موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال إستقباله الآلاف من أهالي مدينة قم بمناسبة الذكرى السنوية الـ39 لإنتفاضتهم في التاسع عشر من شهر دي (1978/1/9).

 

بسم الله الرحمن الرحیم

 

والحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیدنا أبي القاسم المصطفی محمّد، وعلی آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعین.

قدمتم خير مقدم يا أهالي قم الأعزاء، ويا أيها الإخوة والأخوات الوافدين من مدينة قم ومن حوزتها العلمية الشريفة؛ أرحّب بكم جميعاً، فقد تجشّمتم العناء، وتفضّلتم [بالمجيء إلى هذا المكان].

نحيّي ذكرى هذه الحادثة الكبيرة والمؤثرة والخالدة في التأريخ. لقد تحدثنا كثيراً بشأن التاسع عشر من شهر دي (1978/1/9) ومناقب أهل قم، وكلّ ما نستعرضه فهو مكرّر، قد قيل مراراً وتكراراً، ويتلخّص في هذه الآية الشريفة التي تلاها هذا القارئ المحترم: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾. حيث نهض أهل قم قبل أن تنبثق حركة كبيرة مشهودة من الشعب الإيراني. ولقد تركت نهضتهم تأثيراً بالغاً، وهزّت إيران، ونبّهت القلوب المستعدة برمتها على فرصة وإمكانية وحقيقة، وبالتالي اندلعت النهضة وامتدّت إلى سائر القضايا التي تعلمون بها، ولا ضرورة في تكرارها، وإنما الضروري هو استقاء الدروس منها، فلابد لنا أن نستلهم الدروس من هذه القضايا، والدروس أيضاً تتجدّد. فإننا - أنا وأنتم وأفراد المجتمع - بحاجة إلى أن نستقي الدروس من الأحداث الماضية في كل يوم.

إنّ النقطة الرئيسية المودعة في غضون قضية قم، والتي طالما ذكرتها وأكررها، هي أنّ أهالي قم بادروا إلى العمل حينذاك في أوانه. والعمل إذا تم إنجازه في وقته سيترك أو سيزداد أثره باستمرار. ولكن إذا أخّرنا نفس هذا العمل، وبعد مضيّ فترة بادرنا إلى إنجازه، قد يفقد أثره أو يكون له أثراً ضئيلاً. والميزة التي تميّز بها أهالي قم، هي أنهم أدركوا القضية على الفور، وعرفوا العِداء بسرعة، وبادروا إلى الردّ في تلك اللحظة الأولى، وإلّا لو أنهم، بعد أن بَدَر من العدوّ ذلك العمل التآمريّ الخبيث تجاه الإمام الخميني العظيم، تماطلوا وأوكلوا المبادرة إلى يوم غد وإلى بعد شهر، لما وقعت الأحداث التالية على الإطلاق. فإنّ للفريضة وقتها، ولابد من إنجازها في ذلك الوقت، وأفضل وقتٍ لأداء الفريضة أوله - أي وقت الفضيلة -. علماً بأن البعض لا يؤدّون الفريضة أساساً، [قائلين] وما شأننا بها، والبعض يؤدونها ولكن بتأخير، والبعض الآخر يؤدونها بعد فوات الأوان، كالتوابين الذين لم ينهضوا في الوقت الذي يجب عليهم النهوض - أي في عاشوراء -، وإنما نهضوا بعد أن فات الأوان وقُضي الأمر. أو كثورة أهل المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة، فإنهم نهضوا لمواجهة يزيد، وطردوا حاكم المدينة، ولكنهم كانوا متأخرين، ففي الوقت الذي سمعوا فيه بخروج الحسين بن علي (عليهما السلام) من المدينة، كان عليهم أن يفكّروا في هذا الأمر، ولكنهم تقاعسوا عن ذلك، وبادروا إليه في وقت متأخر وبعد مضيّ عام، وكان مآلهم ما سجّله التأريخ، حيث قُتلوا وقُمعوا وأُبيدوا عن بكرة أبيهم، دون أن يتمكّنوا من تحقيق أي شيء. فلابد إذن من إنجاز العمل في أوانه، ولو أردنا أن نفعل ذلك، علينا بمعرفة الفريضة ومعرفة ما ينبغي لنا إنجازه، لكي نقوم به في وقته وأوانه.

