موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال لقائه رئيس وأعضاء مجلس خبراء القيادة

بسم الله الرحمن الرحیم(1)

والحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام علی سیدنا محمد، وآله الطاهرین، سیّما بقیّة الله في الأرضین.

قدمتم خير مقدم أيها الإخوة الأعزاء والسادة الكرام.

إن اللقاء بكم أيها السادة الخبراء يعتبر من اللقاءات المحببة والطيبة بالنسبة لنا. فإن تأثيركم على بيئتكم الاجتماعية، والأثر الذي تتركه هذه الجلسة الشريفة والعزيزة على النظام بأسره، يعدّان من النقاط الهامة، آملين أن يكون ما فكّرتموه وما قلتموه وما ابتغيتموه وما بادرتم إليه مشمولاً لفضل الله وعونه وأن يصل إلى النتيجة المرجوّة إن شاء الله.

أتقدم بجزيل الشكر على ما أفاده سماحة الشيخ جنتي وسماحة السيد شاهرودي، فقد أدلوا بكلمات نافعة أدخلتنا في أجواء اجتماع مجلس الخبراء خلال الأيام المنصرمة، علماً بأني كنتُ قد شاهدتُ تقريراً في هذا الشأن. حيث أفصحوا عن مسائل هامة جديرة بالالتفات حقاً.

ولنذكر المرحوم الحاج الشيخ علي أصغر معصومي (رحمة الله عليه) الذي كان من أصدقائنا القدامى ومن أعضاء مجلس الخبراء لأدوار عدة، وهو الذي طلب عدم المشاركة في الدورة الأخيرة لما كان يعاني به من وعكة صحية، حتى وافاه الأجل قبل عدة أيام(2)، سائلين الله أن يتغمّده برحمته ورضوانه.

لقد أشار السيّدان جنتي وشاهرودي إلى مناسبة محرم الحرام، وهي مناسبة بالغة الأهمية. فإن شهر محرم هو شهر الإمام الحسين (ع)، وشهر جميع تلك القيم التي تجسّدت وتجلّت في وجود سيد الشهداء (سلام الله عليه)، وهو شهر الشهادة والجهاد والإخلاص والوفاء والتضحية والاهتمام بحفظ دين الله والصمود أمام القوى المناوءة للدين. فقد تبلورت هذه السمات في الوجود المبارك لسيد الشهداء وفي واقعة عاشوراء وفي محرم الحرام. والحق يقال إنها عقيدة صائبة وهي أنّ نهضة سيد الشهداء حافظت على الإسلام، كما أنّ هذه الحادثة على مدى الزمان وفي عضون قرون متوالية أخذت تتخلّد أكثر فأكثر. حيث باتت تقام هذه المراسم اليوم بالمقارنة إلى ما قبل مئة عام، رغم أنه لم يكن لتديّن الناس آنذاك بحسب الظاهر مناهضين كما هو الحال في هذا اليوم، أشدّ حرارة وجاذبية وحماسة وأكثر اتساعاً بكثير، وهذا كله ينطوي على مفاهيم وحقائق، ويدل على وجود تيار ينطلق في العالم بقيادة الحسين بن علي (سلام الله عليه)، وسيمضي قُدماً ويعالج المشاكل ويحلّ عُقد الشعوب إن شاء الله.

أودّ أن أتعرض لثلاثة موضوعات: الأول يتعلق بهذا المجلس المحترم وهو مجلس خبراء القيادة، والثاني يرتبط بقضايا البلد التي طالما أشرنا إليها، والثالث يخص رؤيتنا تجاه أوضاع المنطقة والعالم وصلتها بنا وبالجمهورية الإسلامية.

