنه، فالعدو هو شبكة الاستكبار والشبكة الصهيونية.. ت المتحدة الأمريكية على رأسها، والشبكة الصهيونية ومظهرها الكيان الصهيوني اللقيط الحاكم علی فلسطين المحتلة.. هذا هو العدوّ الذي لا يُخفي عِداءه كما هي أمريكا. فقد يقوم الرئيس الأمريكي مثلاً في يوم النيروز بفرش سفرة السبع سينات، ولكنهم في الوقت ذاته يضربون طائرة الركاب، ويصوّتون في الكونغرس الأمريكي علی كل ما يمكن استخدامه ضدّ الجمهورية الإسلامية والرئيس الأمريكي أيضاً يوقّع عليه وينفّذه. فإن مقام القول والمجاملة والحوار والابتسامة الدبلوماسية مقام آخر، يختلف عن مقام العمل، بل ويختلف حتی عن مقام التصريحات السياسية. ولكم أن تنظروا اليوم إلی أنّ ما يقوله الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية الأمريكي ومسؤولوا الاستخبارات الأمريكية ووزير الحرب الأمريكي وأمثالهم حول إيران، ليس بقول صديق، وإنما هو قول عدوّ عنود. والصهاينة أيضاً حسابهم واضح.. هذا هو العدو.

قبل عدة أيام صرّح وزير خارجيتنا المحترم في المجلس تصريحاً جيّداً - قرأتُه في الصحف - حيث قال بأن أمريكا لم تتغيّر في ذاتها، وقد صدق فيما قال، فإن أمريكا هي ذاتها التي كانت عليه في عهد ريغان دون أيّ تغيير، وهي ذات العدو نفسه. أجل، فهناك الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، وكلٌّ يرمي الكرة في ساحة الآخر، إلا أن أمريكا هي هي. وهذا الكلام الذي أطلقه في مجلس الشوری الإسلامي صائب تماماً.

ثمة تصوّر خاطئ موجود وهو أنّ «بوسعنا التساوم مع أمريكا لمعالجة مشاكلنا»، بيد أنّ هذا تصوّر غير صائب. فلا يمكننا الاتكاء على الأوهام، وإنما يجب الاستناد إلی الحقائق. أولاً وكما ذكرتُ، لا يخضع نظام كالجمهورية الإسلامية من الناحية المنطقية لمحبة وملاطفة نظامٍ كالنظام الأمريكي أبداً، وهذا أمرٌ متعذّر. وثانياً سلوكهم، فانظروا منذ ما قبل خمسين أو ستين عاماً، ومنذ انقلاب التاسع عشر من أغسطس، وبعد ذلك في عهد النظام الطاغوتي، وبعده منذ اندلاع الثورة وحتی يومنا هذا، كيف كان سلوك أمريكا تجاهنا؟ ففي عهد النظام الطاغوتي، كانت أمريكا تنظر إلی الحكومة البهلوية باعتبارها ثروة، ومع ذلك فإن الضربات التي سدّدتها أمريكا لإيران في تلك التفرة كانت ضربات مؤثرة قاضية، والمطّلعون علی التأريخ وعلی الحياة في تلك الفترة، يعرفون ويصدّقون هذا الكلام بالكامل. والقضية بعد الثورة واضحة أيضاً، فقد شرعوا منذ اليوم الأول بالخبث والعناد، وواصلوا نهجهم هذا حتی اليوم، إذن فالقضية ليست سوء تفاهم. إذ قد يشبّ سوء التفاهم بين دولتين، ويمكن حلّه بالتفاوض، وتارة يقع الاختلاف علی مساحة ترابية، فيتّفقان بينهما مثلاً بأن هذه المساحة الحدودية لي وهذه لك، وهذا ما يمكن معالجته بالتفاوض، وتسوية القضية بالتناصف، ولكن لا يمكن هنا معالجة الأمر من خلال التناصف، وإنما القضية هي أساس وجود الجمهورية الإسلامية، وهذا ما لا يمكن حلّه بالتفاوض وإيجاد العلاقات، وهو تصوّر خاطئ. وإن ما أنتجه الاقتدار والاستقلال والتقدم الناجم عن الإسلام والمتطابق معه كظاهرة في العالم، لا يمكن تقبله بواسطة الاستكبار المتجسّد في أمريكا. وهذا تصوّر خاطئ أن نزعم بإمكانية الاجتماع مع الأمريكيين والقول لهم: تعالوا لنتصالح معاً بشكل من الأشكال. فالتصالح لا يتحقق إلا بالتخلي عن قولكم.

قبل سنتين أو ثلاث، وفي أوائل انطلاق المفاوضات النووية(13)، ذكرتُ بأنّ علی الأمريكيين أن يقولوا لنا من الآن: إلی أين تتراجع الجمهورية الإسلامية حتی يقلعوا عن عِدائهم. ولو تعالجت القضية النووية، هل سينتهي الأمر؟ هذا الملف النووي قد توصّل اليوم إلی الحل، فانظروا هل انتهی الأمر؟ أم ظهرت قضية الصواريخ، ولو تعالجعت قضية الصواريخ، ستظهر قضية حقوق الإنسان، ولو تعالجت قضية حقول الإنسان، ستظهر قضية مجلس صيانة الدستور، ولو تعالجت قضية مجلس صيانة الدستور، ستظهر قضية أصل القيادة وولاية الفقيه، ولو تعالجت قضية ولاية الفقيه، ستظهر قضية أصل الدستور وحاكمية الإسلام. فالصراع لا يدور حول قضايا جزئية. ولذا فهذا التصوّر تصوّرٌ خاطئ.

