موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم القائد العام للقوات المسلحة في جامعة خاتم الأنبياء (ص) للدفاع الجوي التابعة للجيش.

 

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیدنا ونبینا أبي القاسم المصطفی محمد، وعلی آله الطیبین الطاهرین المنتجبین، سیما بقیّة الله في الأرضین.

أولاً أبارك لكم جميعاً أيها الشباب الأعزاء ويا أنوار العيون الأحباء، سواء الشباب الذين تسلّموا اليوم رتبهم وتخرجوا ودخلوا في عِداد الضباط الشباب في جيش الجمهورية الإسلامية، أو الشباب الذين أخذوا اليوم كتفيّتهم وانطلقوا للوصول إلى نقطة السعي والجهاد.. نسأل الله أن يوفقكم جميعاً. أنتم الذين أخذتم الكتفية يوم أمس، وتسلّمتم اليوم الرتبة العسكرية، ودخلتم في زمرة الضباط الشباب في جيش الجمهورية الإسلامية، وغداً بإذن الله وتوفيقه ومنّه ستكونون من قادة القوات المسلحة ومسؤوليه ومدرائه الأقوياء في بلدكم. ولقد أجدتم في ترتيب الساحة وعرضتم مشهداً جميلاً، فنشكر القائمين والمنفّذين لهذا العرض.

سأشير أولاً إلى النقطة الرئيسية ثم أطرح عليكم أيها الشباب الأعزاء بضعة نقاط أخرى. النقطة الرئيسية هي أنّ الحضور في جيش الجمهورية الإسلامية لا يعني مجرّد مهنة كغيرها من الـمِهَن التي يفتّش الإنسان عنها ويمارسها، وإنما هي تقبّل مسؤولية مقدسة، ولكن ما هي تلك المسؤولية المقدسة؟ إنها حفظ الأمن.

يشكّل الأمن واحداً من أهم العوامل المطلوبة لدى المجتمع وأكثرها تأثيراً. فإن فُقد الأمن في المجتمع لا يمكن فيه القيام بأي عمل صائب وإيجابي. وإن انعدم الأمن في المجتمع وتعرّض البلد لتهديد الأعداء لا يمكن فيه إنجاز أي عمل لا علمي ودراسي ولا نشاط اقتصادي ولا فكري وثقافي. ففي الأجواء التي لا أمن فيها يفكّر كلّ واحد بالحفاظ على حياته.

أنتم منظومة القوات المسلحة وجيش الجمهورية الإسلامية تحفظون أمن هذا البلد، وهذه مسؤولية هامة وخطيرة ومقدّسة وقيّمة للغاية، فاعرفوا قدرها. ولو نويتم، أنتم الشباب الذين لكم قلوب طاهرة مشرقة، بهذا العمل التقرّب (إلى الله) من الآن سيكون عملكم عبادة. أي إنّ نفس هذه التدريبات التي تقومون بها والدروس التي تتلقّونها والمهام التي تنفّذونها والإنجازات الكبرى التي تُنجزونها كلّها تعتبر عبادة، لأنّ العمل إذا كان مقدّساً ونوى الإنسان فيه التقرّب كان عبادة، وهذا هو الفارق الأساسي.

إنّ الأمن كما ذكرتُ قضية بالغة الأهمية. وإنّ أكبر ضررٍ يستطيع الأعداء إلحاقه بأيّ بلد هو أن يسلبوا منه أمنه.. الأمر الذي بدأوا به راهناً في بعض بلدان منطقتنا، وهذا ما تشهدونه حيث راحوا يسلبون الأمن من الناس، والمنفّذون لهذه الممارسات الخبيثة معلومون أيضاً. فإنّ القوى الاستكبارية في العالم اليوم، وعلى رأسهم أمريكا والأجهزة الاستخباراتية الغربية، بدعمٍ ماليٍّ من بعض الدول الرجعية في المنطقة، أخذوا يؤججون نيران الاضطرابات وأعمال الشغب في الدول المجاورة لنا والقريبة منّا وفي بلدان هذه المنطقة، وباتوا يسلبون الأمن منها، وهذه هي أعتى أنواع العِداء وأخطر حالات الحقد والضغينة ضدّ الشعوب.