فيما يخص القضية الأولى (أقول:) يعتبر هذا المجلس حقاً مجلساً استثنائياً فريداً من حيث التركيبة والمهام والأداء خلال هذه السنين الماضية وحتى يومنا هذا، وباعتقادي يمكن عقد الآمال على هذا المجلس للنهوض بمهمة أخرى إلى جانب المهام التي أنجزها وينجزها حتى الآن، وهي الرؤية الشاملة والاستراتيجية للثورة ومسيرتها، وهذا مفقود في مراكزنا، ولا يوجد جهاز يتولى هذا الأمر. علماً بأن هذا هو من مهام القائد، وقد جرت المحاولة حتى الإمكان - على ما في هذا الحقير من نقائص - للنهوض بهذا الأمر، ولكن لا يوجد لدينا جهاز لإنجاز هذا العمل. فإن السلطات الثلاث تتولى إدارة البلد؛ كل واحد منها في جانب وبنحو من الأنحاء. وعليهم بالطبع أن يقوموا بإدارة ثورية، وهذا ما لا ريب يعتريه، بيد أن رؤيتهم بطبيعة الحال شاخصة إلى هذا الطريق وإلى هذا المسير الذي يسلكوه. وعلى هذا فالرؤية الشاملة والاستراتيجية لمنظومة الثورة على مرّ الأعوام التسع والثلاثين الماضية، وعلى مدى عشرات الأعوام المقبلة مفقودة، والضرورة تقتضي وجود مركز يحمل هذه الرؤية.

ولكن ماذا يعني ذلك؟ فلنوضّح أكثر: يعني بالإمكان أن نتصوّر في مجموعة مجلس الخبراء لجنة مفكّرة - وأصحاب الفكر والرأي في هذه المجموعة المتألَّفة من سبعين إلى ثمانين شخصاً ليسوا بالقليل والحمد لله - مهمتها أن تحمل رؤية شاملة تجاه مسيرة الثورة منذ انبثاقها وحتى هذا اليوم. حيث كانت لهذه الثورة أهداف، وقد انطلقت هذه الحركة باتجاهها، فلينظروا كم قد اقتربنا من هذه الأهداف؟ ومن أيّهم اقتربنا؟ وحيال أيّهم توقّفنا؟ وفي خصوص أيّ هدف تراجعنا؟ - ففي بعض المواطن ربما كان لنا تحرك وتقدم نحو هدفٍ ما في بداية الثورة، ولكننا بعد ذلك لم نتوقف وحسب، بل تراجعنا - فلنعرف هذه الحالات. وعلى المجلس لو شاهد في بعض المواطن مثل هذه الحالات أن ينظّم مطالباته على هذا الأساس.

لقد دار الكلام عن المطالبات التي وردت في كلمات السادة (خلال اجتماعهم في الأيام الماضية) وفي هذا المكان أيضاً، وسبق أن أشرتُ إلى ضرورة أن يكون لمجلس الخبراء مطالباته من الأجهزة المختلفة، وبالإمكان أن يتم تنظيم هذه المطالبات على أساس هذه الدراسة. ولنضرب بعض الأمثلة في هذا المضمار.

واحدة من العناوين الهامة في هذه الثورة على سبيل الفرض، عنوان «لا شرقية لا غربية»، والشرق قد انتهى اليوم، ولكنّ الغرب قائم بكل قوة واقتدار. فما هو معنى «لا غربية»؟ معناه ألّا ننجذب للغرب، ولا نتأثر به، ولا نستضيف ثقافته، وأن نطهّر بلدنا وثقافتنا من الامتزاج بثقافة الغرب المنحطة، وألّا نخضع للغرب سياسياً، ولا ندخل في زمرته، ولا نطيعه وننقاد له.. هذا هو معنى «لا غربية»، وهذا بالطبع هو نفس معنى «لا شرقية» أيضاً، سوى أنه لا وجود اليوم للكتلة الشرقية. ولكن أين يتمثل الغرب؟ يتمثل في أمريكا وأوروبا، فإن للدول الأوروبية ثقافة وسياسة وخارطة طريق طويلة شاملة. والواجب علينا كجمهورية إسلامية إنقاذ أنفسنا من أن نسير في المسير الذي يجاري رغبة الغرب.. هذا واجب. فهل قمنا بأداء هذا الواجب حتى اليوم أم لا؟ كم أدّينا؟ في أي المواطن أدّينا؟ أين تكمن المشكلة في الموارد التي لم يتم فيها أداء هذا الواجب؟ على أساس معرفة هذه المشكلة تتولّد المطالبة لهذا المجلس. وهذه المطالبة قد تكون من هذا الحقير، أو من الحكومة، أو من السلطة القضائية، أو من الحرس الثوري، أو من المجلس. وبالتالي تنبثق مطالبة على هذا الأساس.. هذا مثال.