إنّ الذي أروم قوله هو أنّ هذه الثورة تمثل خطوة شاسعة قطعها الشعب الإيراني لإنقاذ نفسه من ذلّ التبعية وذلّ التخلّف، وحركة عظيمة لإزالة قناع التبعية والتخلف - هذين الذلّين الكبيرين - عن وجه هذا الشعب ببركة الإسلام وإرشاده وقيادته، ولمعالجة هذين الألَـمَين الـمُزمِنَين؛ فلقد انبثقت الثورة وأقيم نظام الجمهورية الإسلامية على هذا الأساس. التفتوا جيداً.. إذا انطلقت حركة لتحقيق هذا الهدف، وهو إزالة غبار التبعية والتخلّف عن هذا الشعب، ونجحت في ذلك وتقدّمت إلى الأمام، بطبيعة الحال سيقف أمام هذه الحركة وهذه الثورة وهذا النظام أولئك الذين كانوا ينتفعون من التخلّف والتبعية. لا أننا نحن من نصنع العدوّ، كما تتردّد هذه العبارة على ألسن البعض بأنكم تنحتون العدو باستمرار! فإن حركة الشعب هي التي تنحت العدو. افترضوا بأنّ رجلاً متغطرساً عمد إلى اغتصاب داركم أو محلّ عملكم أو موضع استراحتكم أو مكان حياتكم، فلو بادرتم إلى طرده، فقد أدّيتم واسترجعتم حقّكم، ولكنه بالتالي سيعاديكم، وسيسدّد الضربات صوبكم مادامه يتأمّل التغلّب عليكم. نحن لم نخلق عِداءاً جديداً مع أحد، ولكن هم الذين يعادوننا. فإن ذلك الذي كان يستفيد من تبعية إيران، أصبح اليوم عدوّاً لدوداً لنا! وذلك الذي كان ينتفع من تخلّف الشعب الإيراني، أضحى اليوم لنا عدوّاً لدوداً لا يقبل الصلح! علماً بأنّ العِداء هذا قد لا يمتدّ إلى يوم القيامة: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾، وقد يتّفق أن ينقضي هذا العِداء في المستقبل - بعد مئة عام أو خمسين عاماً، لا أعلم -، ولكن ما هو شرط انقضاء العِداء؟ إما أن يستولي عليه اليأس أو يسير نحو الصلاح، ومن المستبعد أن تتجه القوى الكبرى باتجاه الصلاح. إذن فالعِداء قائم، وإنّ ذلك الدرس الذي يجب علينا استقاؤه وهو أداء العمل في أوانه، مبنيّ على أن نعرف العدو، وأن نقف على مناحي أعماله، وأن نتحلّى بالبصيرة لدرجة ندرك ما هو هدف العدو من أيّ حركة ينطلق بها. فلو كان يستهدفنا في حركته، فلنعالج الأمر ونقف صادمين ثابتين، وهذا واجب في أعناقنا. وسأتناول اليوم هذا الموضوع في بضع جملٍ وكلمات.

أولاً من هو العدوّ؟ العدوّ اليوم بالتحديد يتمثل في أمريكا وبريطانيا وأصحاب رؤوس الأموال الدوليين والصهاينة وأذنابهم الذين لا قيمة لهم ولا يستحقون ذكر أسمائهم؛ هؤلاء هم الذين يشكلون الأعداء الرئيسيين. فإنّ أمريكا عدوّة للجمهورية الإسلامية، ولإيران المستقلة، ولإيران المتقدمة النامية، وبريطانيا - تلك المستعمرة العجوزة العاطلة عن العمل، والتي تحاول اليوم التغلغل إلى هذه المنطقة من جديد - عدوة، والصهاينة أعداء، والأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال الدوليين أعداء؛ هؤلاء هم الأعداء الرئيسيون.

وأقولها بالطبع إن الأعداء لا يقتصرون على هؤلاء، بل هناك بالإضافة إليهم عدوّ آخر وهو قابع في ذاتنا. ولكن ماذا تعني الذات؟ إنها تعني أنا وأنتم والمسؤول الفلاني والشاب الفلاني. وما هو ذلك العدوّ الذاتي؟ إنه عبارة عن التقاعس والإحباط والتراخي والخمول والتكاسل. «اللّهُمَّ‌ إِنّي‌ أَعوذُ بِكَ‌ مِنَ‌ الکَسَلِ‌ وَالـهَرَمِ وَالـجُبنِ وَالبُخلِ وَالغَفلَةِ وَالقَسوَةِ وَالفَترَةِ وَالـمَسکَنَة»؛ هؤلاء هم أعداؤنا. «اللّهُمَّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِن نَفسٍ لا تَشبَع وَمِن قَلبٍ لا یَخشَع وَمِن دُعاءٍ لا یُسمَع ومِن صَلاةٍ لا تَنفَع»؛ هؤلاء هم أعداؤنا في داخل أنفسنا، ولا نضع كل العبء على ذمة من في الخارج. فلو أسأنا في العمل، ولو لم نبادر إليه في أوانه، ولو تكاسلنا، ولو أخطأنا العدو، ولو أصبح أخونا السيء أو المنحرف - وهو أخونا بالتالي وإن كان سيئاً ومنحرفاً - هو الشيطان الأكبر بدلاً من الشيطان الأكبر الحقيقي، سنتلقّى الضربات. فلنتنبّه إلى أنّ هذا عدوّنا أيضاً. ولو تحدّثنا عن العدوّ الخارجي، فهذا لا يعني بأننا مبرّأون من أي نقص في داخلنا؛ كلا، فإن السياسات الخاطئة والباطلة، والسلوكيات السيئة، والاختلافات المتعددة بلا سبب، والتقاعس، وترك المبادرة، وضيق النظر، تدخل في عداد أعدائنا أيضاً.