ومن هنا أنتهز الفرصة وأخاطب المخلصين في هذه البلدان، كالعراق ولبنان الذين يعانون من هذه المشاكل، وأوصيهم بأن يجعلوا معالجة انعدام الأمن أولويتهم الأولى. ولتعلم شعوبها أيضاً بأنه، على الرغم من المطالب التي يحملونها وهي حقة كذلك، لا يمكن تحقيق هذه المطالب إلا في إطار البنية القانونية، والعدو يريد هدمها. ومتى ما تهدمت البنية القانونية وحلّ الفراغ في بلدٍ لا يتأتى فيه إنجاز أيّ عمل والقيام بأيّة مبادرة إيجابية. وهذا ما خطّطوا له تجاه بلدنا العزيز أيضاً، بيد أنّ الناس إلى جانب القوات المسلحة ولحسن الحظ قد نزلوا إلى الساحة في الوقت المناسب وكانوا يتسمون بالوعي واليقظة وأحبطوا هذا المخطط. وهذه هي وصفة علاج لكل البلدان التي تعاني من هذه المشاكل.. هذه هي النقطة الأولى: اِعلموا أنكم تحافظون على الأمن؛ أي تحافظون على أكبر موروث يمتلكه الشعب، وهو المفتاح للموروثات الأخرى.

النقطة التالية هي المقارنة بين جيش الجمهورية الإسلامية في إيران وبين جيوش القوى الاستكبارية. ولا شأن لي بكل جيوش العالم، فإني لا أعرفهم جميعاً ولا أروم الحديث بشأنهم، وإنما كلامي يدور حول الجيوش الاستبكارية. فلنقارن بين جيشنا، وأنتم شبابه وبراعمه المتفتحة تواً، وبين الجيوش الاستكبارية، وهناك اختلاف ماهويّ وذاتي وعميق بينهما. فإنّ جيش الجمهورية الإسلامية، كما ذكرت، يعتبر نفسه حافظاً لأمن البلد، وهذه هي مسؤوليته الرئيسية، بينما نجد مهمة جيوش القوى الاستكبارية في الدرجة الأولى هي الهجوم والاغتصاب وتسديد الضربة للبلدان التي يمكنهم تسديد ضربة لها لأسباب ومصالح.. هذا هو الفرق.

نحن لم نبتدأ بأي حربٍ في عهد الجمهورية الإسلامية على الإطلاق، فالدفاع كان في محلّه بقوة واقتدار وأما الهجوم والعدوان أبداً! إذ لا وجود للعدوان في فلسفة جيش الجمهورية الإسلامية ومنطق القوات المسلحة في نظام الجمهورية الإسلامية. ولكن إذا ما نظرتم إلى جيوش الدول الاستكبارية خلال الأعوام المائة المنصرمة – وإنما ذكرت الأعوام المائة لأني واقف على جزء هام من هذه الفترة وقد شاهدتها عن كثب، بمعنى أنها حدثت في زماننا – لوجدتم آثار جرائمها مشهودة خلال هذه السنوات المائة تقريباً في جميع أرجاء العالم.

فالجيش البريطاني في شبه القارة الهندية، أي في باكستان والهند وبنغلاديش اليوم، وكذلك في بورما ودول المحيط الهندي الصغيرة، قد ارتكب من الجرائم خلال القرن العشرين ما تثير اشمئزاز الإنسان حقاً إذا ما تذكّرها وقال متسائلاً كيف هاجموا هذه الشعوب بقواتهم العسكرية؟ ولقد كُتبت كتابات مذهلة عن الإبادات الجماعية التي شهدتها تلك المناطق، وهذا كان جزءاً من العمل. فالجيش البريطاني الذي قام بذلك في منطقة الشرق تجده، طيلة هذه السنوات المائة، قد مارس نفس هذه الممارسات في منطقة غرب آسيا وفي جزء من شمال أفريقيا أيضاً، حيث اقترف من الجرائم ما لا يمكن أن تقلع عن ذاكرة الشعوب أبداً. علماً بأن السياسيين – سواء السياسيين في نفس تلك الدول الضعيفة أو السياسيين في بريطانيا – قد حاولوا إخفاءها ورميها بنحوٍ من الأنحاء في مطاوي النسيان، ولكن أنّى لهم ذلك فقد سجّلت في التأريخ ولا يمكن مسحها من صفحاته.

والكلام ذاته يجري حول الجيش الفرنسي أيضاً. فالفرنسيون، الذين تجد اليوم صوتهم طبّق الخافقين بما يتشدّقونه من حقوق الإنسان والديمقراطية وأمثال ذلك، قد ارتكبوا جرائم كبيرة في شمال أفريقيا، كالجزائر والمغرب وتونس، وفي شرق آسيا كذلك، كما في فيتنام قبل دخول الأمريكيين إليها، وفي نفس سوريا ولبنان الحاليين، حيث اقترف الجيش الفرنسي جرائم مذهلة وفرض على الناس ضغوطاً كبيرة! هذا كله يعود إلى الأعوام المائة الأخيرة، وهذه هي خصيصة الجيوش الاستكبارية.