ومنها مثلاً الشأن الاقتصادي، فإن الاقتدار الاقتصادي يمثل أحد أركان اقتدار البلد، وأحد عناصره الرئيسية هي قوة العملة الوطنية، فلابد أن تمتلك العملة الوطنية قدرة شرائية وأن توفّر الثروة للمواطنين وللذين يمتلكون تلك العملة. فإن وصلنا، بالاستناد إلى سياسات تنفيذية مغلوطة وقرارات خاطئة وحالات مختلفة من عدم الاكتراث، إلى وضع تسبب في هبوط قيمة العملة الوطنية يوماً بعد يوم، فهذا تراجع وتنازل. ولابد لنا من تشخيص هذه الحالة ومن تنظيم المطالبات وتحديدها على أساسها. والمطالبة هذه بالإمكان أن تكون من الحكومة أو من مجلس الشورى، وهلمّ جراً.

ومن القضايا التي كانت مطروحة منذ مطلع الثورة هي قضية العدالة. والعدالة تعني تقليل المسافات الفاصلة بين الفقير والغني ومكافحة الفقر وتوزيع الثروة بشكل صحيح في البلد. وهذه تختلف عن الأفكار الماركسية، وتختلف عن المساواة التي يطرحها الاشتراكيون أو الشيوعيون، وإنما هي رؤية الإسلام، والمصادر والوثائق الإسلامية كلها تؤيد وتؤكد هذا المفهوم. وهذا لا يعني أن نستولي على ثروة الأثرياء بغية أن نسلبهم ثروتهم.. كلا، بل ينبغي إدارة البلد بالطريقة التي تقلّ فيها الفوارق والمسافات بين الفقير والغني، وهي قضية بالغة الأهمية ومتداولة اليوم في العالم. وهذا هو المعامل الجيني المطروح في العالم والذي يعد راهناً من المعايير والمؤشرات الاقتصادية. وهو في الواقع يمثل المسافة الفاصلة بين الفقير والغني بمعنى من المعاني. فلابد لنا أن ننظر لنرى كم تقدمنا إلى الإمام في هذا الجانب من وجهة نظر الإسلام؟ وكم تحركنا؟ ولماذا تسير الأوضاع على هذا النحو؟ وبالتالي يجب علينا تقييم هذه الأمور وحسابها.

ومنها على سبيل الفرض صيانة وحراسة المحفزات الثورية. فإن شرط استدامة حياة الجمهورية الإسلامية هي توافر الدوافع والمحفزات والروح الثورية. ولولا الروح الثورية لما بقي للجمهورية الإسلامية وجود. أجل، ستكون هنالك حكومة تمسك بزمام الأمور، ولكنها لا تكون جمهورية إسلامية. وإنّ تحركات الشعب، والدماء التي بذلها والمشاق التي تحمّلها في سبيل إحياء الإسلام وإحياء الشريعة الإسلامية، كلها كانت لهذا الغرض، وسوف تزول وتندحر بزوال المحفزات الثورية. وعلى هذا فلابد من المحفزات الثورية صيانةً للجمهورية الإسلامية. ولكن ما هو حال هذه المحفزات؟ هل انخفضت؟ هل ارتفعت؟ هل استمرت؟ ما هي عوامل مواجهة هذه المحفزات ومكافحتها؟ وما هو السبيل لمواجهة هذه العوامل؟ فلنُعدّ مطالباتنا على ضوء هذه الدراسة. إنني على سبيل المثال أوصي دوماً خلال كلماتي المختلفة بمساعدة الشباب الثوري الولائي، وهذه التوصية تشير إلى هذا المعنى؛ أي أن هذه مطالبة قائمة على أساس نظرة للمسيرة الثورية في البلاد. ولحسن الحظ لم يتراجع البلد في هذا المجال، بل وتقدم إلى الأمام، وهذا شيء مؤكّد وممكن الإثبات.