إنّ حديثنا عن أمريكا وبريطانيا والعدو الخارجي الفلاني، هل يعتبر شعاراً أم لا؟ أنا أقول لكم بأنه ليس شعاراً، وإنما يرتكز على حقائق. فإننا بالتالي نطلّع على مجريات الأحداث في العالم، وعلى سبيل الفرض حينما يوصي وزير الخارجية الأمريكي ذا الخلق  الـحَسَن! في غضون رسالته الوداعية، الحكومة التالية قائلاً: تشدّدوا مع إيران ما استطعتم، وحافظوا على العقوبات، واعلموا أن هذا هو السبيل الذي يفرض على إيران تقديم التنازلات، كما فعلنا نحن ذلك. فإنه عدوّ بالتالي، وهو عدوّ ضحوك، على خلاف العدوّ الذي كان يصرّح قائلاً بأن إيران محور الشرّ، وهذا لا يصرّح بذلك ولكنّ سلوكه يدل على نفس ذلك السلوك. إذن فهو عدوّ، ولذا لا نريد من تكرار مفردة العدو إطلاق شعار، ولسنا - على حدّ قول البعض من غير المنصفين - مرغمون على اختلاق العدو، لأننا قد غُلبنا على أمرنا في شؤوننا الداخلية؛ كلا، ليس اختلاقاً للعدو، وإنما هو عدوّ، فافتح عينيك لترى، ولو أطبقتها ودفنت رأسك في الرمال لا ترى بالطبع، فارفع رأسك وانظر لترى.

ذكرنا بريطانيا! فإنها دخلت ثانية مياه الخليج الفارسي، علماً بأننا كنا على اطلاع بذلك قبل عام أو عامين، وقد سمعنا أنهم يرومون العودة إلى الخليج الفارسي من جديد، واليوم قد عادوا في سبيل أن يقولوا لعدد من حكّام الخليج الفارسي - الذين لا توجد بالطبع فيما بينهم علاقة حميمة، فلا يخالنّ أحدٌ بأن هناك بينهم وبين حكّام الخليج الفارسي صلة وثيقة؛ كلا، بل يريدون استثمارهم، لعلمهم بإمكانية استغلالهم، ولذا عادوا ليتحدثوا معهم بهذه الطريقة قائلين - بأن إيران مصدر تهديد! والحال أن البريطانيين هم مصدر التهديد. فإن المحافل البريطانية تخطط اليوم للمنطقة ولإيران الإسلامية، ومن مخططاتها تقسيم دول المنطقة. وقولي هذا لم ينجم من تحليل وتقدير، وإنما هو ناتج عن وجود معلومات. حيث أخذوا يقولون بأنه قد ولّى وأدبر زمن عراق واحد وسوريا واحدة ويمن واحد وليبيا واحدة، ومعنى ذلك ضرورة تقسيم العراق وسوريا وليبيا واليمن، ولا يذكرون اسم إيران بالطبع، لأنهم لا يجرأون على ذلك، ويخافون من الرأي العام في إيران بشدة. وإلا فإنهم يبتغون تكرار نفس الكلام الذي قاله محمدرضا قبل ذهابه «بأننا لو ذهبنا، لتبدّلت إيران إلى إيرانستان» - ويقصد بذلك أن إيران كأفغانستان وتركمنستان وما شاكلهما، سيبقى منها جزء باسم إيرانستان، ويُقسَّم الباقي بين دول متفرقة - وكانوا يتأملون ذلك، وبذلوا جهودهم، وأُلقموا حجراً، ولكن الهدف هذا مازال عالقاً في أذهانهم، سوى أنهم لا يتفوّهون به.