وحين يصل الدور إلى أمريكا فالأمر معلوم. في شهر أغسطس/آب من سنة 1945، قتلت أمريكا بإلقائها قنبلة على مدينة هيروشيما مئة ألف نسمة في لحظة واحدة.. حينما سقطت القنبلة على هيروشيما قُتل مئة ألف شخص في الساعة الأولى، علماً بأنه قُتل بعد ذلك وأصيب عشرات الآلاف تدريجياً بسبب السموم الناتجة عن الأمواج النووية. وبعد ثلاثة أيام أطلقوا قنبلة أخرى على مدينة ناجازاكي فقتل خمسون ألف شخص فيها أيضاً. وحين سُئلوا لو كنتم تريدون إنهاء الحرب – حيث كانوا يتذرّعون بأننا نريد إنهاء الحرب العالمية – لكانت القنبلة الأولى كافية، فلِمَ أطلقتم قنبلة ثانية على ناجازاكي؟ أجابوا: لأن القنبلة الأولى صُنعت من الأورانيوم والثانية من البلوتونيوم، وكنّا نريد اختبارها! لاحظوا، يُباد 150 ألف شخص في اللحظة الأولى من أجل اختبار قنبلة.. هذه هي طبيعة الجيش الاستكباري.. الجيش المجرّد عن الدين والبعيد عن الله والفاقد للأخلاق. وهذا هو الفارق بين الجيوش. علماً بأنّ هذه أمثلة محدودة ضربتها، ومن أراد الحديث عن جرائم جيوش القوى الاستكبارية وتخطّي هذه السنوات المائة التي ذكرتها إلى مائتين أو ثلاثمئة عام، لكان بالإمكان تأليف عدة كتب ولابد من تأليفها.

ولكن على من تتكئ هذه الجيوش؟ ومن أين تُعدّ إمكانياتها؟ تتكئ هذه الجيوش على الدول المستكبرة، وهذا يعني أن المشكلة لم تنبثق من الجيش نفسه، وإنما هي من متكأ الجيش، أي الأنظمة الاستكبارية. التفتوا! هذا هو السرّ الذي يقف وراء إصرارنا وتكرارنا وتأكيدنا أنا وأنتم على أننا نتكئ على القرآن ونريد نظاماً إسلامياً. فإنّ البشرية متى ما وقعت بأيدي أنظمة مجرّدة عن الأخلاق وعن الدين وعن الاتجاه الصائب سيكون هذا حالها وهذا جيشها. ذلك إن الركيزة التي ارتكزت عليها هذه الجيوش في ارتكابها كل هذه الجرائم هي القوى السياسية التي تحكم هذه البلدان، فإنّ تلك القوى هي التي ساندت الجيوش، والجيوش بدورها هي التي حافظت على تلك الأنظمة.. هذه هي طبيعة العمل. ومن هذا الجانب بالطبع، فإن النظام الإسلامي يثمّن ويقدّر جيشه وقواته المسلحة وحرسه وقواته التعبوية وقواه الأمنية ويولي لهم أهمية، والقوات المسلحة بدورها تمثل جزءاً هاماً ومؤثراً من المنظومة الرائعة لنظام الجمهورية الإسلامية، وهي تتألف في كل قطاعاتها من عناصر مختلفة.. هذه هي النقطة التالية.

والنقطة الثالثة هي الخصائص التي يمتاز بها جيش الجمهورية الإسلامية، فإنه وعلى مدى أربعين عاماً نذر نفسه لخدمة الثورة الإسلامية بكل كيانه ونزل إلى الساحة بكل طاقاته وقدراته. حيث وقفت المجموعات في داخل البلد أمام امتحان تأريخي، وكلّ واحد منها خرج من هذا الامتحان بنحوٍ من الأنحاء، أما الجيش فقد خرج منه شامخاً مرفوع الرأس.. هذا هو الرأي الذي أتمكّن من الإدلاء به تجاهه؛ ذلك إنني منذ الساعة الأولى من انتصار الثورة بل وحتى قبل انتصارها بقليل، حيث كانت تأتي وحدات الجيش الثورية لإثبات نفسها، كنت مطلعاً على مجريات الأحداث في داخل الجيش وإلى يومنا هذا بعد 41 عاماً، فقد أبلى الجيش في هذا الساحة بلاء حسناً.