ومنها على سبيل المثال قضية تديّن الناس، وهي بغيتنا. وأحياناً ما تتكرر هذه العبارة القائلة: «نحن لا نريد إدخال الناس إلى الجنة بالقوة»، وهي باعتقادنا عبارة غير صائبة وفيها مغالطة. إذ ما من أحد يريد إدخال الآخر إلى الجنة بالقوة، ولكن علينا أن نفتح طريق الجنة أمام الناس ونشجعهم على ذلك. بل الأنبياء قد جاءوا ليأخذوا بالناس إلى الجنة وليصّدوهم عن الدخول إلى النار. وأساساً كل إرسال الرسل وإنزال الكتب وكل الجهود والمساعي كانت من أجل الحيلولة دون أن يذوق الناس عذاب الحريق. ولا مراء في أنّ هذا هو تكليفنا الذي يجب علينا النهوض به ليكون الناس متدينين. ولكن بالطريق الصحيح والطريقة الصائبة. وأما أن يقول قائل «لا يوجد في الإسلام قوة في هذا المجال» فهو قول غير صائب. فما هي الحدود الشرعية إذن؟ وما هو معنى قوله: ﴿فَاجْلِدُوا... مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾(3)، أو قوله: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾(4)؟ هذه هي القوة بعينها.

إذن، هذه دراسات استراتيجية. أي حين تجتمع لجنتكم المفكرة وتلقي نظرة على مسيرة الثورة وعلى هذه المنظومة طيلة هذه السنين التسع والثلاثين، وتأخذ كل واحدة من هذه الحالات - وعشر حالات أو خمس عشرة حالة مهمة أخرى يمكن إحصاؤها - بنظر الاعتبار، وتجد أننا حققنا تقدماً في هذا الجانب مثلاً، سيبعث هذا التقدم على الحثّ والتشجيع، وعندذاك ينبغي القيام بما من شأنه أن يؤدي إلى مواصلة هذا التقدم والحفاظ عليه، فمن المؤكد أن لهذا التقدم من يعارضه ويناهضه. أو تجد أننا توقّفنا في بعض المواطن، وتراجعنا في مواطن أخرى. فلابد لنا أن نفتش عمّا ينبغي فعله حيال هذه الحالات. وهذا ما يفرز جملة من المطالبات الضرورية التي هي أعم بكثير من المطالبات الجزئية والتنفيذية، من قبيل أن المحافظة الفلانية أو المدينة الفلانية تعاني من هذه المشكلة. وهي أيضاً مشكلات بالطبع ولا نريد تجاهلها، بيد أن مكانة مجلس الخبراء تقضي متابعة تلك القضايا (الهامة). وهذه باعتقادي واحدة من المبادرات الأساسية والهامة التي يستطيع هذا المجلس النهوض بها.

والنقطة الثانية التي أشرت إلى أنها تتعلق بمشاكل البلد، والتي طالما كرّرناها ونودّ طرحها ثانية، خلاصتها أننا نريد القول: ليعلم المسؤولون وأبناء الشعب كافة أن معالجة مشاكل البلد لا تتيسّر ولا تتحقق إلّا على أيدي أبناء البلد أنفسهم، سواء المشاكل الاقتصادية أو الثقافية أو غيرها بكل أقسامها.

ولأشير إلى نقطة حول ذلك الموضوع السابق الذي يصدق أيضاً على هذه القضية، وهي أنكم عندما تتوصّلون إلى نتيجة ما بخصوص عنوان من العناوين الهامة والأساسية للثورة، عليكم أن تحوّلوه إلى خطاب، كأن تنشروه مثلاً في الصحف والمجلات. ذلك أنكم تشكّلون جمهوراً كبيراً، وإنّ عدداً كبيراً من السادة هم من أئمة الجمعة أو من الشخصيات البارزة في المحافظات أو في العاصمة، ولهم منابرهم ويستطيعون التحدث مع الناس ومخاطبتهم، فعليكم بالقول والتكرار حتى تتبدّل الفكرة إلى خطاب. والخطاب يعني تلك الفكرة الشائعة التي أضحت من مطالبات الناس العامة. فإن تحوّل أمرٌ إلى مطالبة عامة وإلى خطاب سيقترب من التنفيذ العملي بطبيعة الحال. وكذا الحال بالنسبة لهذا الموضوع أيضاً. فإن قضية التأكيد على الأيدي الداخلية لمعالجة مشاكل البلد لابد وأن تدخل في عداد الواضحات والبينات الفكرية لدى الشعب. وينبغي ذكر هذه الفكرة وتكرارها والاستدلال عليها وتبيانها حتى تتبدّل إلى خطاب مؤكد.

إنّ لدينا شريحة جيّدة من الشباب المتحفز والمتخصصين والمنتجين والموفّرين فرص العمل والعمال والمزارعين والمعلمين والأساتذة. ولابد من إصلاح الأمور على يد أمثال هؤلاء، وعلى كاهلهم تقع مهمة معالجة المشاكل العالقة على البلد، بما فيها المشاكل الاقتصادية والمشاكل العملية المتنوعة الأخرى، فالأجانب لا يسعهم فعل شيء.