إذن هذا هو العدو، أفهل للعدوّ قرنٌ وذنب؟ إنهم باتوا يفكّرون من اليوم لمرحلة ما بعد انتهاء الاتفاق النووي في أنه ما هي الحدود والقيود التي نفرضها على إيران بعد ذلك، زاعمين أن الاتفاق النووي سيطول عشرة أو اثني عشر عاماً، ولهذا يفكرون من الآن بما يرتبط بتلك الحقبة قائلين: ما الذي نصنعه ونقوله ونفعله حينذاك لفرض الحدود والقيود على إيران. أفهل يوجد عدوّ أسوء وأشدّ خبثاً من هذا؟ هذا هو خبث البريطانيين الذي أتحدث عنه.

ومن مخططاتهم التي يصرّحون بها، تدريب وتسليح الأفراد المحليين الذين يتم اختيارهم، إذ يقولون بأننا نعمد، في هذه البلدان ومنها إيران، إلى اختيار أفراد من داخل البلد، وإقامة العلاقات معهم، وتدربيهم، وتجهيزهم - واليوم قد تيسّرت عملية التجهيز، وذلك من خلال الانترنت والفضاء الافتراضي وشبكات التواصل المتنوعة - وتأليبهم ضدّ البلد وضدّ النظام الإسلامي وضدّ الشعب؛ هذه كلمات يصرّحون بها، وهذا هو العدوّ.

فلابد من معرفة العدو، وقد أشرنا إلى ضرورة معرفة العدو، ومعرفة أساليب العِداء أيضاً. وعلى الجميع أن يُدركوا المناهج والمناحي التي يتّبعها العدو لممارسة عِدائه، بما فيهم المسؤولين والناس والشباب والعمّال والجامعيين، وأن يعلموا بأنّ هدف العدو - على الرغم من تصريحهم أحياناً في إذاعاتهم وتشكيلاتهم بأن هدفنا هو الشخص الفلاني، ويقصدون به علي الخامنئي، ولكنهم يكذبون، بل هدفهم - هو الشعب الإيراني، وإيران الإسلامية، والنظام الإسلامي. ولو أنهم يعادون زيداً أو عمرواً أو الجهاز والمركز الفلاني، فلشعورهم بأنه قد صنع من صدره درعاً ووقف صامداً، ولابد من تسديد الضربة له، وسأتناول الحديث في هذا المضمار.

ما هو واجبنا في قبال ذلك؟ واجبنا تعزيز البلد وتقويمه ورفع مستوى اقتداره وتحصينه. ولكن كيف يتم رفع مستوى اقتدار البلد؟ هذا أمرٌ لابد لنا من التفكير فيه والتخطيط له، والتخطيط هذا واجب في أعناق الجميع، بما فيهم المسؤولين والسياسيين والحوزات العلمية والجامعات والطاقات الثقافية النشيطة والعناصر السياسية الفاعلة، حيث يجب عليهم التخطيط والبرمجة لهذا الأمر، فإن واجبنا تقويم البلد وتعزيزه.

كيف يتسنى لنا تعزيز البلد؟ وما هي عناصر اقتداره؟ سأستعرض بعض هذه العناصر: الأول هو الإيمان الإسلامي والديني الذي يعدّ واحداً من أهم عناصر المقاومة والحركة في هذا البلد، ولا يختص هذا العنصر بالوقت الراهن، بل أيما حركة مؤثرة وصانعة للتيار انطلقت في هذا البلد منذ 130 أو 140 عاماً، كان لعنصر الإيمان الديني الدور الأساس فيها. ولكم أن تبتدأوا من قضية التنباك، فإنها التي كانت تمثل حركة جماهيرية كبرى في هذا البلد، قامت على أساس عنصر ديني، حيث أصدر مرجع التقليد حكماً، وعمل الناس طبقاً لحكمه بالاستناد إلى إيمانهم الديني، وأبعدوا عن هذا الشعب خيانة كبرى كانت تهدف إلى إلحاق أضرار فادحة به؛ هذه واحدة.