ولقد دار الكلام معي كثيراً في هذا الشأن، وكان العديد من الأصدقاء يفكرون عن عقيدة ورغبة بإمكانية هذا الأمر، واجتمعنا وتحدثنا علی مدی هذه السنوات، بيد أنهم اعترفوا بعد ذلك - لا أمامي بل في غيابي ولدی اجتماعاتهم الرسمية لاتخاذ القرارات - بأن الاستدلال الذي يطرحه فلان لا جواب له، وقد صدقوا فيما قالوا، فإنّ الاستدلال الذي أطرحه في هذا المجال لا جواب له. هكذا بالنسبة لنا، والكثير من البلدان الأخری أيضاً لا ينسجم الأمريكيون معهم. فالتفتوا واعلموا بأن سياسة أمريكا الأساسية هي هضم قوی وسياسات العالم في معدة السياسات الأمريكية، وهذا لا يختص بنا. رغم أن لنا خصوصية في هذا الشأن، وثمة عِداء خاص يمارَس ضدنا، بيد أن نفس هذا الأمر جارٍ حتی بالنسبة إلی البلدان الأخری. والحال ذاته يجري في الشأن السياسي، وفي المجال الاقتصادي، وفي الموضوع الثقافي أيضاً. حيث نجد الشركات الأوروبية المنتجة للأفلام قد تذمّرت من سيطرة هوليود ومن الهيمنة الثقافية. كما نشهد تعاملهم مع فرنسا والحال أنها ليست الجمهورية الإسلامية.. هذه هي السياسات الأمريكية. ولطالما قالوا، ويواصلون قولهم، وهذان المرشحان للرئاسة الأمريكية (14) أخذوا يتسابقان مع بعض علی القول بأن أمريكا هي سيدة العالم وهي الفاعل المطلق فيه. وقبلهم بوش الأب، حين سقط الاتحاد السوفيتي، قال متغطرساً: نحن اليوم نمثل قوة لا نظير لها في العالم، وعلی الآخرين أن ينسجموا معنا، ونحن من نقوم بتحديد النظام العالمي.. هذه هي سياستهم. وبالتالي هذا عدوٌ، فكيف يمكن التساوم والتصالح معه؟

وأقولها لكم: يخال البعض بأن حالات العِداء ضدنا يعود سببها إلی أننا نقارعهم ونفقأ عينهم علی الدوام، ولذلك يعادوننا.. كلا، هذا أيضاً خيال باطل وتصوّر خاطئ. ونحن لم نكن البادئين. ففي بداية الثورة، حين تم اعتقال الأمريكيين، ومضت عدة أيام علی ذلك، أمر الإمام بأن يعودوا إلی سفارتهم بالحماية الكاملة، وإلا فقبل اقتحام السفارة الأمريكية - التي كان له أسبابه وتمهيداته - كان الأمريكيون يعيشون في هذا البلد بأمان كامل، وكانوا يترددون فيه بكل سهولة، ويمارسون أعمالهم الخبيثة بالطبع. فنحن لم نكن البادئين، وإنما هم الذين بدأوا منذ البداية، بالكلام البذيء، وفرض الحظر، والمطالبة، وإيواء أعداء الشعب الإيراني، فكانوا هم البادئين. ناهيك عن أن الأمر لا يختص بأمريكا، بل هناك بلدان أخری، فعلی سبيل المثال ما هو العِداء الذي مارسته الجمهورية الإسلامية ضد فرنسا؟ بل إن الدولة الفرنسية وبسبب مكوث الإمام الخميني مدة من الزمن فيها، حظيت حتی بإشادة العناصر الثورية، ورغم ذلك فإنكم تشهدون ماذا يصنعون، ورأيتم في القضية النووية كيف لعب الفرنسيون دور الشرطيّ السيء - علماً بأن إدارة الخطة كانت بيد أمريكا وهذا واضح، بيد أن فرنسا اتخذت أسوأ المواقف في الملف النووي - فما الذي فعلناه مع الفرنسيين؟ وهل عاديناهم؟ أو أنّ بلداً صغيراً كهولندا مثلاً، تجدونه في كل قضية لها صلة بالجمهورية الإسلامية، ضمن قائمة الأعداء! ولكن ماذا فعلنا مع هولندا؟ وما هو عِداؤنا تجاهها؟ فهو بلدٌ صغير في زاوية من زوايا أوروبا. إذن فالكلام لا يحوم حول أننا نعاديهم ونقارعهم. أو كندا علی سبيل المثال التي قطعت علاقاتها معنا، فهل كنا قد عاديناها وخاصمناها؟ ليست هذه هي القضية، وإنما هي شيء آخر. فلا ينبغي لنا أن نخادع أنفسنا ونقول: لنقلع عن عدائنا، ليكفّوا عن عدائهم.. كلا، بل هناك دوافع ومسائل أخری خلف الكواليس، وقد بيّنت جملة منها.

والآن ما هو واجبنا؟ الواجب هو تحصين البلاد، وهذا واجب في عنق المسؤولين. فإن كل الأعمال التي أنجزتها الحكومة أو التي تريد إنجازها في المجال الاقتصادي ونحوه، بحاجة إلی أن تكون البلاد في حصانة وصيانة، فما هي وظيفتنا لإيجاد هذه الحصانة، أو العمل علی زيادتها إن كانت موجودة؟ يجب علينا أن نزيد من هذه القدرات التي أشرت إليها يوماً بعد آخر. وهذا هو الذي ورد في القرآن الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومن رباط الخيل﴾(15). فالقوة تشمل كل هذه الأمور، ولا تختص بالبندقية والسلاح وما شاكل، وهي أعم من القوة المادية والمعنوية، والقوة الاقتصادية والعسكرية، والقوة العلمية والأخلاقية.. ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾. فهذا هو العمل الذي يجب علينا إنجازه، علماً بأنه يقع علی عاتقنا؛ أي أن الذي يجب عليه التصدي لهذا العمل، هو نحن المسؤولون، والناس علی أثرنا ينزلون إلی الساحة ويمارسون أعمالهم. إذن يجب أن نزيد من القدرات والإمكانيات.

والزيادة هذه تشمل: تعزيز الإيمان الإسلامي، وهي وظيفة تقع علی عاتق الحكومة، والحوزات العلمية، والأجهزة الإعلامية، ووزارة الإرشاد، ومنظمة الإعلام الإسلامي. فلا بد لكم من إرساء دعائم الإيمان الإسلامي، وهو واجب في عنق كل من له صلة بالشباب، كالجامعات ووزارة التعليم والتربية. وهذه وظيفة كبری تقع علی عاتق هؤلاء جميعاً، ويجب عليهم التصدي لها. وتشمل الاقتدار العلمي، وهو واجب وزارة العلوم ومراكز الأبحاث والدراسات. ولتحاول الأجهزة التي تتولی تعزيز الجانب العلمي، أن تنأی بنفسها عن القضايا الهامشية، إذ أحياناً ما يشاهد المرء نشوب مسائل هامشية في بعض هذه الأجهزة. ومن المفترض أن يكون جميع السادة المسؤولين علی هذه القطاعات حاضرين هنا، فليسمعوا: أبعدوا أنفسكم عن القضايا الهامشية، وتعرضوا للقضية الأساسية وهي تعزيز العلم. وتشمل الجانب الاقتصادي أيضاً، وسأتحدث قليلاً حول الاقتصاد، والوقت أيضاً قد أدركنا. وتشمل الدفاع كذلك، وعلی كافة الأجهزة المعنية بالقطاع الدفاعي - بما فيها وزارة الدفاع، والجيش، والحرس الثوري - أن يبذلوا قصاری جهدهم فيما يخص الجانب الدفاعي. وتشمل قضية الشباب التي تطرقنا لها، والجيل الشاب، واستثمارهم، وتعزيز الشباب المتسم بالحيوية والاندفاع.

لقد تحدثت في مرقد الإمام الخميني (رضوان الله تعالی عليه) بعض الشيء حول الشباب المؤمن الثوري (16)، فأطلق البعض ضجيجاً، وعمدوا إلی ما يسمی بإفشاء الأسرار، بأن فلاناً يقوم بتقوية الشباب الثوري. بيد أن هذا لا يعتبر إفشاءاً للأسرار، فإنه أولاً ليس بالشيء الجديد، وإني دوماً ما أفعل ذلك، وسأفعله بعد الآن أيضاً. وثانياً ليس بالأمر الخفي، بل هو جليّ بيّن، فإني دعمتهم مراراً وتكراراً، وهذا واضح، وإني أحبّ الشباب الثوري المتدين المتواجد في أرجاء البلد، وهذا هو واجبنا. إذ لا يمكننا من حيث القِيَم، أن نعتبر الشاب الذي يقضي شبابه وقوته وطاقته ومحفزه في سبيل أهداف النظام العليا، والشاب الذي يلهث وراء الشهوة والتبرّج وأمثال ذلك، كلاهما على حد سواء. أجل، فإنهم جميعاً من حيث الحقوق الاجتماعية سواسية، ولكنهم من حيث المبادئ والقيم غير سواسية أبداً. فإن الشاب الذي يكدّ، ويسعی، وينفق وقته، وطاقته، وأحياناً أمواله الزهيدة - وهذا ما هو موجود بالفعل - في سبيل الأهداف والجهاد، من الواضح أنه يختلف عن غيره. وإني دوماً ما كنتُ أدعمهم، وسأدعمهم بعد الآن أيضاً.

والآن أودّ أن أنبّه إلی نقطتين: الأولی قضية الاقتصاد التي تعرض لها السيد الدكتور روحاني لحسن الحظ، وبدوري سأستعرض بعض النقاط فيها، والثانية هي قضية الاتفاق النووي.

نحن نعاني في الجانب الاقتصادي من بعض المشاكل، والبلاد تشهد في القضايا الاقتصادية معضلات أساسية، علی أمل أن يتم معالجتها بإذن الله من خلال برامج الحكومة والأعمال التي تريد إنجازها. وأهم هذه المشاكل هي الركود الاقتصادي، وقضية فرص العمل والبطالة.. هذه هي الأهم. وعلينا التصدّي لها، والاهتمام بها. فإن الركود قضية بالغة الأهمية. وإني حينما أنظر إلى هذا الجانب - وهذا ما ذكرته للحكومة السابقة أيضاً - أجد أن المشاكل قبل أن تكون ناتجة عن الحظر، ناجمة عن السياسات والخطط الإدارية، وهذا ما يمكن للمرء مشاهدته في هذه الحكومة، وفي الحكومة السابقة كذلك، وفي الحكومة الأسبق أيضاً. ولو كانت برامجنا تتسم بالجودة والصواب، لكانت العقوبات لا نقول أنها تفقد تأثيرها، بل يتضاءل تأثيرها إلی حدٍّ كبير. فلا بد من تنظيم البرامج وترتيبها وإمعان النظر فيها.

وإن من الأمور الهامة علی نحو التحديد في المجال الاقتصادي، والتي تتسبب إلی حدّ كبير في معالجة الركود وتوفير فرص العمل، هي الاهتمام بالصناعات الصغيرة والمتوسطة في القطاع الصناعي. القطاع الذي قرأتُ في الصحف عن لسان وزير الصناعة المحترم قوله في المجلس بشأنه أن أوضاع الصناعة مأساوية - وأنقل لكم مضمون العبارة ولا أعلم ما قاله بالضبط - والمأساة هذه تعود في الأغلب إلی الصناعات الصغيرة والمتوسطة. فلا بد أن يدخل إحياء هذه الصناعات ضمن برامج الحكومة الأساسية، وهو يعتبر من أركان الاقتصاد المقاوم. وإن من المسائل التي يجب أخذها بنظر الاعتبار، هي إمكانيات المعامل والمصانع التي تفوق أداءها بعدة أضعاف؛ أي أنها تعمل دون مستوی إمكانياتها وطاقاتها بكثير.

والنقطة الأخری هي قضية الأولويات، فلا بد في اتخاذ القرارات الاقتصادية أن نأخذ الأولويات بنظر الاعتبار. فأحياناً ما يكون عملٌ ضرورياً وهاماً للغاية، ولكنه لا يتسم بالأولوية؛ بمعنی أن هناك عملٌ أكثر منه ضرورة. وهذه قضية باعتقادي فائقة الأهمية. فإني أحمل تجربة الحكومة، حيث كنتُ في الحكومة من جانب، وشاهدت العديد من الحكومات من جانب آخر. فإن وزراءنا الأعزاء المحترمين كلٌّ يجرّ النار إلی قرصه، علماً بأنّ هذا هو تكليفهم وواجبهم بأن يدعموا قطاعهم، ونحن لا نذمّ ذلك. فإن وزير الزراعة، ووزير الصناعة، ووزير الطرق، ووزير الطاقة، كلٌّ بطريقة يسعی إلی جرّ إمكانيات البلد وميزانيته إلی جانبه، ولكن لا بد هنا من النظر إلی الأولويات. ولو افترضنا أن أموالنا المجمّدة في البنوك الأجنبية قد استُعيدت - ولم يتم استعادتها بالطبع حتی الآن، وليس من المعلوم متی سيتحقق ذلك، وسوف أتعرض لهذا الموضوع - ففي أيّ مجال سننفقها؟ وهذا أمرٌ بالغ الأهمية. فلا بد من مراعاة الأولويات. ولأضرب الآن مثالاً، ويبدو أني ذكرت هذا المثال للوزير المحترم نفسه، فلنفترض أن أسطولنا الجوي بحاجة إلی تحديث وتجديد، وهو عملٌ هام وضروري، ولكن هل يشكل الأولوية؟ وهل يتصدّر الأولوية في البلد؟ أو أن نقوم علی سبيل المثال بشراء ثلاثمئة طائرة، ولكن ليس من المعلوم أنه يمثل الأولوية. وهذا ما تجب دراسته، وإني بالطبع لا أعطي رأياً تخصصياً فيه، وإنما أنبّه لإنجاز الدراسات التخصصية في هذا المجال، ولمراعاة الأولويات.. هذه هي إحدی القضايا التي تقع علی جانب كبير من الأهمية.

ومن المسائل البالغة الأهمية، هي الاهتمام بالشركات المبنية علی المعرفة، فإن هذا سيتقدم بنا إلی الأمام. لأن هذه الشركات علمٌ واقتصادٌ كذلك. والاهتمام بها يعتبر من أكثر الأعمال أساسية، ومن الأولويات التي يجب التصدي لها. علماً بأن بعض هذه الشركات تقدّم لنا الشكاوی في تقاريرها، وهذه نقطة يجب علی المسؤولين أخذها بعين الاعتبار.

ومن الأعمال الهامة والضرورية الأخری، هي الحؤول دون إبرام الاتفاقيات غير الضرورية. فقد بلغتني التقارير بأننا بعد القضية النووية، وقّعنا علی اتفاقيات تبلغ نحو 2.5 مليار دولار، علماً بأن المباحثات والتفاهمات ونحوهما تفوق ذلك، بيد أن الذي تم التوقيع عليه - بحسب التقرير الذي بلغني - يصل إلی ما يقرب من 2.5 مليار دولار، ونظرت فيها، فوجدت أنها تتعلق علی سبيل المثال بالطاقة الشمسية، ولكن هل تعتبر هذه هي الأولوية؟

ولو كانت هناك حقاً مصادر مالية أجنبية أو كان هناك تمويل، يجب علينا أن نفتش عن الأولوية لنستثمرها في ذلك الموقع، ولو أراد أحدٌ استمثار رؤوس أمواله هنا، فلنقل له بأننا نحتاج إلی الاستثمار في هذا القطاع. ولا يكون بحيث يستطيع أن يستثمر أمواله حيثما شاء.. هذه أيضاً قضية.

والقضية الهامة الأخری هي الحؤول دون الاستيراد الضارّ الذي كررته في الآونة الأخيرة لعدة مرات. وهو الاستيراد الذي يوجد له مثيل في الداخل، أو الاستيراد الذي لا يدخل في عداد الاحتياجات الأولی والحالية للبلاد. فما هي الحاجة مثلاً إلی استيراد السيارات الفاخرة بالسرعة الفائقة؟ يقولون إن الذي يستوردها هو القطاع الخاص، ولكن بمستطاع الحكومة أن تحول دون ذلك بشتی الأساليب كالرسوم وغيرها. فلا ينبغي إهدار مصادر البلاد المالية - بما فيها أنواع التمويل والأموال المجمدة التي يتم استعادتها -. فإن الصناعات المعطّلة، والاقتصاد القائم علی المعرفة، وتبديل الماكنات المستهلكة في صناعاتنا، تدخل في عداد الأولويات.

وكذلك القطاع الزراعي الذي يسوقنا إلی الاكتفاء الذاتي، ولحسن الحظ فإن التقرير الذي قدّموه هذا اليوم، يدل علی أننا تقدّمنا في هذا المجال. علماً بأني لم يبلغني تقرير في ذلك.

وكذا قطاع البترول، فإن إنتاج النفط بنسبة عالية، يعتبر نقطة إيجابية في ثقافة النفط وبيعه وسوقه. وإن من المطلوب الزيادة في الإنتاج وفي الصادرات النفطية، والبلد أيضاً بحاجة إلی ذلك، وهذا مما لا شك فيه، ولكن الأمثل، أن نجعل النفط يكتسب قيمة مضافة. فإن النفط الذي نستخرجه من الآبار، ونبيعه، ونستلم الأموال في قباله، لا يحمل أي قيمة مضافة، بل ويقلّ يوماً بعد آخر. ولو استطعنا أن نبدّل النفط أو الغاز إلی منتوجات ذات قيمة مضافة للبلد، فهو أمرٌ مطلوب. ولتقم سياستكم - إلی جانب الأعمال التي يتم إنجازها لإنتاج النفط وبيعه وإصلاح آباره وما شاكل ذلك - علی أساس إمكانية إنتاج مشتقات البترول وتصديرها وتصدير البنزين أيضاً. فلماذا يجب علينا استيراد البنزين؟ إن من الأمور التي تسوق المرء إلی الخجل إذا ما فكّر فيها أحياناً، هي استيراد البنزين. فإن الجمهورية الإسلامية تتمتع بكل هذا الخزين النفطي - الذي تفتخر به دوماً أمام شعبها وأمام العالم بأنها تمتلك أكبر احتياطي النفط والغاز معاً في العالم، وهذا هو واقع الأمر - وإذا بها تستورد البنزين وزيت الغاز! فلا بد أن نعمل ما من شأنه الاستغناء عن استيراد زيت الغاز والبنزين، والقيام بإنتاج المشتقات وتصديرها. أو أن نقوم في قطاع الغاز، بتفعيل الصناعات البتروكيماوية التحويلية، فإن الصناعات الأساسية جيدة وقد قدّمت إنجازات مطلوبة ولحسن الحظ، ولكن ينبغي تفعيل الصناعات التحويلية، وهذا سوف يؤدي إلى توفير فرص العمل.

والمكافحة الجادة للتهريب بأساليب جهادية ثورية. فإن التهريب قضية بالغة الأهمية، ولا يمكن تسيير الأمور في هذا الجانب بالمزاح والتراخي في العمل وأمثال ذلك، بل لا بد من عملٍ جهادي ثوري حاسم.

وفي ما يخص الاقتصاد المقاوم الذي نكرّره دوماً، يقال إنه بحاجة إلی مصادر مالية ونحن لا نمتلكها. وباعتقادي يمكن توفير هذه المصادر لانطلاقة حركة الاقتصاد المقاوم، ولحسن الحظ فقد بدأت أعمال جيّدة في هذا المضمار. ويقال إن إيداعات الناس في البنوك بالعملة الصعبة والعملة الوطنية تشكّل رقماً باهظاً. ولأني لم أرَ أصل التقرير، وإنما نقلوا لي ذلك، لا أذكر الرقم، لئلا يحصل خطأ في النقل، إلا أنه رقم باهظ جداً. والواجب علينا هداية هذه الموارد، فإن من مهام أجهزة الحكومة الاقتصادية، هي هداية الموارد وتوجيهها بالاتجاه الذي يصبون إليه، وبالاتجاه الذي يصبّ في مصلحة البلد، وذلك من خلال صنوف المشجّعات وأمثالها، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية. وعلی المجلس بالطبع أن يساهم في هذا الموضوع. إذن فهذه هي الأعمال الرئيسة التي يجب إنجازها في الاقتصاد المقاوم، فإن فيه واجبات ومحظورات، ولا بد من النظر إلی واجباته والنظر إلی محظوراته كذلك، وبمجموعها يتحقق الاقتصاد المقاوم الذي نأمل أن يتقدم إلی الأمام إن شاء الله.

ولنتجاوز الآن عن هذ القضية إذ لم يبق وقتٌ للغروب، ولنتناول موضوع الاتفاق النووي.. إن لهذا الاتفاق مؤيدين ومعارضين، وباعتقادي كلا الفريقين يبالغان ويضخّمان في المسألة، فكلمات المؤيدين في الثناء والإطراء علی الاتفاق فيها تهويل، وانتقادات المعارضين أيضاً فيها مبالغة وتضخيم أحياناً، وبرأيي كلام كلا الطائفتين ليس في محله.

ففي الاتفاق النووي نقاط إيجابية، ونقاط سلبية، وفيه محاسن وعيوب. فمحاسنه هي التي حثّتنا وشجّعتنا على التوجه نحو المفاوضات، وتعلمون بالطبع أن هذه المفاوضات بدأت قبل الحكومة الحادية عشر، وذلك لنفس هذه المشجعات. أي أنّ هناك محاسن كانت تتبادر إلى ذهن الإنسان في هذه العملية، غير أنها لم تتحقق بالكامل، بل لم يتحقق الكثير منها، ولكن كانت هناك محاسن بالتالي، وكان الإنسان يشعر أنه قد تفضي هذه العملية إلى هذه النتائج الحسنة. فانطلقت هذه المفاوضات، واتسعت رقعتها وزادت نشاطاتها بالطبع في حكومة السيد روحاني.. هذه هي المحاسن.

ولكن ما هي العيوب؟ إنها هي الأمور التي كنا نخشاها دائماً ونؤكّد عليها مراراً وتكراراً ونقول: إن الجانب الآخر ناكثٌ للعهود، وسيّء الطوية، ينقض وعوده، ولا يفي بتعهداته، ولا يعمل بالتزاماته.. هذه هي العيوب. والاتفاق النووي ينطوي على ثغرات، تؤدي إلى إمكانية بروز هذه العيوب، ولو كانت قد أُغلقت، لقلت هذه النقاط السلبية أو لزالت بالمرة.

وما أقوله بشأن الاتفاق النووي، لا يرتبط بهؤلاء الإخوة الأعزاء الذين شاركوا في المفاوضات مطلقاً، فإنهم قد أنجزوا مهمتهم، وبذلوا سعيهم، وجدّوا واجتهدوا حقاً. وهذا ما كان على مرأى ومشهد منا، حيث ذهابهم وبقاؤهم هناك - وأظن أنهم في العام الماضي قضوا مدة من شهر رمضان في تلك البلاد - وهذا ما يستلزم عناءاً مريراً، وقد تجشّموا هذا العناء. راجياً أن يقع عملهم هذا مرضياً عند الله تعالى، ونحن كنا ومازلنا ندعو لهم، وإنما أقصد في كلامي الجانب الآخر الذي يواجهنا في المفاوضات.

وأما فيما يخص الاتفاق النووي، وهذه الوثيقة، فإنها - كما ذكرت - تنطوي على ثغرات وفجوات وزوايا كثيرة الغموض والإبهام أدت إلى أن يتمكن العدو والطرف الآخر من سوء استغلالها. علماً بأننا لا ننقض الاتفاق النووي بادئ ذي بدء، فليعلم الجميع ذلك! نحن لا ننقض الاتفاق، ولكن لو قام الجانب الآخر بنقضه، كما نشاهد التهديد المتواصل لهؤلاء المرشحين لرئاسة الجمهورية في أمريكا بأننا نمزق الاتفاق النووي وننقضه، فلو مزّقوه لأحرقناه. أما أننا لا ننقض الاتفاق، فهذا يستند إلى التعليم القرآني القائل: ﴿أَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾(17)، حيث أبرمنا معاهدة بالتالي، ولا نريد نكثها. وأما أنهم لو نقضوها، سننقضها نحن أيضاً، فهذا هو الآخر الذي يعتمد على الآية القرآنية القائلة: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾(18)، أي إن نقض الطرف الآخر فانقض أنت أيضاً، وقوله: ﴿فَانْبِذْ﴾، يعني: اِرمِ به صوبه وارفضه. وعليه فإننا نتّبع الأسس القرآنية، سواء في هذا الجانب من القضية أم في ذاك.

لقد كان واجب الطرف الآخر إزالة العقوبات، ولكنه لم يفعل ذلك، وهي مازالت قائمة. وفي الواقع فإنه أزال جانباً من الحظر بنحوٍ من الأنحاء، ولكنه لم يتحقق عملياً. إذ تعلمون أن مدار البحث، كان يدور حول العقوبات الثانوية، وأما العقوبات الأولية فقد حافظوا عليها بكل قوة، وهي تترك بصماتها على العقوبات الثانوية. وإني أرجو من القائمين على الأمور أن يدققوا في القضية، وأن لا يكرّروا القول بأن العقوبات قد أزيلت.. كلا، فقضية التعامل بين البنوك لم تُعالَج، والبنوك الكبيرة لا يتعاملون معنا. علماً بأن أمريكا تقول: وما شأننا بذلك! إلا أنه كلام نابع عن خباثة، والأمر يعود إليهم. ففي حوار دار بين السيد الدكتور ظريف - ولا أدري هل هو حاضر في هذه الجلسة أم لا - وبين وزير الخارجية الأمريكي، قال الدكتور ظريف بأن مشكلة المصارف الكبيرة لم يتم معالجتها، فأجابه هذا أمرٌ لا شأن لنا به، فقال له على الفور، بل الأمر يعود لكم، ولو كنتم تريدون ذلك لاستطعتم، ولكنكم أنتم ووزارة الخزانة الأمريكية من يقف حائلاً أمام ذلك. نعم، فإنهم يشاركون في الاجتماع القائم حول قضية البنوك، ويقولون لا إشكال في أن تتعاملوا مع إيران، ولا مانع لدينا في ذلك، هذا في مقام القول، ولكنهم في مقام العمل وفي بيان آخر، يتكلمون بالطريقة التي لا يجرأ أحدٌ على التعامل. فبالنسبة إلى البنوك هل يوجد أفضل من أن تدخل في معاملة مع سوق يبلغ تعداده ثمانين مليون نسمة كسوق إيران، فالبنوك لا مانع لديها في ذلك، وإنما هناك حائل أمامها وهو تهديد أمريكا. قبل يومين أو ثلاث، قال أحد المسؤولين الأمريكيين بأننا لا نَدَع إيران في راحة، ولا نسمح لها أن تشعر بالاستقرار والارتياح، فلو أن مسؤولاً رفيع المستوى في الإدارة الأمريكية يتحدث بهذه الطريقة، هل سيجرأ البنك الفلاني أن يتعامل مع إيران؟ نعم، جاءت مجموعة من البنوك الصغيرة، ولكن لأجل إبرام الاتفاقيات والمعاملات الحقيقية والاستثمارات لا بد من نزول البنوك الضخمة إلی الساحة، إلا أنها لم تفعل، وليس من المعلوم أنها متى ستفعل ذلك. وهذه هي من الإشكالات الكبرى. فقد ارتكب الجانب الأمريكي هذا الذنب الكبير وهذه المخالفة الكبرى، ولا ينبغي لنا أن نبرر سلوكهم. أجل، فإنهم يصدّرون القرارات، ولكن القرار يختلف عن الحقيقة.

وكذلك الحال في قضية تأمين ناقلات النفط. فإنها من الأمور الهامة في التعاملات النفطية. وقد وافقوا على سقف محدود لهذا التأمين، ولكنهم لم يوافقوا على التأمين في المستويات الضخمة - إذ قد تصل المبالغ في التعاملات النفطية إلى المليارات -. والسبب في ذلك أن الأمريكيين أعضاء في هذه المنظمات، وبإمكانهم الحيلولة دون ذلك. وبالتالي فإنهم لم ينفذوا جانباً كبيراً من تعهداتهم.

ونحن قد دفعنا الأثمان مسبقاً، حيث أوقفنا عملية التخصيب بنسبة عشرين بالمئة، وقمنا بتعطيل مفاعل فوردو تقريباً، وإغلاق مفاعل أراك.. هذا ما دفعناه من الأثمان مسبقاً، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يتوقعون المزيد. وأقولها هنا - إن كان السيد الدكتور صالحي (19) حاضراً - لا توافقوا ولا ترضخوا مطلقاً لتوقعاتهم في خصوص ألياف الكربون المستخدمة في صناعة أجهزة الطرد المركزي، أو توقعاتهم في قياس 300 كيلو من المواد النووية. فإنهم يطلبون المزيد باستمرار، رغم كل هذه الأثمان التي دفعناها مسبقاً. وعلى أي حال فالطرف الآخر لم يلتزم بتعهداته.

واليوم لو أردنا الحصول على عائداتنا النفطية، فإنها عملية صعبة ومكلفة كذلك. وأموالنا المجمّدة في سائر البلدان لا ولم يتم تسليمها لنا، رغم أن البعض منهم قد واعدنا على ذلك. علماً بأن هناك بلد واحد وعدنا به بحسب ما قاله السيد رئيسة الجمهورية لي، بيد أن أموالنا غير محتجزة في بلد واحد، وإنما هي محتجزة في بنوك بلدان عدة، ولكن بما أنّ هذه الأموال بالدولار، والدولار مرتبط بأمريكا، لا يمكنهم تسليمها، والسبل قد أغلقت أمام هذه العملية. هذا هو العِداء الأمريكي، أفهل العِداء شيء آخر؟ وبالتالي فإنهم لم يعملوا بتعهداتهم.

وانطلاقاً من هذا، فالذي أريد قوله هو أن الصناعة النووية تعتبر صناعة استراتيجية لبلدنا، ولا بد لهذه الصناعة أن تبقى وأن تتسع دائرتها وأن لا يتم المساس بها. ووجود هذه الصناعة يترك تأثيره حتی على تحصين البلاد وتحقيق الأمن فيها. ولا بد من صيانة القدرات العملية للصناعة النووية والمنظمة النووية، والحفاظ على كوادرها الإنسانية، وعلى إمكانية العودة إلى الوضع السابق، وهذه الإمكانية متاحة حالياً ولحسن الحظ، وأقولها لكم: خلال أقل من ستة أشهر، يمكننا بنفس تلك الأجهزة القديمة - IR1 - إيصال البلد إلى 18 ألف سو.. هذه إمكانية متاحة حالياً خلال أقل من ستة أشهر، فلا يخال الطرف الآخر أنّ أيدينا مغلولة. كما وتتوافر لنا عبر الجيل الثاني والثالث من أجهزة الطرد المركزي - 4IR -، وخلال أقل من سنة ونصف، إمكانية الوصول إلى 100 ألف سو.. هذه إمكانيات موجودة حالياً في منظمة الطاقة النووية، فليستثمروها، وليقفوا في وجه الطرف الآخر، ولكن دون اللجوء إلى المبادرات المتسرّعة. وليعملوا كل ما بوسعهم لمجابهة ما تضعه أمريكا من عراقيل وعقبات، ولحسن الحظ، فقد قال وزير الخارجية المحترم، ورئيس الجمهورية المحترم - في هذا المكان وفي المجلس وفي أماكن أخرى - بأنهم سيتابعوا الأمر، وعليهم متابعته بصورة جادة. والتفتوا إلى أن «الحق يُؤخذ» كما هو المشهور، ولاسيما من ذئبٍ كأمريكا، حيث يجب انتزاعه من فمه، فإنه لا يأتي ويقدّم لنا الحق بكلتا يديه. ولا بد لنا أن نحافظ على قدراتنا أمام أخطائهم وعراقيلهم، على الرغم من أننا لا ننقض الاتفاق النووي ما لم ينقضوه بالكامل.

وأقول لكم بأننا ومن خلال اقتدارنا العلمي والتقني استطعنا أن ننتزع من الأمريكيين ما يمكن انتزاعه في هذا المضمار، ومعنى ذلك أنه لولا قدرتنا على التخصيب بنسبة عشرين بالمئة، وعلى صناعة أجهزة الطرد المركزي المتطورة، لما أمكننا بالتأكيد إرغامهم على قبول عدة آلاف من أجهزة الطرد المركزي والاعتراف بها وعدم التحجج فيها، وموافقتهم كانت ناجمة عن ذلك الاقتدار. فلو تبدّد هذا الاقتدار، لازدادت ضغوط الطرف الآخر، وكلما تعاظم هذا الاقتدار، كلما ازدادت قدرة ضغوطنا على الجانب الآخر، ولذا لا بد من صيانة هذه القدرات.

ولقد عيّنا هيئة إشراف [على تنفيذ الاتفاق النووي]، وأقول بأن توقّعي من هيئة الإشراف أن تقف بدقة ومراقبة متزايدة، وأن تعمل بوظيفتها حقاً حيال كل نقطة تشعر أن الجانب الآخر يرتكب فيها خيانة ويسيء فيها التصرف، دفاعاً عن المصالح الوطنية.

إلهنا! نقسم عليك بحق محمد وآل محمد أن تجعل ما قلناه وطلبناه ونويناه وهممنا به، لوجهك وفي سبيلك، وأن تتقبله منا بكرمك، وأن تسبغ لطفك ورحمتك على الذين يخدمون في هذا البلد، وأن تتغمّد إمامنا الخميني العظيم وشهداءنا الأبرار، ومضحينا الأعزاء بلطفك ورحمتك.

والسلام علیکم ورحمة الله

 

 

الهوامش:

1 - في بداية هذا اللقاء تحدث حجة الإسلام و المسلمين الشيخ حسن روحاني رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران.

2 - سورة الزمر، جزء  من الآية 54 .

3 - إقبال الأعمال، ج 1 ، ص 90 .

4 - سورة الأنفال، جزء من الآية 25 .

5 - سورة النساء، جزء من الآية 79 .

6 - سورة آل عمران، جزء من الآية 155 .

7 - سورة التوبة، الآية 77 .

8 - سورة الروم، جزء من الآية 10 .

9 - ديوان شعر "بوستان" للشاعر سعدي الشيرازي، بقليل من الاختلاف.

10 - من كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم في لقائه بأساتذة الجامعات بتاريخ:  2005/10/05 .

11 - ستاكسنت، فايروس كومبيوتري تم تصميمه من قبل أعداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية للتخريب في معداتها النووية.

12 - كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم في لقائه بمسؤولي النظام الإسلامي بتاريخ:  2012/07/24.

13 - كلمة سماحته في لقائه جمعاً من الطلبة الجامعيين و طلبة المدارس بمناسبة اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار بتاريخ:  2013/11/03.

14 - دونالد ترامب وهيلاري كلينتون.

15 - سورة الأنفال، جزء من الآية 60 .

16 - بتاريخ:  2016/06/03.

17 - سورة الإسراء، جزء من الآية 34 .

18 - سورة الأنفال، جزء من الآية 58 .

19 - الدكتور علي أكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة النووية في إيران.