ولا أقول بالطبع: يجب عليكم قطع العلاقات مع العالم، فهذا ما لا أراه أبداً. بل كنتُ منذ بداية الثورة ممن يُصرّ على إيجاد العلاقات مع أطراف العالم، واليوم أيضاً أحمل نفس هذه الرؤية، ولكنّ الذي أقوله هو أن لا نستبدل أقدامنا القوية الطبيعية بعصا الأجانب. إذ من الخطأ أن نتوكأ على عصا الأجنبي بدل الوقوف على أقدامنا والاعتماد عليها. ولكن لا إشكال في المفاوضات بشأن العلاقات العالمية.

إنّ الإشكال الذي كنتُ ولازلتُ أحمله تجاه المفاوضات النووية والذي طالما طرحته على المسؤولين في جلسات خاصة وعامة هو أنّه لا إشكال في تفاوضنا ولا ضير في (أصل) التفاوض، ولكن كان من الواجب في هذه المفاوضات توخي الحيطة والحذر لئلا يتمكّن الطرف المقابل من ارتكاب أية حماقة يريدها دون أن يعد انتهاكاً للاتفاق النووي، فيما تعتبر أدنى مبادرة من قبل إيران انتهاكاً له! هذا خطأ، وما كان ينبغي أن يحدث. وهو يتولّد بسبب عدم الاتكاء على القوة الداخلية والاهتمام بها، وبسبب الاعتماد على الطرف المقابل والعنصر الخارجي.

وأقولها: لا ينبغي عقد الآمال على الأجانب. فإنّ علينا أن نتعامل مع العالم، ولا إشكال لدينا في ذلك. وإنّ للتعامل مع العالم لوازمه بالتأكيد، ونحن نقبل بهذه اللوازم ونحملها على عاتقنا، ولكن لا نتّكئ على الخارج، لأن أعداءنا في خارج بيئة مجتمعنا وبلادنا كثيرون، وهناك جبهة معادية تجابهنا. ولقد سدّدنا إلى هذا اليوم ضرباتنا صوب هذه الجبهة والحمد لله، وكتبنا لها الهزيمة والتراجع، وهذا ما سيتحقق بعد اليوم أيضاً، ولكن لنعلم أن الذي يواجهنا لا يمثل نقطة عداء واحدة وإنما يشكل جبهة واسعة من الأعداء.

وأما قضية أوضاع العالم والمنطقة التي ترد في تتمة حديثي حول النقطة الأخيرة. فلابد لي من القول على نحو الإيجاز بأننا في طور التقدم بشأن القضايا العالمية والحمد لله.. لا أننا لم نتراجع وحسب، بل ولم نتوقف، وإنما نحثّ الخطى نحو الأمام. وعلى خلاف ما يروم البعض إظهاره من «أننا فقدنا سمعتنا في العالم وأصبحنا طرفاً صغيراً فيه»، فإن الجمهورية الإسلامية بفضل الله وحوله وقوّته وعزته عزيزة، وقد ازدادت حتى هذه اللحظة يوماً بعد آخر عزة واقتداراً، وهذا ما يغيظ الأعداء.

لقد سمعتم كلمة الرئيس الأمريكي البلهاء(5) في منظمة الأمم المتحدة - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - حيث استخدم فيها عبارات قبيحة وسخيفة للغاية، تنبئ عن أدبيات رجال العصابات ورعاة البقر، ومزجها بتهديدات زائفة باطلة وتحليلات مغلوطة مئة بالمئة. وكانت مشحونة بالأباطيل والأكاذيب! ولربما كانت تنطوي على عشرين كذبة واضحة.. إنها كلمة مضطربة تحكي غضبهم وخيبة أملهم وتخّلفهم وخفة عقلهم فكرياً. فقد أماط هذا الخطاب اللثام عن هذه الأمور الثلاث برمتها، حيث كشف عن الغضب وعن الإعياء - إذ لا يعلمون ما الذي ينبغي فعله حيال هذا الواقع الموجود - وعن خفة العقل أيضاً.