والحركة الدستورية، فإنها استطاعت أن تمضي قُدماً بريادة العلماء الذين يجسّدون تديّن الناس. نعم كان هناك المثقف الفلاني، والكاتب الفلاني، والمجلس السريّ الفلاني في البلد، بيد أن هؤلاء لم يتقدموا إلى الأمام، ولم يتمكّنوا من تحقيق شيء، ولم يكن لهم نفوذ في قلوب الناس. وإن الذي أنزل الناس إلى الساحة في الحركة الدستورية، هو تواجد علماءٍ من الطراز الأول، أمثال المرحوم الشيخ فضل الله النوري، والمرحوم السيد محمد الطباطبائي، والمرحوم السيد عبد الله البهبهاني؛ هؤلاء هم من كبار العلماء الذين قادوا هذه الحركة في طهران وتبريز وأصفهان وفارس وبعض المدن الأخرى، وسار الناس من ورائهم، بيد أنّ البريطانيين كانوا هنا أكيس منا، حيث زرعوا الاختلاف بين العلماء، وأثاروا الشقاق في طهران بين ذلكما العالمين الجليلين وبين الشهيد العظيم الشيخ فضل الله النوري، حتى أُعدم الأخير شنقاً بتهمة مناهضة الحركة الدستورية! والحال أنه كان قد حاز قصب السبق على غيره من العلماء لتنفيذها. هذا ما هم فعلوه، حيث دفعوا الناس إلى السفارة، وسلّم البعض هذه الحركة بكاملها إلى الإنجليز، ونتج من ذلك مجيء رضاخان وتخلّف البلد لخمسين إلى ستين عاماً، غير أنّ الحركة انبثقت من منطلق ديني.

ونهضة تأميم النفط؛ هذه حقائق تأريخية، وهذا هو السبب من مطالبتي المستمرة بمطالعة التأريخ والتأمّل فيه. فليعلم الجميع بأنه لولا العلماء ولولا الدافع الديني، لما تقدمت نهضة تأميم النفط بالتأكيد. حيث كان آية الله السيد الكاشاني يقف في مقدمة هذه النهضة، وقد سانده المرحوم السيد محمد تقي الخوانساري، وهو أحد مراجع قم. كما وروّج لهذه الفكرة عدد من أهالي قم، وعالم ديني في مشهد، ومنبريّ من الطراز الأول، وناشط ديني متحدث مفكر كبير؛ هؤلاء هم الذين روّجوا لنهضة تأميم النفط، فانطلق الناس بدافعٍ ديني. ولكن بعد أن فصلوا المرحوم السيد الكاشاني، وطردوا العلماء، وأبعدوا رجال الدين، لحقت الهزيمة بمصدّق. فالدين وعنصر الإيمان الديني مادامه كان قائماً، كانت الحركة تحثّ الخطى نحو الأمام، ولكن حيثما استُلب هذا العنصر منها، توقفت الحركة وفشلت وتبدّلت إلى حركة مضادّة. إذ دخل طهران أمريكيٌّ يحمل حقيقة مليئة بالنقود، وقلب الأمور رأساً على عقب.

لقد كان عنصر الإيمان الديني متبلوراً في جميع الحركات، حيث تجلى في الخامس عشر من خرداد (1963/6/5)، وفي الثورة الإسلامية، وفي الدفاع المقدس. فإن الدين والدافع الديني هو الذي أنزل الناس إلى الساحة في شتى القضايا. [ومن تجلياتها]ذلك الذي قدّم ثلاثة أو أربعة من أولاده شهداء، وهو فَرِحٌ مسرورٌ لأنهم استشهدوا في سبيل الله. فإن أحد عوامل الاقتدار هو الدافع الديني والمحفّز الإيماني.

وهذا ما يجب صيانته، حيث باتوا يعادونه. فقد أضحت محفزات الناس الدينية اليوم عرضة للعِداء والخِصام من كل حدب وصوب، بغية القضاء على إيمان الشباب في الدرجة الأولى، ومن ثَمَّ الطبقات المختلفة الأخرى بشتى العناوين ومختلف الأساليب.. هذا هو العمل الذي يمارسه العدوّ في الوقت الراهن.

ويُضاف إلى الإيمان الديني، المعرفة الدينية. فلابد أن يترافق الإيمان الديني مع المعرفة، ولكن ما هي المعرفة الدينية؟ إنها نفس ما قاله المرحوم السيد المدرّس: «ديانتنا عين سياستنا وسياستنا عين ديانتنا»، والإمام الخميني العظيم أيضاً قال وطبّق نفس هذا المعنى والمفهوم، وهو يمثّل أحد عناصر اقتدار البلد.