أولاً هنالك عدد كبير من عناصر الجيش في عهد الطاغوت ومن الذين حافظوا على دينهم وإيمانهم قد تمكّنوا من النزول إلى هذه الساحة، وهم الذين شكّلوا جيش الجمهورية الإسلامية في واقع الأمر، من أمثال الشهيد صياد (شيرازي) والشهيد ستاري والشهيد بابائي، وأقدم منهم بقليل الشهيد فلاحي والشهيد فكوري والمرحوم ظهيرنجاد والمرحوم سليمي، فإنّ هؤلاء كانوا يشكّلون عناصر الجيش في عهد الطاغوت. ولكم أن تنظروا إلى هذه الوجوه اللامعة كيف استطاعت أن ترحّب بنظام الجمهورية الإسلامية وأن تجرّ وراءها كمّاً هائلاً من عناصر الجيش. ففي الوقت الذي كان الشهيد بابائي قائداً في قاعدة أصفهان الجوية بادرتُ بنفسي إلى زيارة تلك القاعدة، فوجدت أنها كانت تُدار إدارة تعبوية يومذاك بقيادة الشهيد العقيد بابائي، الذي كان رجلاً مؤمناً ثورياً، وقد تفقدّتُ حينها مختلف أنحائها. وكذلك الشهيد صياد الذي كان مظهراً للحراك الثوري والإيمان والاعتقاد الديني.. هذه هي واحدة من الإنجازات التي قام بها جمع غفير من العناصر السابقة، وأنا لم أذكر إلا أسماء نفر منهم، وقد حاز عدد كبير منهم على درجة الشهادة الرفيعة، وعدد آخر منهم دخلوا في عِداد العاكفين على إسداء الخدمات وبذل المساعي والجهود، وقد شاهدنا جهودهم ومساعيهم.

ثانياً ما قدّمه الجيش من تضحيات في جميع هذه الساحات، ففي مواجهة الانفصاليين التابعين للقوى الأجنبية في أوائل الثورة كان الجيش في بعض أنحاء البلد واحداً من القوات التي خاضت هذا الميدان وجاهدت فيه، وخلال ثمانية أعوام من الدفاع المقدس أيضاً كان للجيش حضور باهر، وفي المرابطة على الثغور بعد الانتصار في الدفاع المقدس كذلك، وفي دعم جبهة المقاومة ومساندتها لعب الجيش دوره، وهذه قضايا قد تم تسجيلها وسيتبيّن أمرها ويتم تدوينها وبثّها والإعلان عنها في المستقبل عندما يأتي أوانها.

ثالثاً لقد حقّق الجيش تطوّراً في قدراته الداخلية، سواء تطوّر في التنظيم، أو تطوّر في التكتيك التنفيذي، أو تطوّر في البناء والإعمار، أو تطوّر في فكر وثقافة أفراده. فإنّ هذه الروح الدينية والإيمانية المتوافرة في أكاديميات الجيش للضباط تعتبر أمراً بارزاً وهاماً للغاية، وهو لم يُكتسَب بسهولة، وإنما استطاع القادة المؤمنون والمؤهّلون خلال فترة زمنية إيجاد هذه السنن وترسيخها بصورة عميقة وثاتبة. فقد تغيّرت التوجّهات المناوئة للدين في الجيش إبان الطاغوت 180 درجة وتبدّلت إلى توجّهات دينية وثقافية وإسلامية.

والنقطة التالية تتعلق بالمستقبل. فقد تعرّفنا على طبيعة الجيش الإسلامي، وتحدثنا عن الواقع الحالي للجيش في الجمهورية الإسلامية في بضع كلمات، ولكن هنالك واجبات تجاه المستقبل.

أعزائي! التفتوا، ما هو المراد من الشعب الحرّ؟ وعلى أيّ شيء ترتكز حريّة الشعب حين نقول بأنّ الحرية تمثل إحدى القِيَم؟ وأيّ شعبٍ يطلق عليه بأنه شعبٌ حرّ؟ الشعب الحرّ هو ذلك الشعب الذي يريد بحرية ويعمل بحرية ويحدّد مصالحه الحقيقية والوطنية، وبذلك الاستقلال في الإرادة والاستقلال في العمل يحقّق تلك المصالح لشعبه وبلده.. الشعب الحرّ بحاجة إلى مثل ذلك، وهذه السمات والخصائص هي التي تحدّد لنا الشعب الحرّ. ولو استطاع شعبٌ أن يحمل هذا التشخيص الصائب وأن يتّخذ قراره وألّا يتأثر ببعثرة العدوّ للحسابات سيجني ثماراً جيّدة.. بعثرة الحسابات.. التفتوا! واحدة من ممارسات العدوّ هي تغيير حسابات المسؤولين في البلد والمؤثرين فكرياً على البلد وفي الدرجة الثانية تغيير حسابات أبناء الشعب وترك الأثر فيها، كما أنك لو استطعت على سبيل الفرض إدخال فيروس في حاسبة شخص معيّن بحيث يؤدي ذلك إلى أن تعرض لك المعلومات بصورة خاطئة مغلوطة، فإنّ العدوّ أحياناً ما يتلاعب في النظام الحاسوبي العام لإدارة البلد وفي أفكاره وحساباته. والشعب الحرّ هو ذلك الشعب الذي لا يتأثّر بذلك، ويفكّر حقاً بحرية، ويعمل بشجاعة، ويتتبّع مصالحه الوطنية، ولكن هذا يحتاج إلى أيّ شيء؟ إلى البصيرة.

فلو لم نمتلك البصيرة ولم نمتلك الرؤية الصائبة والعين المفتوحة واليقظة اللازمة، لما شخّصنا مصالحنا الحقيقية بشكل صحيح، ولما حدّدنا الطريق الموصل إلى هذه المصالح بشكل صحيح، ولما تعرّفنا على ذلك الإنسان الذي يجب عليه حمل هذا العبء الثقيل على كاهله بشكل صحيح. وإنّ مَثَل فقدان البصيرة كمَثَل المرء الذي لا عين له ولا يستطيع رؤية الطريق.. هنا تكمن أهمية البصيرة لأي بلد ولأي شعب ولأفراد أي مجموعة.

فإن توافرت هذه السمات في بلدٍ وفي شعبٍ عندئذٍ سيصل ذلك الشعب إلى نتائجه المنشودة. علماً بأنّ هذه تضع على كاهل الجميع بعض المسؤوليات بما فيهم قواتنا المسلحة. فلا يمكننا الفرض بأن يتسم في البلد أناسٌ بالبصيرة، والقوات المسلحة تُطبق عينيها وتنصاع لكل ما يقولونه هم.. كلا، فالبصيرة عامة.. هذا هو المطلوب في النظام الإسلامي. ففي هذا النظام يجب عليكم فرداً فرداً أن تنظروا وتفكرّوا وتعرفوا وتشخّصوا وتعملوا، وعليكم أن تشعروا بالتكليف وأن تحذروا من ألّا يترك العدوّ أثره في حساباتكم الفكرية.

ومما ذكرناه في هذه النقطة الأخيرة تُستَخلص عدة نتائج: النتيجة الأولى هي أنه لا ينبغي الوثوق بالعدوّ ولا ينبغي التفاؤل بسذاجة.

والثانية أنه لا ينبغي غضّ الطرف عن تحركات العدوّ، ولابد من مراقبة خطواته باستمرار. فإن واحدة من القطاعات الهامة لقواتنا المسلحة هي الاستخبارات والمعلومات الاستخباراتية. فلا ينبغي التغاضي عن حركات العدو، ويجب دوماً مراقبة برامجه ومخططاته وتحركاته.

والثالثة أنّه لا ينبغي استحقار العدوّ واستصغاره، كما ورد في شعر سعدي، بل يجب علينا أن نعرف العدوّ بحجمه وأن نعدّ أنفسنا للدفاع أمام عدوانه.

والنتيجة التالية يا أعزائي! لا ينبغي الاغترار بالانتصارات، فالنصر أمر ثمين ومبعث بهجة وسرور ولكن لا ينبغي الاغترار به، فكم من فئة حازت على النصر بادئ ذي بدء ثم وقعت بعد ذلك في ورطة لسبب من الأسباب، والمثال التأريخي المعروف لذلك معركة أحد التي اندلعت في زمن النبي (ص)، فقد كان النبي بنفسه حاضراً في الميدان، والمسلمون قد انتصروا، ولكنّ غفلة أدت إلى أن يتبدّل النصر هذا إلى هزيمة وأن يُقتل قائد كبير كحمزة سيد الشهداء وأن يسقط عدد كبير من الشهداء وعدد كبير من الجرحى وأن يُهزم جيش الإسلام. فلابد من حفظ الانتصار، وحفظه يكمن في أن نحفظ عوامل النصر، وعوامل النصر هي الإيمان والجهاد المستمر والعمل الدؤوب ورصّ الصفوف وتظافر الجهود، وهذه أمور لا ينبغي لنا فقدانها.