لم تكن هذه التصريحات مبعث فخر لشعبٍ كالشعب الأمريكي. وعلى النخب الأمريكية باعتقادي أن تشعر بالخجل - وهي تشعر بالفعل - من أن يكون لها رئيسٌ كهذا ومن البوح بمثل هذا الكلام. ولا شأن لي بما قاله وكيف قاله. وإنما أريد القول: لماذا هم غائظون؟ لما حققناه من تقدم. وغيظهم هذا يعد غاية في الأهمية. فإن الذي كان جلياً في هذا الخطاب أكثر من أيّ شيء آخر هو الغضب. فلِمَ هم غاضبون؟

الغضب يعود سببه إلى أن أمريكا كان لها مخططها تجاه منطقة غرب آسيا، التي يطلقون عليها عنوان الشرق الأوسط، منذ خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة ماضية - ولربما يعود إلى فترة أسبق من هذه، ولكنه ظهر منذ نحو خمسة عشر أو ستة عشر عاماً - وقد طرحوا على أساس ذلك لفترة من الزمن عنوان «الشرق الأوسط الجديد»، ولفترة أخرى اسم «الشرق الأوسط الكبير»، وبالتالي فقد رسموا خطة لهذه المنطقة. وكان العراق وسوريا ولبنان يشكلون قلب هذه الخطة ومحورها الأساس. فقد كانت تشكل هذه الدول الثلاث ثلاثة محاور ومراكز، لابد وأن يجري تطبيق الخطة فيها. ولكن كيف يتم ذلك؟ بأن تتولى السلطة في هذه الدول الثلاث حكومات مستسلمة طيّعة خادمة لأمريكا تماماً في كل ما تريده. وعندها ماذا سيكون الناتج؟ الناتج هو أن تغدو هذه المنطقة برمتها مؤطئاً لأقدام الكيان الصهيوني، وأن تتحقق فيها سياسة «من النيل إلى الفرات» التي ينادي بها هذا الكيان في هذه المنطقة بنحو من الأنحاء، حتى وإن لم يكن على نحو السياسة الظاهرية، وإنما على نحو التسلّط والنفوذ والهيمنة المعنوية والحقيقية.. هذا ما كانوا يصبون إليه.. إنهم أرادوا أن يكون العراق، هذا البلد التأريخي العظيم بكل ما يحمله من أمجاد، رازحاً تحت هيمنة الصهاينة والأمريكيين. وأن تكون سوريا، التي هي من المراكز الهامة للغاية ومن معاقل المقاومة ضد الصهاينة، خاضعة تحت قبضة الكيان الصهيوني. والوضع بالنسبة إلى لبنان واضح.. هذه هي المهمة التي أرادوا إنجازها.

ولكم أن تنظروا اليوم إلى الواقع، لتجدوا كم هناك بون شاسع بين ما أرادوا تحقيقه وبين الواقع! فانظروا إلى لبنان التي لم يتمكّنوا فيها من ارتكاب أية حماقة. وانظروا إلى العراق الذي تحقق فيه ما يناقض بغيتهم. وانظروا إلى سوريا، وبالطبع فقد ارتكبت أمريكا وحلفاؤها الكثير من الجرائم في هذا البلد، وأيديهم ملطّخة بدماء الشعب السوري إلى المرفق، وهذا مما لا شك فيه. فقد أسسوا داعش، وأطلقوا التكفيريين كجبهة النصرة وما شابهها، وأبادوا الناس إبادة جماعية بمعنى من المعاني، وفعلوا ما فعلوا ولكنهم لم يستطيعوا تمرير مخططهم.

ولكم أن تنظروا اليوم إلى قضية داعش التي قد شارفت على النهاية، وإلى التكفيريين الذين يعيشون في عزلة تامة. وقد تكرس الوضع الذي أرادوا إزالته من أجل استبداله بوضع آخر، وتحقق ما هو على الضد تماماً من الإرادة الأمريكية. وحين ينظر الأمريكيون، يجدون إيران هي المؤثر والمقصّر في هذا المضمار، ولذلك تثور ثائرتهم. وعلى حد قول المرحوم السيد بهشتي: «اِغتاظوا وموتوا بغيظكم»! فليكونوا غاضبين.. هذه هي القضية وهذه هي المعركة. فلا ينبغي أن يلتبس الأمر على أحد زاعماً بأن هنالك قوة قاهرة تواجه إيران.. كلا، فإنّ ردود الأفعال التي يبدونها إنما تنمّ عن ضعفهم وتخلّفهم وغيظهم الناجم عن هزيمتهم، فقد تمرغ أنفهم بالتراب، ولذلك فهم غاضبون ويطلقون هذا الكلام ويتفوّهون بهذه التصريحات السخيفة ويقومون بهذه الأعمال.