إنّ من التوصيات الأساسية التي تقدّمها اللجان المفكرة الأمريكية والبريطانية في الوقت الراهن، بعد عقد الاجتماعات والبرمجة والتخطيط، وتعرضها على الناشطين في مجال الصحف والإعلام والانترنت والسياسة وغيرها، هي الدعوة إلى ضرورة الوقوف في وجه الإسلام السياسي، وهذا يعني الترويج لمسألة فصل الدين عن السياسة؛ يعني فصل الدين عن الحياة؛ يعني حصر الدين في زاوية المسجد وفي عقر الدار وفي القلب وإبعاده عن ساحة العمل؛ يعني أن لا يكون الاقتصاد دينياً، ولا تكون السياسة دينية، ولا يكون الاستسلام للعدو دينياً، وأن تكون مقارعة الصديق ومواكبة العدو قائمة على خلاف النصوص الدينية، مع الاحتفاظ بظواهر الدين؛ هذا ما هم يهدفون إليه.

المعرفة الدينية تعني أن الدين - بل الأديان بأسرها، وهذا مدّعانا أنّ الأديان برمتها، وحتى المسيحية، تنتهج نفس هذا النهج، بيد أنّ الأمر المتيقّن والجليّ والواضح، يخصّ الدين الإسلامي؛ ذلك أن المهمة الأولى التي بادر إليها النبي الأكرم بعد مرحلة الغربة في مكة، هو إقامة الحكومة، واستطاع أن يعمل على تبليغ الدين والترويج له عبر صياغته في قالب الحكم - لا ينفصل عن الحكومة. والمراد من الدين المنفصل عن الحكومة، هو الدين الذي يواظب على تقديم النصائح ويدأب على سرد الكلام، والجبابرة العتاة يفعلون ما يحلو لهم ويقومون بما يناهض الدين ويناقضه، ومتى ما شاؤوا يوجّهون ضرباتهم لروّاد هذا الدين؛ هذا هو المراد من الدين البعيد عن السياسة، وهذا هو الذي يصبون إليه ويتابعونه. كلا، لابد أن تصل المعرفة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الدين لا ينفكّ عن السياسة، وأن عدوّ الدين يخشى من ذلك الدين الذي يمتلك دولة، وسلطة، وجيشاً، واقتصاداً، ونظاماً مالياً، وتشكيلات إدارية متنوعة؛ إنه يهاب هذا الدين، [ولا يأبه] بذلك الدين الذي يتلخّص في ارتياد الناس للمساجد والعبادة فيها، فليعبدوا مئة عام. إذن هذه تعتبر هي الأخرى من عوامل الاقتدار. واعلموا أنّ عدم فصل الدين عن الحياة وعن السياسة وجريان المسار الديني في كافة مفاصل حياة المجتمع يعتبر معرفة دينية صائبة، وهذا ما يجب تحقيقه ومتابعته. وإلا فمجرّد اسم الدين واسم رجال الدين والمعمّمين من أمثالنا وما شاكلهم لا يُجدي نفعاً، والواجب علينا هو أن نتحرّك حقاً.

ومن عوامل الاقتدار، الحركة العلمية السريعة والاقتدار العلمي. ولطالما كرّرتُ حديث «العلم سلطان». [والأعداء] يناهضون اقتدارنا العلمي أيضاً. فإن نفس تلك العناصر المحلية التي أوصى بها ذلك البريطاني الخبيث وأكّد على ضرورة توظيفها وتجهيزها في داخل البلدان، أحياناً ما تحاول في الجامعات بثّ اليأس في نفوس شبابنا، من أجل التخلّي عن الحركة العلمية، وتحرّض ذلك الشابّ المستعدّ الموهوب للرحيل إلى الخارج قائلة: " اِذهب إلى البلد الفلاني، ماذا تصنع من بقائك في هذا المكان، سوى أن تهدر طاقاتك"، وتزوّده بالمال، وتكافأه على ذلك. علماً بأن شبابنا المؤمنين صامدون، وهذا ما أشهد عليه. فعلى الرغم من الممارسات الخبيثة التي يقوم بها بعض العناصر العميلة للعدوّ في داخل الجامعات وخارجها لزرع بذور اليأس، نجد شبابنا المؤمنين في صمود وثبات. قبل بضعة أيام جاء الحائزون على الميداليات والمتفوّقون من إحدى جامعات البلد البارزة، وتحدثوا بطريقة تبهر الإنسان حقاً، بما يتسم به حديثهم من حُسن وصواب وإتقان. وسأشير إلى أن الأعداء لم يعرفوا شعبنا، ولكن يجب الوقوف على مؤامراتهم. إذن فإنّ من السبل المؤدية إلى تحصين البلاد هي المسيرة العلمية التي لا ينبغي أن تتوقف ولا أن تتباطأ سرعتها.

