موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال لقائه جمعاً غفيراً من النخب العلمية الشابة في جامعات البلاد.

 

بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.(2)

تمرّ علينا أيام هامة وهي أيام محرم الحرام. ومحرم لا يتلخّص في العشرة الأولى، وإنما حادثة تأريخية عظيمة وقعت في هذه الأيام لا ينقضي أمدها. وهذا لا يعني أنها تستمر بوقوع نظائرها وأشباهها - وهو بحث آخر محفوظ في محله - بيد أن نفس هذه الواقعة تسطع كالشمس التي لا غروب فيها. إذ تارة تحدث حادثة عظيمة في هذا اليوم، وتذهب في غد أدراج الرياح، غير أن هذه الحادثة كالشمس التي لا أفول لها، ما انفكّت تسطع حتى هذا اليوم، وستبقى مشرقة إلى الأبد. وهي تجسّد صورة حية حقيقية من مجابهةٍ بين النور والظلمة، ومواجهةٍ بين الحق والباطل، ومقارعةٍ بين الشرف واللؤم والدناءة، علماً بأنها بلغت ذروتها في يوم عاشوراء، إلا أن مقدماتها قد تهيأت منذ أوائل شهر محرم وقبل اليوم العاشر، ثم استُكملت حادثة عاشوراء بعد هذا اليوم أيضاً - وفي مثل هذه الأيام - بقيادة زينب الكبرى والإمام السجاد (عليهما السلام). ومن هنا فالأيام هذه تتسم بأهمية بالغة. ولقد حالفني التوفيق والحظ حقاً أن ألتقي بكم أنتم الشباب الأعزاء في هذه الأيام، فإنه بالنسبة لي توفيق استثنائي وهذا ما أتوسّم به خيراً.

لقد سُررت كثيراً بلقائكم أنتم الأعزاء النخبة. إن المسائل التي نتحدث بها ونستمع إليها في شأن موضوعات هذه الجلسة على مدار السنة، مستمرة على الدوام. فإني أسمع وأقرأ نظير هذه الموضوعات التي بيّنها هؤلاء الشباب الأعزاء هنا، طيلة العام وفي تقارير مختلفة، ولو كنت قادراً على القيام بما يرتبط بها أقوم به. والقضايا التي سنتناولها حالياً، هي نفسها التي تحدثتُ عنها طيلة السنة في لقاءات مختلفة، سواء مع الجامعيين أو مع الفئات الأخرى، سوى أن نفس هذا اللقاء وهذا المجلس يعتبر بالنسبة لي جذاباً وممتعاً، حيث يجتمع في هذا المكان شبابنا النخبة - وسأتكلم في وصفكم ببضع كلمات - ونحن نتحدث إليهم.

أولاً تعتبر النخب - ولا سيما الشباب النخبة - هدايا إلهية نفيسة لكل شعب وبلد. والبلاد برمتها لا تتمتع بمثل هذه الهدايا بهذا الحجم وهذه السعة وهذا العدد الهائل. وهذه هي واحدة من خصائص بلدنا الذي تتوافر فيه مواهب إنسانية بنوعية مطلوبة وكمية كبيرة؛ هذه من السمات الخاصة ببلدنا التي يقل نظيرها، وهي هدية إلهية نفيسة وقيمة للغاية. والواجب الملقى على عاتق المسؤولين في هذا الخصوص هو تثمين هذه الأمانات وحفظها، فإن هذه الهدايا أمانة بيد المسؤولين، من مؤسسة النخبة والسيد الدكتور ستاري، إلى المجلس الأعلى للثورة الثقافية، إلى وزارة التعليم العالي، إلى وزارة الصحة والعلاج، إلى وزارة التعليم والتربية، وإلى سائر مرافق الدولة التي يمكن أن تكون لها صلتها بالقوى الإنسانية والطاقات الشابة. فلابد من صيانة هذه الأمانة النفيسة والحفاظ عليها بدقة بالغة، والشعور بالمسؤولية لتناميها وتكاملها في الوقت الذي تتوافر فيها هذه القابلية.

إن الإنسان كائنٌ مختارٌ من جانب، حيث منحه الله تعالى الإرادة والاختيار ليفعل أو لا يفعل، والمسؤولية هي من لوازم الاختيار، فلو لم يكن المرء مختاراً في عملٍ ما، لا يتحمل مسؤوليته، ولو كان مختاراً سيكون بالطبع مسؤولاً. ولقد خلقكم الله سبحانه وتعالى أنتم النخب مختارين، فبإمكانكم استثمار هذه العطية والنعمة الإلهية - وهي الموهبة الجيدة والمتميزة - أو عدم استثمارها، كما بإمكانكم توظيفها في الطريق الصحيح، أو عدم توظيفها في الطريق الصحيح؛ كلاهما ممكن ومتاح، إذن فإنكم مسؤولون أيضاً، والمسؤولية هذه لا تقع على عاتق أولئك الذين يحملون الأمانة وحسب، بل أنتم من يحمل هذه الأمانة في الدرجة الأولى، وأنتم من يتحمل هذه المسؤولية أيضاً. والمسؤولية الأولى والأكبر، هي شكر الله سبحانه وتعالى الذي منحكم هذه النعمة وهذه الموهبة، ولكن ماذا يعني الشكر؟ يعني أن تعلموا أولاً بأنّ هذه نعمة، وأنها نعمة من الله، وأنكم مسؤولون تجاهها، وتلك المسؤولية هي أن تستثمروا هذه النعمة في محلها؛ هذا هو الشكر، وهذه هي الأركان المقوّمة للشكر، فإن الشكر لا يقتصر على اللسان، وإنما يشمل كلّ ما ذكرناه.