وعلى هذا فالذي أروم قوله هو أنّ الجمهورية الإسلامية قد حققت نجاحات والحمد لله فيما يرتبط بكيفية حضورها في العالم المعاصر، ﴿وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ﴾(6).. نحن نحمد الله ونشكره على أن الجمهورية الإسلامية المؤمنة قد شملتها هذه الآية القرآنية الشريفة وهي تتحلى بهذه العزة، وهذا ما يجب علينا صيانته. حيث ينبغي لنا أن نحافظ على هذه العزة ونضاعفها إن شاء الله بالعقل والتدبير والأفكار القويمة والخطط الصائبة وعدم الوقوع في الخطأ في نمط العلاقات وفي كيفية اتخاذ القرارات وفي أسلوب الكلام.

ولقد توافرات هذه العزة بفضل الجهاد. وهذا شاهدٌ على ما ذكرناه من أن محفزات الجهاد في الوقت الراهن أفضل من السابق. وما الشهيد العزيز محسن حججي(7) إلا نموذج، ولدينا الكثير من هذه النماذج في أوساط الشباب، سوى أن الله سبحانه وتعالى، ولأسباب، برّز هذا النموذج أمام أنظار الجميع، ليشاهدوا ويستسلموا أمام هذه الحقيقة الشريفة العزيزة وهي أن المحفز الثوري في أوساط الشباب بفضل الله وتوفيقه في تزايد يوماً بعد آخر.

فإن هناك من يكتب لنا الرسائل ويتوسل حقاً بأن نسمح لهم بالذهاب - وهذا طبعاً بالنسبة إلى الذين تتسنى لهم إمكانية الاتصال هنا هاتفياً وكتابة الرسائل، ومن المفترض أن يكون هناك عدة أضعاف لا تتوافر لهم هذه الإمكانية - يتوسلون بنا قائلين: أرسلونا إلى تلك المناطق لمقارعة العدوّ ومحاربته.. هذه هي دوافع شبابنا ومحفزاتهم، وهي معجزة في ضوء العوامل المتاحة ضدّها، ومنها الفضاء الافتراضي الذي أشار إليه سماحة الشيخ جنتي، وقوله وتحذيره صحيح طبعاً، ونحن نتابع القضية بشكل جاد، ولكن على الرغم من توافر هذا الفضاء الافتراضي وهذه المؤامرات وهذه الوساوس، ترون أن الجمهورية الإسلامية تشهد أمثال هؤلاء الشباب وهذه الدوافع والمحفزات، وهذه من الألطاف الإلهية.

نسأل الله تعالى أن يديم لطفه على هذا البلد وعلى هذا الشعب، وأن يتغمد أولئك الذين فتحوا هذا الطريق للبلد، بما فيهم الإمام الخميني الجليل والشهداء الأعزاء والمجاهدين في سبيل الحق، بلطفه ورحمته.

والسلام علیکم ورحمة الله وبركاته

 

 

الهوامش:

1 ـ في بداية هذا اللقاء ـ الذي انعقد في نهاية الاجتماع الثالث من الدورة الخامسة لمجلس خبراء القيادة ـ تحدّث آية الله الشيخ أحمد جنتي (رئيس مجلس خبراء القيادة)، وآية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (نائب رئيس مجلس خبراء القيادة).

2 ـ آية الله علي أصغر معصومي (النائب في مجلس خبراء القيادة لأربع دورات ومسؤول ممثلية الولي الفقيه في الجامعة الإسلامية الحرة بمحافظة خراسان الرضوية) الذي توفي بتاريخ 18/09/2017.

3 ـ سورة النور، جزء من الآية 2 .

4 ـ سورة النور، جزء من الآية 4 .

5 ـ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

6 ـ سورة المنافقون، جزء من الآية 8 .

7 ـ الشهيد محسن حُجَجَي من القوات المدافعة عن المقدّسات، وقع في آب 2017 في أسر تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، واستشهد على أيديهم بعد يومين.