والقضية الأخرى، التقدم الاقتصادي ومعالجة مشاكل الناس. فإن واحدة من الأهداف التي يتوخّاها العدو من فرض العقوبات، هي فصل الناس عن النظام الإسلامي، وذلك عن طريق المشاكل التي يعاني الناس منها، ومن خلال استشراء البطالة والجمود والمعضلات الاقتصادية المختلفة، ولا يبدر منا في خضم هذه المشاكل التي يئنّ الناس منها، سوى الكلام. فإنهم يفرضون العقوبات لتحقيق هذه الأهداف، ولو أزالوها بحسب الظاهر، فإنهم يزيلونها بالطريقة التي لا تُفضي إلى حلّ هذه المشاكل. ولكن ما الذي يجب علينا فعله حيال ذلك؟ وسيلتنا المضادّة هي أن نعمل على تعزيز الاقتصاد وتقويمه وثباته، وهذا هو الاقتصاد المقاوم الذي ذكرناه مرات ومرات، وهو يشكّل أحد عوامل اقتدار البلد أيضاً. فإن البلد الذي يتمتع باقتصاد قوي، ستصبح عملته ذات قيمة، ويكون لمسؤوليه كرامتهم، ولأبناء شعبه شخصيتهم، وحينئذ لا يمكن إملاء شيء وفرضه عليه. ولطالما أكّدنا على ضرورة أن نبتعد بالتدريج عن امتصاص النفط والاتكاء على عائداته، وأن نحدّ من هذه الظاهراً رويداً رويداً. فإن النفط بأيدينا ولكنّ سياسته وتقلّبات أسعاره بيد غيرنا. فلابد لنا من تقويم اقتصاد البلد وتحصينه. وهو يعدّ واحداً من عوامل الاقتدار.

وإنّ صيانة العزة الوطنية في المفاوضات الدولية وفي الرحلات والزيارات، وعدم الرضوخ لمنطق القوة والتعسّف، هي الأخرى من عوامل اقتدار البلد. فإن الطرف الآخر الذي يجتمع معنا من أجل التفاوض، سينظر إلى مستوى معنوياتنا ومحفزاتنا وهمتنا، وسيعاملنا على أساس ما تؤول إليه حساباته وفق ذلك. فلابد من صيانة عزة الشعب وعزة البلد، ليشعر الناس بالعزة. وبهذا تتحقق قوة البلد واقتداره.

فلو عرفنا حقاً وسائل التقويم والتحصين، وأدركنا توجّهات العدو في أعماله، سيتسنى لنا في قبال العدو أن نقوم بالبرمجة والتخطيط وإرساء عوامل الاقتدار هذه في أنفسنا. ولو جهلناها، فقد يصبّ عملنا في خدمة العدوّ أيضاً. ولطالما ذكرتُ بأنّ الجندي المجاهد في ساحة الحرب لو استيقظ بعد نومه، ثم توجّه إلى المدفعية وهو مازال طائشاً في سكرة النوم، قد يقصف ساحته. فإنك إن لم تعرف موقع العدو وموقع الصديق، وأردت القصف بالمدفعية، قد تقع القنبلة على الصديق بدلاً من العدو، ولهذا يجب التحلي بالبصيرة.

إنّ العدوّ يسعى وراء القضاء على عوامل الاقتدار الوطني التي ذكرتها، ويهدف إلى استلاب الإيمان، وتبديد الحياء والعفاف، والقضاء على الالتزام بالمباني الدينية، وزعزعة العقيدة الراسخة بحاكمية الدين، والمساس بالعزة الوطنية، وإيقاف المسيرة العلمية، وإضعاف الأجهزة والمراكز التي تجسّد اقتدار البلد والشعب. ولهذا ترون الهجوم على الحرس الثوري وعلى قوات التعبئة وعلى مجلس صيانة الدستور.

إنني لا أعير أهمية لهذه السجالات الأخيرة التي نشبت بين رؤساء سلطتين، فإنها لا تعتبر من الأمور الهامة، وستنتهي بحول الله وقوته، وليست بالشيء الذي يُذكر، وإنما العدو يريد تهويلها. ولكن يجب على الجميع تثمين وجود سلطة قضائية مستقلة باسلة صارمة، وينبغي للجميع مدّ يد العون لها. فإنني أدعم الحكومات، وأدعم السلطة القضائية، وأدعم مجلس الشورى الإسلامي، وأدعم الجميع، ولكن لنرى ما هو ذلك الشيء الذي بمقدوره أن يؤدي إلى إفشال العدو في تحقيق مآربه؟ نحن لو استطعنا أن نمتلك جهازاً أمنياً قوياً، وقوة عسكرية شعبية مقتدرة، وحركة جماهيرية هائلة تحت عنوان التعبئة، ومؤسسة دينية واعية عارفة بزمانها ومتواجدة في الساحة، وسلطة قضائية مقتدرة كاملة، وحكومة مخططة دقيقة شجاعة، ولو تمتعنا بهذه الأمور، فإن مسيرة الشعب الإيراني وحركة البلد، سوف تتكلّل بالنجاح.. هذه أمور يجب تحقيقها ومتابعتها. فلنشكر الله ولنحافظ على تلك التي نتمتع بها، ولنجهّز أنفسنا ونزوّدها بتلك التي لا نتملكها.