أعزائي! ولا ينبغي لنا أيضاً الانشغال بالجاذبيات المادية الحقيرة، فكم منّا نحن أبناء البشر نحمل بواعث جيدة، ونتحلى بهمم عالية، ولكن أحياناً ما تكبر في أعيننا جاذبيات مادية صغيرة وحقيرة، ويشغلنا اللهوث وراء منصب ومال وشهوة، وإن شغلنا أنفسنا سنتلهّى عن الهدف وسيتبدّد النصر الذي أشرنا إلى ضرورة العمل الدؤوب من أجله. فلابد لنا أن نلتفت وأن نحافظ على عوامل النصر وألّا ننشغل بحالات اللهو واللعب.

وإنّ ما يخصّ القوات المسلّحة والقوى الحافظة للأمن في هذا المجال هو مراقبة الفتنة. فقد رود في موضع من القرآن: ﴿اَلفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾، وفي موضع آخر: ﴿اَلفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾.. القتل أمرٌ سيّء غير مطلوب، ولكن الفتنة أسوء. فإن كان كذلك، يجب إذن على القوى الحافظة للأمن أن تصطفّ الاصطفاف المناسب لمواجهة الفتنة أيضاً، وأن تحافظ على جهوزيّتها للوقوف بوجه الفتنة كذلك.. هذا هو الأمر الذي يجب على الأجهزة أن تلتفت إليه.

والنقطة الأخيرة التي أستعرضها هي التفاؤل بالمستقبل. وإنّ ما يشهده المرء فيكم من كلمات وحركات وفي شباب البلد من مختلف القطاعات، سواء القوات المسلحة أو الكثير من شباب القطاعات الأخرى، يجد بأن شبابنا مترعون بالتفاؤل والأمل والحمد لله. وعلى رغم أنف العدوّ الذي يريد إزالة الأمل من القلوب وإطفاء هذا النور وهذا النبراس في النفوس، فإنّ الأمل كبير في البلد والحمد لله، وهذا ما يجب حفظه والوثوق بأنّ الله سبحانه وتعالى سيحقّق ما وعده.

نحن اليوم نشهد أمام أعيننا تحقّق الوعود الإلهية.. أيها الأعزاء! من كان يتصوّر بأنّ الكيان الصهيوني الذي لم تتمكّن القوات المسلحة لعدة دول أن تصمد أمامه – حيث استطاع الجيش الإسرائيلي أن يهزم في حربٍ جيوش ثلاثة دول عربية في غضون ستة أيام، وأن يهزمهم في حرب أخرى خلال نحو اثني عشر يوماً – من كان يتصوّر بأنّ هذا الجيش المدجّج بالسلاح، الذي لم تتمكن ثلاثة جيوش لثلاثة دول أن تصمد أمامه، سيُرغم على التراجع ويُهزم بواسطة شباب حزب الله المؤمن ويرفع يده استسلاماً أمامهم في غضون 33 يوماً! والأهم من ذلك أن يهزم أمام الشباب الفلسطيني الصامد في غزة الصغيرة خلال 22 يوماً في مرة وأن يهزم ويطلب الهدنة خلال سبعة أيام في مرة أخرى.. من كان يتصوّر ذلك؟ إذا حلّ الثبات والصبر والتوكّل على الله والثقة بوعد الله سيتحقق ذلك، وهذا ما شاهدناه أمام أعيننا، وسيجري الأمر على هذا المنوال بعد اليوم أيضاً.

نحن نشهد اليوم فشل الاستكبار في منطقة غرب آسيا – منطقتنا – إلى يومنا هذا رغم كلّ التكاليف الباهظة التي بذلها! وهذا ما هم يعترفون به حيث قالوا: أنفقنا سبعة آلاف مليار دولار دون أن نجني شيئاً. وهذا يدل على أنه يمكن الاتكاء والاتكال على القوة المعنوية الإيمانية والتفاؤل بالمستقبل.

وأقولها لكم: إنّ مسيرات العودة التي تنطلق هذه الأيام في غزة ستنتهي يوماً بعودة الفلسطينيين حقاً إلى أرضهم وستعود هذه الأرض إلى أصحابها إن شاء الله.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ عليكم فرداً فرداً وعلى عوائلكم بالتوفيق والنجاح.

والسلام علیکم و‌رحمة الله وبرکاته