وأقولها لكم: لماذا نحن نكنّ كل هذه الأهمية للشاب وللعلم وللنخبة وللموهبة العليا، ونُسعَد بلقياهم، ونخصّص وقتاً لهم - واعلموا أننا حقاً نخصص وقتاً لهم -، ونبذل الجهود والهمم من أجلهم؟ لماذا؟ لأنّ لدينا ماضٍ مرير، حيث زرقوا فينا، ولفترة طويلة، جينة العجز والإعياء والتبعية للآخرين، وتولّد، ولمدة طويلة، منذ العهد القاجاري وإلى العصر البهلوي، في نفوس أبناء شعبنا - نفس هذا الشعب الموهوب - شعور باطني بعدم الاستطاعة وعدم القدرة، وغرسوا هذا الإحساس فينا وفي المجتمع الإيراني؛ هذا هو ماضينا. فنتج من ذلك أن قد تم تعريف هويتنا - نحن كشعبٍ - في ذيل الغرب. وهناك أقوال تأريخية واجتماعية وتحليلية كثيرة في هذه المجالات، ولكن لا يسع المجال للخوض فيها، ولا أننا اجتمعنا من أجلها.

إنّ الغربيين والأوروبيين وبسبب العلوم التي سبقوا الآخرين في اكتسابها ورفعوا أنفسهم بها، باتوا ينظرون إلى الشعوب الأخرى ومنهم شعبنا بمثل هذه النظرة، وراحوا يمتهنون شعوباً بهذه الثقافة العريقة والعميقة والماضي المشرق بحيث صنّفوهم في صنف أذنابهم وأذيالهم. ولقد تحدثتُ مرة أو مرتين في الخطابات العامة (3) حول مصطلح «الشرق الأوسط»، فإن آسيا التي تتسم بكل هذه العظمة، حيث وُلدت وانبثقت فيها أضخم الحضارات البشرية وأعرقها وانطلقت منها العناصر البشرية القديمة، سُمّيت بالشرق وقُسّمت في المنطق والخطاب الأوروبي إلى ثلاثة أقسام: شرق أقصى وبعيد، عن أي شيء؟ عن أوروبا! وشرق أوسط - لا بعيد ولا قريب -، بالنسبة إلى أي شيء؟ بالنسبة إلى أوروبا! وشرق أدنى وقريب، من أي شيء؟ من أوروبا! فإنّ هذه الثقافة وهذه الأدبيات، تستتبعها الكثير من الأمور الأخرى. ومعنى ذلك أن كل هذا الماضي التأريخي للبشر، وكل هذه الحضارات، والعناصر، والثقافات، والعلوم التي تم إنتاجها في منطقة آسيا - بما فيها الهند والصين وإيران وبين النهرين وبابل وما شاكل - والحضارات العريقة، كلها أصحبت بالمجموع منطقة يتم تسميتها بالتناسب مع بعدها وقربها من أوروبا! فمنطقتنا هذه حتى اليوم تسمى بالشرق الأوسط، وهناك منطقة أخرى تسمى بالشرق الأقصى، ولكن لماذا أقصى؟ لأنه بعيد عن أوروبا! فانظروا، هكذا يقوم الغربيون بتعريف هذه المنطقة.

إنّ الشعوب الغربية، كالإنسان الذي وصل من الفقر إلى الغنا، ثم فقد ضبط نفسه وتمالكها، حصلوا على حالة من الاستغناء، ولم يكن استغناؤهم هذا مالياً بل كان علمياً، لأن العلم بالتالي تتعاقبه الأيدي، فحدث أن اكتسبه هؤلاء، وأخذوا ينمّونه باستمرار ويبنونه طبقة بعد أخرى حتى ارتفعوا، وبمجرد أن نالوا هذه الرفعة، أخذوا ينظرون إلى البشرية برمتها وحتى إلى أولئك الذين اكتسبوا العلم منهم بادئ الأمر، نظرة امتهان واحتقار، ومنهم بلدنا. ومما يؤسف له أنّ الحكام والساسة في بلدنا ساعدوا على توطيد هذه الحالة المهينة، سواء السلالة القاجارية أو البهلوية - الأب والابن - وساقوا البلد إلى أن يكون تبعاً وذيلاً لهم، وهذا أمرٌ بالغ الخطورة والأهمية.

فإن انضوى بلدٌ في ذيل قوة أخرى، ستوضع كل إمكانياته في متناول تلك القوة شاء أم أبى، وستكون هي التي تستثمر إمكانياته، ونفطه، ومصادره، ومكانته الاستراتيجية. ففي الحرب العالمية، حيث اشتعلت نيران الحرب بين قوى العالم، لم يكن لنا شأن بذلك، ولكن بما أن الاتحاد السوفيتي من جانب، وبريطانيا من جانب آخر، كانت لهم إمكانياتهم ومواقعهم في بلدنا، جعلوا إيران وسيلة لعبور الأسلحة من نقطة إلى أخرى وفق إرادتهم ومن دون استجازة أحد. فإن خطوط السكك الحديدية العابرة - والتي لم تكن عابرة في حقيقة أمرها سوى بالاسم - أُنشأت حينذاك لتحقيق أهدافهم، أي لربط الخليج الفارسي بالشمال الذي كان منطقة تابعة للاتحاد السوفيتي، حيث كان من الضروري إيجاد الترابط بين بريطانيا والاتحاد السوفيتي - والحديث في هذا المجال ذو شجون - للاستحواذ على مصادر البلاد وسوقها، وإذا بالبلد يجلس متفرجاً ليستولوا على نحاسه وفولاذه وحديده ومختلف إمكاناته ونفطه وغازه بثمن بخس، ثم يصدّرون إليه كل ما يصنعونه مما لابد أن يباع، وأن يدرّ عليهم بالأرباح، دون تعريفة ودون رسوم جمركية ودون أي مانع ورادع، ويصنعون من ذلك البلد سوقاً مربحة لمنتوجاتهم؛ هذا ما حدث في إيران قبل الثورة.

فأحدثت الثورة الإسلامية تحوّلاً عظيماً. وما أعبّره اليوم هو أنّه في الثورة نهض الإيمان بالذات والثقة بالنفس لمقارعة التبعية، وقد حلّ نصر الله أيضاً. فإنّ الحرب حادثة مريرة، ولقد كانت حرب الثمان سنوات مريرة حقاً، وأسفرت عن أضرار وخسائر، وخلقت لنا جهوداً مضنية، ولقد كنتُ حاضراً في وسط الساحة، فكانت في غاية المرارة والصعوبة والأسى، ولطالما تسببت في تساقط دموعنا، وفي أن يشعر المرء بالتعب والنصب، ولكن رغم كل هذه الصعوبات، كانت تتسم بهذا الحُسن الكبير، وهو أنها أثبتت للشابّ الإيراني بأنه قادر، وإذا أراد وخاض الميدان سيتمكّن من التغلّب على ندّه وخصيمه، كما تغلّبنا. فقد خاض الشابّ الإيراني ساحة الحرب، ولولا الحرب لما جرت الأمور بهذا الشكل. لأن الحرب كالحريق إذا اندلع في مكان، سيتخلى الجميع عن سائر مهامّهم ويهبّون لإطفائه، فقد اتّجهت الأنظار برمتها إلى الحرب، وظهرت المواهب والقدرات، وثبت بأن الشابّ الإيراني قادر، وهذا التواجد لدى الشباب في الحرب، والتغلّب على العدو؛ العدوّ الذي لم يكن بلداً واحداً وحسب، بل الذي وقفت جميع القوى العالمية ظهيراً وسنداً له، أدى إلى تنامي الإيمان بالذات. إذن فالثورة الإسلامية تسببت في أن تكون الثقة بالنفس متسامية وأن تصنع من نفسها درعاً واقياً لمواجهة روح التبعية والهزيمة السابقة؛ هذا ما حدث [بالثورة الإسلامية].

ثمة في هذا الشأن نقطة لا ينبغي التغافل عنها، وهي أن المعركة العميقة التي يُطلق عليها اليوم بالحرب الناعمة والتي يدخل في عدادها الغزو الثقافي، يطول أمدها، ولا تحدد مصيرها نتائج قصيرة المدى، على خلاف الحروب العسكرية. ففي الحرب العسكرية يتغلّب بالتالي أحد الطرفين على الآخر ويقمعه وينتهي الأمر. كما استطعنا عبر مقاومة طالت ثمانية أعوام أن نطرد القوات الصدامية المعتدية من البلد وأن نُنهي الأمر. بيد أن المسألة لا تسير على هذا المنوال في الحرب الناعمة وفي المعركة العميقة وفي الغزو الثقافي. فإنكم إذا انتصرتم في مرحلة، لا يدل هذا على الانتصار الدائم، بل لابد أن تترقّبوا بأن يعمد الطرف الآخر إلى إعداد نفسه وتنظيم قواه والهجوم من جديد، وهذا ما حصل بالفعل، فإن نفس آفة التبعية قد أعيدت صياغتها بعد ذلك في البلد بأشكال أخرى؛ ذلك أنّ للعدوّ أياديه، وهذا ما لا يمكن إنكاره. فإن الشعب شعب كبير شريف ولكنه كسائر الشعوب الأخرى يشتمل على أناس يعبدون الأجنبي، وأناس ضعاف الإيمان، وأناس يلهثون وراء المادة، وأناس تنطلي عليهم الدسائس، فانبرى هؤلاء لإعادة صياغة ثقافة التبعية نفسها، ولكن بأدبيات منمّقة ملوّنة منظّمة ومنضّدة تحت عناوين أخرى من قبيل: العولمة والالتحاق بالمجتمع الدولي. وهذه هي اليوم أيضاً توصيات الغربيين والأمريكيين لدى اجتماعاتهم معنا حيث يقولون: فلتواكب إيران المجتمع الدولي، ولتتحد معه، ولتكن عالمية. ويقصدون بذلك التبعية نفسها. ولكن لا يلتبس الأمر، فإني لا أعارض إيجاد العلاقات أبداً - ولقد كنتُ في فترة رئيساً للجمهورية، وكانت إحدى مهامي الأساسية في السياسة الخارجية، هي إقامة العلاقات، سواء العلاقات الثنائية مع جميع البلدان في أوروبا وفي غيرها، إلا بعض المستثنيات، أو العلاقات التنظيمية الجماعية - بيد أن هذه مقولتان، والعولمة لها معنىً آخر. فإنها تعني الرضوخ لثقافة بضعة من القوى الكبرى التي استطاعت أن تفرضها على اقتصاد العالم وسياسته وأمنه، والانصياع لها، والتقولب في قالبها؛ هذا هو معنى العولمة من منظارهم، وهذا هو ما يقصدونه حين يطالبوننا قائلين: تعولموا والتحقوا بالمجتمع الدولي، وهذه هي التبعية نفسها دونما فارق.

وإنّ الذي يُحتِّم الاهتمام بالنخب كفريضة وكواجب لا يمكن اجتنابه على جميع المسؤولين، ليس سوى هدف كبير. إذ يوجد هنا هدف كبير، ولابد أن يكون النظر إلى النخب بهذا الهدف نظراً جاداً عملياً مخلصاً ومتابعاً. ولكن ما هو ذلك الهدف؟ إنه عبارة عن أن تتحوّل إيران إلى بلد متقدم مقتدر شريف - والشرف في مقابل اللؤم الذي تتصف به بعض الدول والقوى - صاحب كلمة جديدة في القضايا البشرية والدولية. فلابد أن تكون إيران بلداً يقدّم كلاماً جديداً ورأياً حديثاً في المجالات الإنسانية ومسائل حياة البشر. ذلك أن البشرية لا تشهد أوضاعاً مطلوبة! أفهل يوجد من المفكّرين في العالم من هو راضٍ عن الأوضاع التي تمرّ بها البشرية في هذا اليوم؟ ولا فرق في ذلك بين الشرق والغرب. فانظروا إلى أقوال مفكري العالم، حيث يئنّ الجميع من حياة البشر المأساوية في الوقت الراهن. فلابد في هذا الخضم من كلمة ومن سبيلٍ للخروج من هذا المأزق. ومن الواجب أن تنطلق هذه الكلمة الحديثة من إيران الإسلامية.

وبلد عزيز، فلابد أن تتبدل إيران إلى بلد عزيز يشعر بالشموخ والعزة. إذ تارة تتسمون بالعزة ولكن لا تشعرون بها. وإن من المطاليب التي تابعتها كثيراً خلال الأعوام الماضية، هي أن نشعر بالعزة، وأن نتلمّس العزة التي منحنا الله إياها. فإن الشعور بالعزة بحد ذاته، يعتبر أحد العناصر المقوّمة للعزة الحقيقية.

وبلد مفعم بالمعنوية والإيمان. قلنا بأن يكون متقدماً مقتدراً ونحوهما، ولكن لابد أن يتسم إلى جانب ذلك بالمعنوية والإيمان. فإن الآفة الكبيرة التي يعاني منها العالم المقتدر في هذا اليوم، هي أنه أينما حلّ الاقتدار رحل الإيمان. ولكم أن تشاهدوا أوضاع الانتخابات الرئاسية في أمريكا، حيث وصلوا إلى مرشَّحين، ثم لاحظوا مناظراتهم، وانظروا ماذا يفعلان مع بعض وماذا يقولان لبعض! ومن المقرر أن يصل أحدهما إلى دفة الحكم؛ في أين؟ في بلدٍ كبيرٍ غنيّ مكتظٍّ بالسكان، قد بلغ الذرى في العلوم البشرية. سيتسلّم أحد هذين المرشَّحين مقاليد الأمور في هذا البلد الذي يتمتع بأكبر ترسانة نووية، وأعلى ثروة عالمية، وأضخم ماكنة إعلامية. وإذا برئيس هذا البلد سيكون أحد هذين الشخصين الذَين تشهدون حقيقتهما. والسبب في ذلك هو فقدان المعنوية والإيمان.

ورافع لراية الحضارة الإسلامية الحديثة. فإن الهدف المتوخى لنا هو الوصول إلى مثل هذا البلد. لقد أحصيت تسعة معالم، وبغيتنا تبديل إيران إلى مثل هكذا بلدٍ يتسم بهذه السمات. علماً بأننا وفي منتصف الطريق قد حققنا بعض النجاح وتقدّمنا في بعض القطاعات، ولكن مازلنا في منتصف الطريق، وعلينا أن نحث الخطى إلى الأمام، وأن نبلغ الذرى. وهذا ما لا يمكن تحقيقه من دون جيل نخبويّ شاب، فلابد من وجود جيلٍ يُحقق هذا الهدف. وهو هدفٌ لا يتسنى لأحد أن يشك في ضرورته. فإننا مكلّفون كإنسان وكمسؤول وكمسلم وكإيراني - فمن لم يؤمن بالإسلام فهو إيراني بالتالي، وكونه إيرانياً يحمّله مسؤولية - مكلّفون من منطلق هذه المسؤوليات العدة بإيصال البلد إلى هذا المستوى.

ولكن ما هو السبيل لذلك؟ السبيل هو تربية جيلٍ يتصف بجملة من الصفات، وهي: أن يكون شجاعاً، عالماً، متديناً، مُبدعاً، مقداماً، واثقاً بنفسه، غيوراً، علماً بأننا اليوم ولحسن الحظ نشهد الكثير ممن يتصف بهذه الصفات من الجيل الشاب، ولكن لابد أن يتسع نطاقهم، فإننا بحاجة إلى مثل هذا الجيل الذي لابد له أن يتحلى بالإيمان والعلم والغيرة والشجاعة والثقة بالذات والمحفز اللازم للانطلاق والقوة الجسدية والفكرية للتحرك، وأن ينظر إلى الهدف، ويتطلع إلى الأهداف البعيدة، وينذر حياته ووجوده في سبيل هذا الهدف كما عن أمير المؤمنين: «أَعِرِ اللهَ جُمجُمَتَك» (4)، وينطلق بكل جدّ، وفي كلمة واحدة: أن يكون ثورياً، فهذا هو معنى الثورية.

إنّ البعض ومن منطلق العِداء يفسّرون الثورية تفسيراً سيئاً، حيث يذهبون إلى أنّ الثورية تعني الجهل واللامبالاة وعدم الانضباط، ولكنها بالضبط على العكس من ذلك، فالثوري يعني من يتسم بالعلم، والانضباط، والتدين، والمثابرة، والتعقّل، والتدبّر، ونحن بحاجة لمثل هذا الجيل الذي يمثل الجيل الشاب، فإنه هو الرصيد لهذه الحركة، والشباب النخبة هم الماكنة المولّدة لها.. هكذا هم النخبة. فإنكم تمثلون الماكنة المحرّكة، ولو أنجزتم مهامّكم بما هو المطلوب، سيتجه الجيل الشابّ هذا في نفس الاتجاه الذي أشرت إليه. وهذا هو السبب من اهتمامي بالنخب وتقديري لهم، فإن لهم قيمتهم وأهميتهم.

لقد انطلقت هذه النهضة. التفتوا إلى أني ومن خلال فهمي وإدراكي لقضايا البلد واحتياجه لمثل هذه الآلية والحركة، طرحتُ منذ خمسة عشر عاماً أو أكثر، قضية النهضة العلمية والنهضة البرمجية والحركة العلمية الجبارة، فرحّب بها العلماء والشباب والأساتذة والجامعيون والكثير من القطاعات الحكومية المختلفة التي تولّت زمام الأمور، وتقدّمت إلى الأمام، بيد أنّ هذه الحركة لم تكن حركة في طريق معبَّد وطريق سريع، وإنما هي حركة واجهت طائفة من الموانع والعوائق التي لابد من اكتشافها ومعالجتها. وإن لهذه الحركة أعداؤها، ولكن من هم هؤلاء الأعداء؟ سيقول البعض حالياً: واضح بالتالي، فإن فلاناً ما إن يذكر الأعداء، يقصد بهم أمريكا والصهانية وأمثالهم، وهذه هي نظرية المؤامرة، ولكنها ليست نظرية المؤامرة، وإنما هي معرفة المؤامرة ومشاهدتها. فإنني حين أشاهد المؤامرة وأراها، لا يمكنني إخفاءها عليكم، وإنما يجب عليّ الإفصاح بها لكم. غير أن البعض وبمجرد ذكر العدو، يقولون: ما لفلانٍ يكرر مفردة العدو دوماً؟ ولكن أفهل نتخلّ عن ذكر العدو؟ والله في كتابه يكرّر اسم الشيطان كل هذا التكرار، في حين كان بالإمكان أن يذكر الشيطان مرة واحدة وينتهي الأمر، فلِمَ كلّ هذا التكرار؟ لكي لا ننسى أنا وأنتم هذا العدو، ولضرورة أن يؤخذ العدوّ دوماً بنظر الاعتبار، ولأن العدوّ لا يقف مكتوف الأيدي، بل يتحرك باستمرار. فلو كان بمقدورهم لأوقفوا هذه الحركة العلمية، ولو شاهدوا عجزهم في إيقافها حرفوها عن المسير، ونحن بدورنا قد نقوم بمساعدتهم عن سذاجة بحرفها. وكل تأكيدي (5) على أن تصبّ الدراسات والمقالات والأطروحات وغيرها في خدمة متطلبات البلد، وأن يتم إنتاجها وإعدادها بهذا الهدف وهذه النية وهذا المنحى، - وهذا ما ذكره بعض الشباب الأعزاء هنا أيضاً - يعود سببه إلى أن لا تنحرف المسيرة العلمية. ولو عجزوا عن إيقافها أو حرفها، يحاولون تشويهها وتلويثها. فأن يأتي رجلٌ بصفته عالماً، ويحلّ ضيفاً على البلد، ثم يذهب أمام الجامعة في الشارع، ويلتقط صورة من لوحة لبيع الأطروحة الجامعية، وينشرها في العالم؛ هذا تلويث ]للحركة العلمية[. ولكن من الذي يدعو هؤلاء إلى إيران؟ أفهل يعدّ هؤلاء من العلماء؟ لماذا لا نفهم؟ لماذا نخطئ؟

لقد استطاع شباب البلد والقائمون على هذه الأمور، طيلة الأعوام المنصرمة، أن يقوموا بما من شأنه أن يسجّل التقدم العلمي للبلد رقماً قياسياً في المواقع التوثيقية المعروفة في العالم. وما كررته مراراً من أن سرعة النموّ العلمي في البلد بلغت في السنة الفلانية ثلاثة عشر ضعف متوسط النمو العالمي، ليس كلامي، وإنما هو ما قالته وشهدت به هذه المواقع التوثيقية المشهورة في العالم والتي تعرفونها أنتم أيضاً. أفهل يعدّ مزاحاً بأن تبلغ سرعة التقدم في بلدٍ ثلاثة عشر ضعف متوسط النمو العالمي؟ والسبب من وراء تأكيدي على عدم السماح بتباطئ هذه السرعة، هو أننا متخلّفون كثيراً، ولابد لنا من التسارع لدرجة توفّر لنا إمكانية إيصال أنفسنا إلى الصفوف الأولى، وهذا ما ذكرته مراراً (6). وإذا بالمسؤولين المحترمين يردّون عليّ قائلين بأن مكانتنا العلمية لم تتنزّل عن رتبتها الفلانية، ولكن هل كان المقرّر أن تتنزّل؟ لقد كان المقرّر أن تتصاعد هذه المكانة العلمية بسرعة فائقة، وهنا يكمن الإشكال. فلا ينبغي لنا السماح بأن تتضرر هذه الحركة العلمية، لأن لهذه الحركة أعداء، ولو واجهتها الخصومات دون أن نعرف ودون أن نراقبها، ستكون النتيجة خطيرة ومريرة للغاية. أفهل تعلمون ما هي تلك النتيجة؟ إنها عبارة عن بثّ اليأس في عناصر البلد الشابة، ولو تحقق ذلك سيصعب تعديله وترميمه. فلقد تولّدت حالة من الأمل لدى المجتمع الشابّ المفكر والمتعلم على مدى الأعوام الماضية - لأني منذ سنوات وأجتمع مع الشباب، وأستمع إلى أحاديثهم، وأقارن بين كلماتهم التي أطلقوها في هذا اليوم، مع ما كنت أسمعه هنا قبل عدة أعوام، وأجد أن الفارق ما بين السماء والأرض، وأشهد تنامي الشباب وتقدّمهم ونضجهم وعمقهم واتساع نظرتهم، وهذه قضية بالغة القيمة والأهمية - ولو أصيب هؤلاء الشباب باليأس والإحباط، لا يمكن بهذه السهولة إعادتهم إلى ما كانوا عليه.

فإن البعض إذا يئسوا من هذا المكان، ذهبوا إلى أماكن أخرى، والشراك منصوب أيضاً. وأقولها لكم هنا بأننا أحياناً ما نقيم الاجتماعات والمعارض لعرض التطورات العلمية وما شاكلها، وهو أمرٌ مطلوب جداً، ولكن عليكم بتوخّي الحيطة والحذر لئلا تتبدّل هذه إلى مركزٍ للتعريف بطاقاتنا ومواهبنا إلى الأجانب، بأن تعمدون أنتم إلى التعريف بهؤلاء الشباب، ويقوم أولئك باكتشافهم وأخذهم إليهم، بل ينبغي قبل اكتشافهم بواسطتهم، أن تكتشفهم أجهزتنا، إذ لا يمكن إخفاؤهم خلف الستار، وبالتالي سيماط اللثام عنهم، ولكن فلتتصدّ أجهزتنا الداخلية قبل الآخرين لاكتشافهم واستقطابهم وتوفير فرص العمل لهم. فلا يوجد شابٌّ لا يرجّح بيئة حياته وعائلته على الغربة، إلا أنهم وإلى جانب الغربة يخصصون لهم بعض المزايا، وبإمكانكم أن توفّروا لهم حتى أقل من تلك المزايا، وتستثمروهم لكم ولبلدكم. وأقولها لكم بأنني في الدفاع عن المجتمع النخبوي وعن حركة البلد العلمية، لن أتراجع قيد أنملة ما دام في جسدي قلبٌ ينبض، وأعلم أن هذه الحركة حركة مباركة وستكون خاتمتها على خير إن شاء الله، وسنمضي قُدماً بإذن الله.

وفيما يلي أستعرض بضعة نقاط.

إن من الأمور التي بوسعها أن تؤدي إلى تسيير عجلة العلم والتقنية ودعم النخب في البلد بشكل كبير، هي الشركات القائمة على المعرفة التي أشار إليها السيد الدكتور ستاري وبعض الأعزة الآخرين أيضاً، ولحسن الحظّ فقد توسّعت كمياً وبالشكل المطلوب. بيد أن توصيتي في هذا الشأن هي أولاً الاستمرار في هذا التوسّع، وثانياً وكما أشار إليه أحد الشباب الأعزاء، إشراك هذه الشركات في القطاعات التَقَنية والصناعية الهامة والرئيسية في البلد، وربطها بتلك القطاعات التي تمّ التصريح بأهميتها في السياسات العامة، وثالثاً الاهتمام بنوعية هذه الشركات وكيفيتها، فإن عدد الشركات أمرٌ مطلوب ومهم، ولكن عليكم الالتفات إلى أن تحدّدوا معايير وموازين لتعيين الكيفية والأولوية، وأن تأخذوها بنظر الاعتبار، وأن تتعاطوا مع هذه الشركات على أساس تلك الموازين. فلو تنامت هذه الشركات كمياً ونوعياً، ومارست مهامّها، لا شك في أنه ستتعالج مشكلة الدعم الحكومي المالي للنخب، ومعنى ذلك أن الشركات هذه أساساً ستُغني النخب عن الحاجة إلى دعم الحكومة مالياً، بأن تقول يوماً الأموال متوفرة، وتقوم يوماً آخر غير متوفرة. وهذه بدورها نقطة فائقة الأهمية.

وإن من المسائل التي بمقدورها أن تروّج لهذه الشركات القائمة على المعرفة، هي ترويج منتوجاتها. فلقد تحدثنا كثيراً حول قضية استيراد البضائع التي يوجد لها مثيل في الداخل وما إلى ذلك، وأخذ [المعنيون بالأمر] يمارسون بعض الأعمال [في هذا الشأن]، ولكن أودّ أن أشدّد على منتوجات شركاتنا القائمة على المعرفة التي لابد من ترويجها، وإن من أهم عوامل الترويج هي أن لا تقوم الأجهزة الحكومية إلا بشراء منتوجات هذه الشركات واستخدامها، ومعنى ذلك استثمار هذه الشركات، لأن الحكومة بحدّ ذاتها تعتبر المستهلك الأكبر والأهم في البلد.

ثمة نقطة بشأن تأسيس «الخلايا النخبوية» في الجامعات. وهذا ما أوصيتُ به سابقاً، ففي الوسط الجامعي أحياناً ما يعمد أستاذ أو أستاذان إلى جمع طائفة من الشباب وتشكيل خلية نخبوية، وهذا ما يمكن تكثيره وتوسيع رقعته، فهو أمرٌ مبارك جداً، ولكن لم يبلغني أيّ تقرير يفيد بتحقق هذا المطلب. ففي العام الماضي وفي جلسات مختلفة أكدتّ عليه لعدة مرات (7)، وتحققه مسألة ضرورية. علماً بأنه لا يرتبط بالأجهزة الحكومية وأمثالها، بل هي مهمة المجموعات الجامعية نفسها.

وهناك نقطة أخرى يجب أن تصل إلى مسامع وزير التعليم والتربية المحترم الذي لم يحضر في هذه الجلسة، وهي أنني أحمل قلقاً وهاجساً تجاه المنظمة الوطنية لتربية المواهب اللامعة، لأن التقارير التي تصلني لا تبنئ بخير. فإن هذه المنظمة وعملها في غاية الأهمية، وما أشاروا إليه من تأسيس عدد كبير من المدارس المنضوية تحتها، يتوقف على حركة هذه المنظمة وإدارتها بشكل مطلوب، بيد أن التقارير التي تصلنا في هذا المجال، تقارير غير سارّة.

والهاجس الآخر الذي يخامرني، والذي ذكرته للسيد ستاري بالإجمال، يرتبط بمؤسسة النخبة ذاتها، فإنها مؤسسة بالغة الأهمية، ولابد أن تتسم بالحيوية والنشاط والمثابرة. علماً بأني أثق بالسيد الدكتور ستاري كامل الثقة، وأعتمد حقاً على قدراته الذهنية والعلمية، وعلى صحة عمله أيضاً. السيد ستاري! إذا ترى حقاً بأن المعاونية العلمية ومؤسسة النخبة لا ينسجمان مع بعض، بمعنى أن مهام مؤسسة النخبة لا تتناغم مع الأنشطة الواسعة للمعاونية العلمية، فابحث عن سبيلٍ لحلّ هذه المسألة، وذلك إما أن تفصلهما عن بعض، أو أن تعيّن لمؤسسة النخبة مديراً قوياً ضمن إطار المعاونية العلمية على أقل التقادير، ولا تكل أمر هذه المؤسسة إلى الجامعات، فإن الجامعات لو كانت مؤهّلة للنهوض بهذا الأمر، وكانت قادرة على القيام به، لما بادرنا أساساً إلى تشكيل مؤسسة النخبة.

والنقطة الأخرى هي أن هناك تقارير تُرفع إليَّ بأن بعض المشاريع الكبيرة في الموضوعات الدراسية الهامة كقضية الجوفضاء والأقمار الصناعية وما شاكل ذلك قد تعثّرت أو توقّفت، وهذا ما يُقلقني، ولذا أودّ أن أذكر هذه القضية في هذا المكان لتتبدّل إلى مطالبة عامة. فإني أطالب المعنيين بالأمر مطالبة جادّة بأن يتناولوا هذه المسائل، فإنها مشاريع كبيرة الأهمية، حتى أنّ بعض المشاريع الدراسية المختصة بالطاقة النووية أيضاً قد منيت بذلك. فلا ينبغي أن تتوقف على الإطلاق، ولا ينبغي أن تغدو معطّلة أو شبه معطلة، حيث يقال بأن بعض هذه المشاريع شبه معطلة وبعضها الآخر على مشارف التعطيل. وفي تصوّري فإن بإمكان المعاونية العلمية أن تؤدي دورها في هذا المجال أيضاً، وذلك إما أن توكَل الأمور كلياً إلى هذه المعاونية وأن تحيلها الجامعات إليها، أو أن تمارس المعاونية العلمية دورها في هذا الشأن على أقلّ تقدير، فإن هذا أمرٌ فائق الأهمية. لأن هذه المسائل من جانب تتسبب في خسائر علمية بالنسبة لنا، ومن جانب آخر، لو أنّ العالم الشابّ الذي يعمل بكل أملٍ في القطاع النووي أو الجوفضاء أو النانو أو تكنولوجيا الأحياء، يجد القطاع الذي يعمل فيه مُهملاً أو شبه معطل، سيصاب باليأس. وقد ذكرت فيما سبق بأن اليأس والإحباط لشبابنا في غاية الخطورة. والذي دوّنته هنا هو ضرورة أن تُسلَّم هذه المشاريع إلى المعاونية العلمية، أو أن يكون لهذه المعاونية إشراف كبير كحدّ أدنى، ليتم استقطاب الطاقات والمواهب فيها.

والنقطة الأخرى التي أتناولها، هي أنه قد تم ولحسن الحظ تأسيس معاونية ثقافية في نفس هذه المعاونية العلمية وهو عملٌ مطلوب، ولكن ليحاولوا ترقية الأنشطة الثقافية، فإن مستوى الأفكار الدينية بين الطبقات الشابة قد ترقّى في الوقت الراهن والحمد لله. ومن هنا أنتهز الفرصة وأتقدم بشكري للمجموعات القائمة على مواكب ومجالس العزاء في أيام عاشوراء، حيث كنت مطلعاً على البعض منها، وبلغتني تقارير في البعض الآخر. فقد ارتفع مستوى المجالس كثيراً، حيث الخطيب البارع، والمواضيع البديعة. حتى أنني سألتُ ممن يتردّد على هذه المجالس عن موضوعات البحث - فإن هذه هي واحدة من مهامّنا، ونحن خبراء هذه المسائل - فوجدتها رائعة حقاً، حيث المستويات الراقية، والكلمات الجيدة، والأفكار المطلوبة، وحشود الشباب. ولقد كان لنا في هذا المكان مجلس أيضاً، فكان الشباب لربما يشّكلون تسعين بالمئة من الحاضرين أو أكثر، وطُرحت في هذا المجلس بحوث جيّدة كذلك، وهناك مجالس أخرى أقيمت لمدة عشرة أو خمسة عشرة في الليل والنهار، وتضمنت محاضرات مطلوبة، وأحياناً لطميات بديعة ومراثٍ زاخرة بالمعنى، وهذه أمورٌ لها قيمتها البالغة. فقد ارتقى مستوى فكر الشباب في المسائل الدينية، ولابد للعمل الثقافي أن يرتقي بنفس هذا المقدار.

وإنّ من الأمور التي بإمكانها أن تكون ناجعة جداً، هي إقامة الرحلات والمخيمات الجهادية، فإنها قيّمة للغاية. وإنّ حضوركم أنتم الشباب النخبة في هذه المخيمات أولاً يعرّفكم على أوضاع بلدكم، وعلى طبقات المجتمع، وعلى الواجبات الثقيلة الملقاة على عواتقنا جمعياً، وعلى تقاعسنا في العمل طيلة الأعوام التي أعقبت انتصار الثورة - فقد تقاعسنا عن أعمالنا في بعض المواقع حقاً - [وثانياً] يحثّ خطاكم للسير والحركة؛ فإن مثل هذا الدم يجري في عروق الإنسان بالتواجد في مثل هذه المواطن.

وأقول في نهاية حديثي مستخلصاً مما مضى: نحن نبغي أن يبزغ في الأجواء العلمية العالمية مجتمعٌ وبلدٌ يُنقذ العالم من الجهالة والضلالة التي يعاني منها. وهذا أمرٌ يمكن تحقيقه أيها الشباب! فلو استطعتم أن تتقدموا ببلدكم من ناحية العلم والثقة بالذات والإبداع والمثابرة، سيظهر في هذه الدنيا الزاخرة بالجهالة والضلالة، بلدٌ يرتقي إلى مستويات عليا من حيث المعالم المقبولة في العالم - بما في ذلك معلم العلم والتقدم التقني والثروة والمعالم المادية والإنسانية - وفي الوقت ذاته يتسم بالمعنوية والشرف والتوجه إلى الله والإيمان به والتوكل عليه. فلو تحقق ذلك، لكان خير مؤثر على جذب إيمان الناس واستقطاب قلوبهم، ولتمكّنتم من إنقاذ البشرية بأنفسكم. وأما أن نذهب إلى الناس فرداً فرداً، ونستدلّ لهم، من أجل سوق أذهانهم نحو الإيمان بالله والإسلام، فإن أثره في قبال مثل هذه الحركة، كعدد عشري يعادل واحد من مئة أو واحد من ألف أو واحد من مليون في قبال عددٍ كبير، وكالقطرة في قبال البحر. فإن بغيتنا هي تحقق مثل هذا الأمر. وإن البشرية لابد وأن تنجو من هذه الضلالة والجهالة، وهذا ما بوسعكم إنجازه.

لقد باتت الأجهزة والقوى الشيطانية العالمية في الوقت الراهن تدسّ الناس أكثر في مستنقع الجهالة والضلالة يوماً بعد آخر، وتجابه كل نقطة تناهض حركتها الشيطانية. وإذا بالسادة الأمريكيين الذين يجتمعون مع مسؤولينا، يعاتبون هذا الحقير قائلين لماذا كل هذا التشاؤم تجاهنا؟ ولكن أفهل أكون متفائلاً؟ وهل بالإمكان أن ننظر إليكم نظرة متفائلة مع هذه الأوضاع الحاكمة عليكم؟ ففي هذه الأيام الأخيرة، أعلن أحد هؤلاء السادة حول قرارات الحظر ضدّ إيران التي دار الحديث بشأنها، والتي تم بثّها في إحدى برامج قنواتنا التلفزيونية، أعلن أن الجمهورية الإسلامية مادامت تدعم المقاومة في المنطقة وتساعدها، فليس من المعلوم أن يتم رفع هذه العقوبات. وهذا هو الأمر الذي ذكرته مراراً وتكراراً، سواء للمسؤولين في الجلسات الخاصة، أو في الجلسات العامة، وقلت لهم: تزعمون أنكم إذا تراجعتم في الملف النووي، ستنتهي قضيتكم مع أمريكا؟ كلا، بل سيطرحون ملفّ الصواريخ قائلين: لماذا تمتلكون الصاروخ؟ وإذا ما يئسوا من هذا الملف، طرحوا قضية المقاومة متسائلين: لم تدعمون حزب الله وحماس وفلسطين؟ وإن عالجتم هذه القضية وتراجعتم، سيطرحون مسألة أخرى كمسألة حقوق الإنسان، وإن قمتم بتسوية هذه المسألة أيضاً وقلتم لهم: سنعمل في شأن حقوق الإنسان وفق موازينكم، سيطرحون قضية تدخل الدين في جهاز الحكم. يا ترى هل سيتخلّون عنكم؟ ذلك أنهم لا يحتملون نظاماً في بلد بهذه السعة وهذا التعداد السكاني وهذه الإمكانيات الخارقة.

وأقولها لكم: إن مساحتنا الواسعة، ونفوسنا، وإمكانياتنا البشرية والجوفية، تعتبر من السمات البارزة في العالم. ولا أريد استعراض العضلات، ولكن في نفس هذا البيان الذي صدر مؤخراً في الاتحاد الأوروبي، والذي وصل بأيدينا، حين يتحدث عن العلاقات مع إيران، وحين يقدّم تحليلاً في هذا المجال، يسرد كل هذه المسائل التي ذكرتها، وهي بالطبع لا تمثل إلا جانباً من إمكانيات بلدنا، ويقول بأن إيران بلدٌ يتسم بمثل هذه الإمكانيات، ومثل هذه السوق، ومثل هذا الشعب، ومثل هذه الطاقات والمواهب، ومثل هذه المصادر الجوفية، ومثل هذا الموقع الاستراتيجي الخارق؛ هذا ما يعترف به الآخرون. فإن من الصعب عليهم أن يقف أمام غطرستهم بلدٌ يتمتع بهذه الخصائص وتبلغ أهميته هذا المستوى، ولا يمكنهم أن يطيقوا وجود نظام إسلامي ديني إيماني مبني على الأركان والأفكار الإسلامية، ولهذا يعادونه ويناهضونه ويعارضونه، وهذا ما يجب أن يعلم به شبابنا ونخبنا. فإني لا أطالبكم بأن ترفعوا دوماً شعار: «يحيى فلان» و«الموت لفلان»، ولا أتوقّع من أيّ واحدٍ من شبابنا هذا الأمر - إلا في محله - ولكن عليكم أن تعلموا، وأن تتمكّنوا من تحليل القضايا السياسية في المنطقة والبلد.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقكم جميعاً وأن يحفظكم لهذا البلد وهذا الشعب، فإنكم أبناء الشعب الإيراني وأفلاذ كبده، وأن يهديكم لما فيه مرضاته.

والسلام عليکم ورحمة الله وبرکاته.

 

الهوامش:

1- عقد هذا اللقاء بمناسبة عقد الملتقى الوطني لـ "نخب الغد"، الذي عقد في طهران يومي 18و19 تشرين أول/اكتوبر2016, وفي بداية هذا اللقاء تحدث الدكتور سورنا ستاري نائب رئيس الجمهورية للشؤون العلمية والتكنولوجية ورئيس المؤسسة الوطنية للنخب، رافعاً تقريراً عن الملتقى، كما قدّمَ 7 من النخب العلمية وجهات نظرهم.

2- سماحة القائد: بعض الأحيان يكتب الشباب الأعزاء بعض الجمل كالأوراق التي يلوّحون بها، أو يكتوبها على أكفهم بحروف صغيرة، وأنا أشكرهم ولكن للأسف يصعب عليَّ قراءتها من بعيد وحسناً إذا أعطيتموني إياها لكي أقرأها من قريب.

3- من خطاب سماحته خلال لقائه جمعاً من أساتذة جامعات البلاد (2012/07/12).

4- نهج البلاغة، الخطبة 11.

5- من خطاب سماحته خلال لقائه جمعاً من رؤساء جامعات البلاد ومراكز البحوث وواحات العلوم والتكنولوجيا (2015/11/11).

6- نفس المصدر السابق.

7- من خطاب سماحته خلال لقائه جمعا من الطلبة والمواهب العلمية المتفوقة في البلاد ورؤساء الشركات العلمية المحور (2015/10/14).