ثمة حركات رائعة تنطلق اليوم لحسن الحظ، سواء في مجال العلم والثقافة كما ذكرتُ [أو في مجالات أخرى]، فإنّ أفضل الحائزين على الميداليات في البلد هم من الشباب التعبويين. إنّ لي مع طلاب الجامعات لقاءات عديدة، منها ما حصل قبل بعضة أيام حيث جاء إلى هنا عدد من الحائزين على الميداليات والشباب التعبويين من جامعة شريف الصناعية.. عشرات الميداليات، وعشرات الشباب المتفوّقين والنخب؛ هذا نموذج، وهناك نماذج كثيرة أخرى. حيث يتواجد اليوم شباب نخبة، ناشطون، حيويون، أذكياء، في شريحة الطلبة الجامعيين وفي شريحة الأساتذة أيضاً، ممن يحملون فكراً ثورياً ومحفزاً ثورياً وعزماً ثورياً، سواء في مجال الثقافة أو الفن أو السياسة. فلندعم هؤلاء الشباب الذين يحملون دوافع وهمم عالية، في جميع هذه المجالات التي ذكرتها، بكل ما أوتينا من قوة ومقدرة.

وأقولها بكل قوة وصرامة إن العدو على الرغم من جميع تخطيطاته، لم يعرف شعبنا، ولم يعرف شعب إيران، وهو مخطئ في ذلك. ولقد رأيتم خطأه في سنة 2009 حيث أجّج نيران تلك الفتنة، وأصل الأمور - بحسب مزاعمه - إلى حدّ خطير وحساس ودقيق للغاية، وفجأة اندلعت مسيرة التاسع من دي العامة وأبهرت الجميع. فإن هذه الحركة التي انطلقت في التاسع من شهر دي عام 1388 هـ.ش (2009/12/30)، هي من جنس حركتكم التي انطلقتم بها في التاسع عشر من دي سنة 1356 هـ.ش (1978/1/9).

ومن هنا يجب على جميع الشرائح النشيطة في البلد، بما فيهم رجال الدين، والجامعيون، والمسؤولون في البلد، ومدراؤه، ولاسيما المدراء الكبار، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي، والمثقفون، والكُتّاب، ويجب علينا جميعاً أن نعمل على تعزيز عوامل الاقتدار التي أحصيتها في البلد. وليعلم ذلك الذي يحبّ إيران، أنّ الهجوم على الإيمان الإسلامي لدى الشباب خيانة لإيران. فإنّ هناك من يحبّ إيران ويودّ البلد، ولكنه لا يحمل التزاماً وانشداداً كبيراً للدين والشريعة وأمثال ذلك، فليعلم هؤلاء أيضاً، إن كانوا حقاً من المحبين لإيران، ولم يكونوا من الخائنين ومن الأعداء الذين يتقمّصون لباس الأصدقاء، بأنه لا ينبغي العمل على إضعاف دين الشباب وإيمانهم. فإن الذي يعمل على إضعاف إيمان الشباب، إنما يرتكب خيانة لا بحق الدين وحسب، بل بحق البلد أيضاً. ولذا يجب على كافة هذه الشرائح والطبقات أن تعمل على تعزيز عوامل اقتدار البلد والشعب وصيانتها ومتابعتها. ولحسن الحظ هناك في الوقت الراهن مجموعة عظيمة تعمل بهذا الواجب، وستزداد بعد اليوم أيضاً.

إنّ الدرس الذي نستلهمه اليوم أنا وأنتم من حادثة التاسع عشر من دي، هو ضرورة معرفة العدو، والاطلاع على أساليب وتوجهات عمله، ومواجهته في الوقت المناسب وبكل الوسائل المتاحة لدينا. ولو فعلنا ذلك، فاعلموا بأنّ أعداءنا العالميين والدوليين - الذين ذكرناهم وهم: أمريكا وبريطانيا والصهيونية والشركات العالمية وأصحاب رؤوس الأموال الدوليين والأعداء الألدّاء - لا يستطيعون ارتكاب أية حماقة في مواجة الشعب الإيراني.

والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته