موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

نداء القائد

    • فلسطين
    • الثورة الإسلامية
      • النظرة الكونية والفكرية للإسلام
      • لماذا وقعت الثورة الإسلامية وكيف انتصرت؟
      • مميزات الثورة الإسلامية
      • القيم التي حققت الثورة لأجلها
        سهلة الطبع  ;  PDF
        القيم التي حققت الثورة لأجلها

        اقتدينا في الثورة بالإسلام
        إن الثورة تعدّ بمثابة تحول أساسي قائم على سلسلة من القيم فضلاً عن كونها حركة تقدّمية؛ فالذي حدث في بلدنا هو ثورة إسلامية، وتحوّل عظيم في الأركان السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع، وحركة للأمام، وخطوة نحو تقدّم البلاد والجماهير. إننا لم نحذُ حذو الشرق أو الغرب في هذا النظام المنبثق عن الثورة، وهذه ملاحظة بالغة الأهمية؛ فلم يكن لنا أن نتأسى بهؤلاء وما لديهم من أنظمة نعدّها خاطئة ومخالفة لمصالح البشرية، ولم يكن الأمر متعلقًا بتعصّب مذهبي أو ديني أو جغرافي، بل كان منطلقاً من أن الأسس التي تقوم عليها الأنظمة الشرقية الشيوعية ـ والتي لم يعد لها وجود اليوم ـ وكذلك الأنظمة الغربية، هي أسس خاطئة، ولهذا فلم نستطع ولم نقبل بمحاكاتها، حيث إن لدينا قيماً أخرى أشرت إلى بعضها.
        وأمّا السبب في عدم اقتدائنا بهذين النظامين العالميين ـ الشرقي الشيوعي، والغربي الرأسمالي ـ فهو أنهما نظامان باطلان؛ لقد كانت الأنظمة الشيوعية أنظمة مستبدة ترفع شعار الحكومات الشعبية بينما هي ملكية في الواقع! ومع أنها كانت تدّعي معارضة الملكية، فإنها لم تكن سوى ملكية من الناحية العملية، فلقد كانت في غاية الاستبداد، وكانت الحكومة تسيطر تماماً على الاقتصاد والثقافة والسياسة والنشاطات الاجتماعية المختلفة وسوى ذلك ممّا يبدو للعيان. وكانت الشعوب لا تملك من أمر نفسها شيئاً في ظل الأنظمة الشرقية. وإنني شاهدت ذلك عن قرب لدى زيارتي لتلك البلدان وهي في طريقها للاضمحلال. ومع أنه كانت توجد بعض الحكومات التي تُسمّى بالعمّالية في بعض البلدان المختلفة والفقيرة، إلاّ أنها كانت حكومات ملكية في حقيقة الأمر تكرر نفس ما كانت تقوم به البلاطات الملكية البائدة من أخطاء! فلم تكن ثمّة انتخابات في تلك البلدان، ولم يكن هناك صوت للشعب والجماهير، ولكنهم كانوا يسمّون أنفسهم بالديمقراطيين ويدّعون الشعبيّة! إن الشعوب كانت غائبة تماماً؛ حيث كانت تابعة للحكومات بصفة مطلقة من الناحية الاقتصادية وكذلك من الناحية الثقافية! وقد كان واضحاً أن مثل تلك الأنظمة محكومة بالزوال. ومع أنها استطاعت أن تجذب إليها بعض جموع الشباب في العالم وأن تقيم بعض الحكومات بسبب ما كانت ترفعه من شعارات برّاقة وجذابة، إلاّ أنها لم يُقدّر لها الدوام والاستمرار، حيث شاهدنا ما آلت إليه من مصير وحُكم عليها بالزوال بعد عدة عقود من الزمن. وكان من الطبيعي بالنسبة لنا ألاّ نقتدي بتلك الأنظمة؛ فعندما انتصرت ثورتنا ـ قبل واحد وعشرين عاماً ـ لم تكن هناك ثورة في العالم إلاّ وقد وضعت تلك الحكومات الشرقية نُصب أعينها، سواء كانت تلك الحكومات تسمّى بالماركسية أو بالاشتراكية في أحسن أحوالها؛ لكن الإسلام والشعب الإيراني وقائده قد رفضوا تلك الأنظمة ووضعوها جانباً. والأمر كذلك بالنسبة للغرب، حيث لم نرغب ولا يمكن أن نرى فيه أسوة لنا؛ فقد كانت لدى الغرب أشياء، ولكنها كانت على حساب أشياء أخرى تفوقها أهمية. إن الغرب كان لديه العلم، ولم تكن لديه الأخلاق، وكانت لديه الثروة دون العدالة، وكانت لديه التكنولوجيا الصناعية، ولكنها كانت تسير بموازاة تخريب الطبيعة وأسر وعبودية الإنسان، وكان يتشدّق بالديمقراطية والشعبية، ولكنه كان رأسماليّاً في الواقع ولا يمتّ للشعبية بشيء، ومازال الأمر كذلك. وإنني لا أزعم ذلك ولا أدّعيه، ولا أقوله نقلاً عن كاتب مسلم متعصّب، بل أقوله نقلاً عن الغربيين أنفسهم، فما يحدث الآن في الغرب، وفي أمريكا نفسها، مما يسمّى بالديمقراطية والانتخابات في الظاهر ليس سوى حكم الرأسمالية في الباطن. وإنني لا أرغب في التصريح بأسماء كتّابهم أو كتبهم، ولكنّ الكتّاب الأمريكيين ومَن هناك من المحللين السياسيين يقولون بأن انتخابات البلديات ومجلس النواب ورئاسة الجمهورية ليست سوى مظاهر مصطنعة.
        إن الذي يلقي نظرة على ذلك الواقع سيجد أن صوت الشعب ليس له أدنى دور تقريباً، وأن الذي يقول الكلمة الأخيرة هو المال ورؤوس الاموال ووسائل الدعاية الحديثة جنباً إلى جنب الخداع واستلاب مشاعر البسطاء من جماهير الشعب! فلا يوجد من الديمقراطية سوى اسمها دون رسمها. لقد كان الغرب يتمتع بالتقدم التقني والعلمي، ولكنه لم يعد سوى وسيلة لاستثمار الشعوب الأخرى. فبمجرد تحقيق الغربيين لأيّ تقدم علمي فإنهم لا يلبثون إلاّ ويحولونه إلى سيطرة سياسية واقتصادية فينتشرون شرقاً وغرباً بحثاً عن السيطرة على ما يمكنهم من البلدان واستثمارها. لقد فعلوا ذلك بلا هوادة، باستثناء ما عجزوا عن إخضاعه لسيطرتهم! كما أنه كانت ثمّة حرية في الغرب، لكنها كانت مصحوبة بالظلم والتسيّب والانحلال. إن الصحف هناك تتحدث بحرية عن كل شيء، لكن إلى من تنتمي؟ هل تنتمي إلى الشعب؟! طبعاً لا.. فليذهب كل من يريد ليشاهد الحقيقة.. واذكروا لي اسم صحيفة واحدة في كل أوربا وأمريكا لا تتعلّق بالرأسماليين! إن حرية الصحافة عندهم تعني حرية أصحاب رؤوس الأموال لقول ما يريدون وتخريب ما يرغبون وفرض أنفسهم كما يطمحون وتوجيه الرأي العام حسب ما يرسمون! وهذه ليست حرية؛ فلو برز من يتحدث ضد الصهيونية ـ كالكاتب الفرنسي الذي ألفّ عدة كتب ضد الصهيونية وفنّد مزاعمهم حول أفران الغاز وحرق اليهود فيها ـ فإنهم يعاملونه بأسلوب آخر! ولو كان ثمّة من لا يرتبط بأصحاب رؤوس الأموال ولا ينتمي لمراكز السلطة الرأسمالية، فإنه لن يجد مجالاً للكلام، ولن يصل ما يقوله إلى الأسماع، ولن تتوفّر له حرية الرأس والتعبير! نعم، فالرأسماليون لديهم الحرية في قول ما يريدون عن طريق ما يمتلكونه من صحف وإذاعات وتلفزة! وهذه حرية لا قيمة لها، لأنها ضد القيم؛ فالحرية لديهم تعني جرّ الجماهير نحو الانحلال وعدم الإيمان، وتعني إشعال فتيل الحروب حيثما يشاؤون، وفرض السلام أينما يرغبون، وتسويق الأسلحة كما يتطّلعون، وهذه هي الحرية!
        لقد كان من الطبيعي لشعب ضحّى بدمه من أجل الثورة التي قام بها بقيادة عالم رباني ينوب عن الأنبياء أن يتحاشى الاقتداء بالأنظمة الغربية. إذاً فنحن لم ننهج نهج الأنظمة الشرقية ولا الغربية، بل اقتدينا بالإسلام واختار شعبنا النظام الإسلامي طبقاً لما يعرفه عن الإسلام. إن شعبنا كان على دراية بالكتب والروايات الإسلامية وعلى علم بالقرآن ووعي بما يُقال من على المنابر. وإن المثقفين المتدينين أنجزوا الكثير خلال العقود الأخيرة، سواء كانوا من علماء الدين أو من خريجي الجامعات، وكان الشعب قد اعتاد على سلسلة من القيم التي واصل الالتزام بها، وهي قيم لم يكن لها أثر خلال عهد النظام البائد، وكانت الثورة أداة لتحقيق هذه القيم. فما هي هذه القيم؟

        القيم التي حققتها الثورة
        سأذكر الآن عدداً منها؛ فلو أردتم جمعها في كلمة واحدة فإنني سأقول: «الإسلام» ولكنه لفظ مجمل ومن الممكن تفصيله على وجوه شتى. فشعبنا كان يتطلع إلى قيم جمعتها كلمة الإسلام، ولسوف أشير إلى بعض منها:
        الأولى: الإيمان؛ فلقد كان الاستياء يعمّ الناس جرّاء الانحطاط الأخلاقي والتسيّب وضعف الإيمان، فكانت قلوبهم توّاقة إلى الإيمان.
        والقيمة التالية هي العدالة؛ حيث إن الناس كانوا يعانون من الظلم المخيّم على المجتمع، فكانوا غارقين في الظلم من الرأس إلى أخمص القدمين، حتى إن بعضهم كان يظلم البعض الآخر. وكذلك داخل النظام الطاغوتي نفسه، حيث كان الظلم سائداً بين عناصره إضافة إلى ممارسة الظلم والجور على الجماهير الشعبية. كما أن الظلم كان ملموساً في القضاء، وفي تقسيم الثروات وتوزيعها، وفي محيط العمل، وكانوا يمارسون الظلم على المدن النائية، وعلى الضعفاء، فكان الظلم شائعاً في كل مكان ولصيقاً بأفراد الشعب، يشعرون به حيثما حلّوا. ولهذا كان الشعب يبحث عن العدالة ورفع الفوارق بين الطبقات والتغلّب على الفقر، وهذه قيمة أخرى غير العدل كانت الجماهير تتطلّع إليها.
        لقد كان بعض الأفراد أو الطبقات في قمة الثراء والغنى، بينما كان البعض الآخر محروماً حتى من ضروريات الحياة، وهذا ما كان يشمئزّ منه الجميع ويرفضونه. إن الجماهير كانت تحلم بإزالة الفوارق بين الطبقات أو تضييق فواصلها وإننا لم نكن مثل الشيوعيين في ادّعائهم بأن على الحكومة أن تمنح لقمة العيش ورغيف الخبز للشعب، أو أن يكون الناس متساويين في رواتبهم الشهرية. كلاّ، لكن الفوارق بين الطبقات كانت بصورة مذهلة بحيث لا يرضى بها الشعب والثوار المسلمون وقائد الثورة.
        إن النظام الطاغوتي والأنظمة التي سادت قبله في إيران لم تكن أنظمة شعبية، ولم يكن للشعب أدنى دور في الحياة السياسية؛ فذات يوم جاء البريطانيون بأحد الأشخاص على رأس انقلاب دبّروه في طهران، ثم توّج نفسه ملكاً. وعندما أراد مغادرة إيران ـ أي عندما أرادوا منه مغادرة إيران بسبب كبر سنه وعدم جدواه لهم ـ فإنه نصّب ابنه ملكاً من بعده! فمن
        كان هذا الابن وما شأنه؟! وما موقف الشعب ودوره؟! هذا ما لم تكن له أهمية! وكان القاجاريون قبل هؤلاء؛ فكان يموت حاكم فاسد ليحلّ محلّه فاسد آخر، ولم يكن للشعب دور في انتخاب حكومته! وكان الشعب يرفض كل ذلك ويتطلع لأن تكون الحكومة جزءاً منه ومنبثقة عنه وأن يكون للجماهير تأثير في انتخاب الحكومات.
        وأما القيمة الأخرى فهي التديّن؛ فكان الناس يحبون أن يصبحوا متدينين.
        ولكن النظام البائد كان يسعى في كل مكان ـ في الحياة الاجتماعية وفي الجيش والجامعة والمدرسة ـ إلى جرّ الناس نحو اللاّدينية. وكان الناس يستنكرون ذلك لأنهم كانوا متدينين وكشفوا عن أن الإيمان بالدين والإسلام متغلغل في أعماق حياتهم.
        ومن تلك القيم أيضاً الابتعاد عن الإسراف والكماليات في أوساط الطبقة الحاكمة. إن الإسراف والكماليات أمر مرفوض في كل مجال، ولكن الذي كان يجعل الناس يشعرون بالحساسية المفرطة هو ظاهرة الاسراف والتبذير والحصول على كافة الكماليات من أموال الشعب في أوساط الطبقة الحاكمة، وهو ما كان يرفضه الناس. ولهذا جاء النظام الإسلامي ليقضي على تلك الظاهرة تأسيساً على هذه القيمة.
        كما أن من تلك القيم أن يتصف الحكام بسلامة الدين والأخلاق؛ فلم يكن الشعب يرضى بأن يكون حكامه فاسدين أو غير متدينين أو تعوزهم الأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة هم ومن حولهم من عناصر البلاط، كما كان سائداً في ذلك الزمان!
        ومن ذلك أيضاً انتشار الأخلاق الفاضلة؛ فكان الناس يرغبون في أن تسود المجتمع الأخلاق الطيبة والإسلامية وروح الأخوّة والمحبة والتعاون والصبر والتسامح والغفران ومدّ يد العون للضعفاء ومؤازرتهم، وأن ينتشر قول الحق بين الناس.
        وحرية الفكر والتعبير واحدة من تلك القيم أيضاً، وهي من القيم الثورية؛ حيث كان الناس يرغبون في أن يفكروا بحرية بعد أن حُرموا حرية الفكر وحرية التعبير وحرية اتخاذ القرار في تلك الأيام، وهو ما كان يقلقهم، فكانوا يسعون لاسترجاع هذه الحريات.
        ومن تلك القيم أيضاً الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي؛ فكان الناس مستائين من أن تكون بلادهم واقعة تحت السيطرة السياسية للأنظمة الأوربية أو الأمريكية، أو خاضعة للسيطرة الاقتصادية للشركات العالمية التي تتلاعب بمصير البلاد كما تشاء.. ومن حيث الثقافة، فإن الثقافة الإيرانية ثقافة عميقة وغنية، فينبغي أن لا تكون تابعة للثقافات الأجنبية وتمشي على خطاها معصوبة العينين.
        فالقيم التي ننادي بها هي: الدين والإيمان والاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي والاستقلال الثقافي وحرية الفكر وإشاعة الأخلاق الفاضلة وأن تكون الحكومة شعبية وصالحة وأن يتمتع الحكام بالدين والتقوى.. فماذا كانت الوسيلة لتحقيق هذه القيم؟ إنّها روح الإيمان والجهاد والتضحية والإيثار التي ترفرف بين جنبي هذا الشعب المؤمن. وما الذي استطاع رفع
        عماد هذا الصرح العظيم والبناء الإسلامي الشامخ بعد قرون في هذا البلد؟ إنها تلك القيم التي أسلفنا الحديث عنها، والتي تقرر أن تكون أساساً للنظام الجديد والحياة لجديدة في هذه المنطقة من العالم.
        ولهذا فقد ضحى الناس بأنفسهم وأبنائهم واستشهد الكثيرون منهم في سبيل الله عملاً على تحقيق هذه القيم.
        إن الشعب كان يعرف ماذا يريد وكان يسعى لتحقيقه؛ ولسوف أبيّن فيما بعد أن كل تلك القيم يمكن توفيرها جميعاً في المجتمع، وأن ما حققه النظام الإسلامي منها حتى الآن هو ما لم يكن يحلم به ولا يتصوره أحد.
        إننا نبدو متخلّفين اليوم لأننا نقارن بين وضعنا الحالي والوضع النموذجي، ولكن إذا ما قارنا بينه، وبين وضعنا في الزمن الماضي وبينه وبين الأوضاع الراهنة في بلدان أخرى، لوجدنا أن هذا النظام كان ناجحاً جدّاً بما حققه من إنجازات في هذا المضمار، وأن هذه الثورة استطاعت حقيقةً أن تفعل الكثير، وهو ما كان يتطلع إليه الشعب. ومع ذلك فإن البعض يحلو لهم
        القول بأن الشعب لم يكن يدري ماذا يريد! كلاّ، لقد كان الشعب يدري جيداً ماذا يريد، وإنه كان يريد الإسلام. إن الإسلام ليس هو مجرد الصلاة والسجود ـ فهذا جزء من الإسلام ـ وإنّما يعني إقامة نظام اجتماعي وتأسيس حياة عامّة للجماهير قائمة على قواعد راسخة توفر لهم سعادة الدنيا والآخرة وتضمن لهم الاستفادة من العلم والتطور والصناعة والثروة والرفاهية والعزة الوطنية وما سواها، وهو ما كان يتطلّع إليه شعبنا.
        إن الذين لم يكونوا على دراية بالإسلام، ولم يكونوا يريدونه من أعماق قلوبهم، كان يجدر بهم على الأقل ألاّ يتجرأوا ويتّكئوا على الأنظمة الغربية الطاغوتية أو أن يديروا ظهورهم لهذا النظام. ولكنهم يجلسون هاهنا ويبثّون الإثارات يميناً وشمالاً قائلين بأن الشعب لم يكن يدري ماذا يريد لدى استفتائه حول الجمهورية الإسلامية! كيف لم يكن الشعب يدري ماذا
        يريد؟! وإذا لم يكن يدري فكيف بذل كل هذه التضحيات وتحمل ثماني سنوات من الحرب المفروضة؟! لقد كان الشعب ومازال يدري جيداً ماذا يريد.

        إن هذه القيم السائدة الآن في المجتمع والتي تمثل القاعدة للنظام الإسلامي ينبغي علينا أن نقبل بها جميعاً، إذ لو قبلنا ببعضها ورفضنا البعض الآخر لكان الأمر ناقصاً، ولو أعطينا لبعضها أهمية وتجاهلنا البعض الآخر لما تحّقق الهدف. هذا أولاً.
        وثانياً فإن الثورة نفسها حركة وتحوّل وتقدّم نحو الأمام، فيجب علينا إصلاح الأساليب الخاطئة يوماً بعد آخر واتخاذ خطوة
        جديدة بغية تحقيق النتائج المتوخّاة.
        القيم أساس تحرّكنا أعزائي! إن الثورة ليست أمراً دفعيّاً، بل تدريجي. ولا يوجد في الثورة سوى مرحلة واحدة دفعية وهي مرحلة تغيير النظام السياسي، وأمّا الثورة فلا تتحقق إلاّ بمرور الزمان. فكيف يتسنّى ذلك؟ إن هذا التحقّق يتم عن طريق التحرك نحو الأمام بالمجالات المتخلفة والبحث عن طرق جديدة وأعمال جديدة وأفكار جديدة وأساليب جديدة لتطبيقها في المجتمع يوماً بعد يوم في نطاق وعلى أساس هذه القيم، كي يستطيع هذا الشعب أن يشقّ طريقه للأمام بهمّة ونشاط نحو أهدافه المرسومة. إن التراجع خطأ، والتخلّف خسارة، وحتى التوقّف فهو خطأ أيضاً، فلابد من التحرك والانطلاق نحو الأمام.
        فأين يكون هذا التقدم الآن؟ وأين ينبغي أن يكون هذا التحول الذي نتحدث عنه، وأين يجب أن تكون هذه الحركة إلى الأمام؟ إنها في كافة مجالات الحياة الاجتماعية؛ فلابد من تطوير القوانين وتوجيهها نحو الأفضل والأكمل يوماً بعد يوم. وكذلك في المجالات الثقافية وعلى نطاق الأخلاق العامة للجماهير، فيجب العمل على تطويرها يوماً فيوماً وتحقيق التقدم. والأمر كذلك أيضاً على النطاق العملي والتربوي وفي مجال التعليم والنشاطات الاقتصادية والفنون وشؤون الحكومة وإدارة البلاد وحتى في الحوزات العلمية، حيث ينبغي على الطاقات الفكرية والشجاعة والمتنوّرة أن تبتدع كل يوم أساليب جديدة وأعمالاً جديدة وأفكاراً جديدة وآمالاً جديدة والانطلاق بها نحو الأمام. وأساس كل هذا ليس سوى هذه القيم.
        فيجب التحرك في نطاقها والسير على أساسها، وحينئذٍ تتكامل الثورة وتتجسد ملامحها بالتدريج وهو أمر لا نهاية له. كما أن التكامل أيضاً لا حدود له، ولكن إذا ألقى الإنسان نظرة على البلاد كل عشر سنوات أو عشرين سنة فسيجد ثمّة تقدماً ورقيّاً في المجالات المختلفة.
        إذاً.. فلابدّ هنا من توفر عناصر ثلاثة. وبودّي أن يهتم الشباب بذلك في الدرجة الأولى ولاسيّما تلك العناصر المؤثرة في مجال النشاطات السياسية؛ فعليهم بالانصات لما أقول. هناك عناصر ثلاثة أساسية: أولها الاهتمام بالقيم التي قامت الثورة على أساسها والحفاظ عليها. وثانيها أن ننظر إلى هذه القيم التي قامت ككل لا يتجزأ، فلا يهتم أحدنا بالاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي دون التدين، أو يهتم بالتدين دون الاهتمام بالحرية الفكرية، أو يهتم بحرية الفكر والتعبير دون الاهتمام بالحفاظ على الدين والإيمان لدى الجماهير، إذ لو كان الأمر كذلك لكان ناقصاً. فلابد من الاهتمام بالقيم جميعاً كوحدة كلّية.. وإن الأجهزة الحكومية هي التي يجب عليها أن ترعى هذه القيم وتقوم بالحفاظ عليها وحراستها. وأمّا العنصر الثالث فهو الحركة إلى الأمام؛ فالركود والسكون والصمت يبعث على الجمود والتحجّر والركون إلى القديم، فتف قد القيم فعاليتها وروحها.
        وإن الإبقاء على كل ما هو قديم يؤدي إلى الدمار، ولا من سبيل للتغلّب على ذلك سوى التقدم والانطلاق للأمام، وهذه الحركة والانطلاق إلى الأمام هو ما عبّرت عنه يوم تاسوعاء «بالاصلاحات الثورية»؛ فلو لم تقم الاصلاحات والتقدم والتجديد على أساس القيم الثورية لأصيب المجتمع بالفشل. فهذه هي الأصول الأساسية، أي الاهتمام بالقيم، وألاّ نفرق بينها،
        وأن نواصل التحول والحركة نحو الأمام بجدّية في إطار القيم. وفي الحقيقة فإن بيننا في المجتمع من يهتم ببعض هذه الأركان دون بعضها الآخر؛ فثمّة من يهتم بالقيم دون التطور والتحول، وبالعكس فثمة من يهتم بالتحول والتطور، ويتحدث عن التغيير والتجديد، دون أن يعير الأهمية اللازمة للقيم. ولا يعني هذا أنه لا يقبل بها، كلا، بل إنه يقبل بها، إلاّ أن همّه الأول هو التقدم والتغيير والتحول وليس القيم. وثمّة أيضاً من هم على العكس من ذلك، أي أنهم يؤمنون بالتطور ولكن قضيتهم الأولى هي الحفاظ على القيم. وأما بالنسبة للقيم، فهناك من يهتم أكثر بتدين وإيمان الجماهير، وهناك من يهتم بأمر استقلال البلاد من نير تسلّط القوى الكبرى، وهناك من يهتم بموضوع الحرية، ومن يهتم بقضية الأخلاق أكثر من غيرها من الأمور والقضايا الأخرى. وهذا في الحقيقة شيء طبيعي، ولا غبار عليه، ولكن من الأفضل أن يهتم الكل بكل هذه العناصر، وإذا اهتم البعض بعدد من القضايا واهتم البعض الآخر بعدد آخر، فهذا أمر حسن جيد حيث بوسع أحدهما أن يكمل الآخر؛ فالذين يهتمون بالقيم يكملون سواهم من الذين يهتمون بالتحول والتطور، والذين يهتمون بالتحول والتقدم يكملون أولئك الذين يهتمون بالقيم.
        وإنه من الممكن أن ينشأ خلاف. ولكن هذا الخلاف لا أهمية له؛ فمن الممكن أن يتّهم الذين يهتمون بالقيم أكثر أولئك الذين يهتمون بالتحول بأنهم معرضون عن القيم. وبالعكس، إذ من الممكن أن يتّهم دعاة التطور سواهم من دعاة القيم بأنهم لا يؤمنون بالتقدم والرقي والحركة إلى الأمام وينادون بالجمود والتوقف. فهذه ظاهرة يمكن أن تكون موجودة أو ستوجد في المجتمع، ولكن لا إشكال في ذلك ولا أهمية له، فينبغي على كل فئة أن تتحمل الأخرى وألاّ ترفضها. وعندما يقبل الجميع بالقاعدة الأساسية ـ أي القيم والتحرك في إطار القيم ـ بشكل عام، فلا أهمية حينئذٍ أن يولي البعض أهمية لقسم منها ويولي البعض الآخر أهميتهم للقسم الآخر، ولا داعي لنشوب الصراع.
        إن الحد الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء ليس حدّاً واقعيّاً ولا مصيريّاً، وبوسع الجميع أن يحققوا وحدة عامّة فيما بينهم وأن يجسّدوا الهوية الكلّية للمجتمع الإسلامي والثوري وأن يعملوا كجناحين في الحقيقة، أي جناحين لطائر واحد؛ فلو تحرك الجناحان جيداً لحلّق الطائر وارتفع في الفضاء. إن الذائبين في القيم ـ بشرط ألاّ يديروا ظهورهم للتطور ـ وكذلك الذائبون في التحول والتقدم والحركة للأمام والتغيير والتبديل ـ بشرط عدم التنكّر للقيم ـ سيعودون جميعاً بالنفع على المجتمع كما جناحين مرفرفين، وسيكملون الثورة في الحقيقة، وسيحققون التقدم في ظل القيم، وسيكونون على ما يرام.

        الفقيه العادل هو الذي يحقق التطور الشامل
        وإن الذي يأخذ بالاعتبار كل هذه القيم ويحقق التطور الشامل على شتى الأصعدة هو ذلك الشيء المقترح في دستورنا وفقهنا، وهو وجود الفقيه العادل والعارف بأمور زمانه في المجتمع حتى يكون مناراً وعنصر هداية يأخذ بزمام الأمور إلى الأمام.
        فلماذا يجب أن يكون فقيهاً؟ حتى يكون عالماً بالقيم الدينية والمُثل الإسلامية؛ فمن الممكن أن يكون البعض جيدين ولكنهم يجهلون أمور الدين ولا يدركون جيداً مضامين القرآن والسنة والحديث والمفاهيم الدينية، وحينئذ من الممكن أن يخطئوا غير عامدين ولا مغرضين. إذاً.. فلابدّ أن يكون فقيهاً.
        ولماذا يجب أن يكون عادلاً؟ لأنه لو تخلّف عن واجبه فلن يكون هناك ضمان للتنفيذ. ولو كان لا يفكر إلاّ في نفسه ودنياه وسعادته والحفاظ على منصبه فلن يبقى الضمان الضروري لسلامة هذا النظام. إذاً، لو كان عارياً عن العدالة لكان معزولاّ بذاته دون أن يعزله أحد آخر.
        ولماذا يجب أن يكون عارفاً بأمور زمانه؟ لأنه لو لم يكن كذلك لوقع فريسة للخداع؛ فلابد أن يكون عارفاً بأمور زمانه حتى يعرف الأعداء ويكتشف الحيل والمؤامرات ويتّخذ بشأنها الإجراءات اللازمة حسبما يقتضيه واجبه. وقد راعى الدستور كل ذلك، وهو المطلوب.

        الأخطار التي تهدّد الجناحين
        وهاهنا تكمن المخاطر، والمهم هو أن نحذر الأخطار. إن الخطر يهدد كلا الطرفين، فخطر التحجّر يهدد من يهتمون بالقيم دون الاهتمام بالتطور والتغيير والتقدم، فليكونوا على حذر. كما أن خطر الانحراف يهدد أولئك الذين يهتمون بالتطور والتغيير أكثر من اهتمامهم بالقيم، فليكونوا هم أيضاً على حذر. فليأخذ كل واحد منهما حذره، كي لا يصاب الجناح الأول بالجمود والتحجر، ولا يصاب الجناح الثاني بالانحراف والتمهيد للأعداء والمعارضين لمبدأ القيم. وإن هذين الجناحين لو أخذ كل منهما حذره لاستطاع المجتمع أن يشقّ سبيله نحو التكامل والرفعة التي أرادها الإسلام له في ظل الوحدة المطلوبة.
        فأحد الأخطار ـ إذاً ـ هو الذي يهدد هذين الجناحين جرّاء الغفلة، ولكن هناك خطراً أعظم من ذلك، فما هو؟ إنه خطر النفوذ، فمن الممكن أن يكون الجناحان وسيلة للنفوذ والتغلغل! وأحياناً يكون بوسع الأعداء أن يتغلغلوا من خلال كلا الطرفين؛ فمن الطرف الأول بذريعة كونه أصوليّاً ولا يرضى بالتطور، ويرفض سبل التقدم ويريد أن يعود بالثورة القهقرى.
        والأخطر من ذلك هو الطرف الثاني، أي معارضة مبدأ القيم وأصل الإسلام وأساس التدين وقاعدة العدالة الاجتماعية بذريعة التغيير والتقدم والتطور، فيقع نهباً للرأسمالية الغربية، ولا يكون همّه سوى الكسب المادي، ويصبح معارضاً لإزالة الفوارق بين الطبقات، ومخالفاً لاسم الدين، حتى لو لم يصرح بذلك!
        إنه من الممكن أن يصل هؤلاء إلى الحكم ويدخلوا الساحة باسم التطور والتغيير والتقدم والإصلاح، ومن الممكن أن يتغلغلوا في الهيكل الاقتصادي للمجتمع.. ولو نفذ أمثال هؤلاء الأجانب والغرباء إلى الهيكل الاقتصادي للمجتمع لشكّلوا خطراً عظيماً، لأنه من الضروري أن تتحكم يد أمينة في اقتصاد وأموال وثروات المجتمع. ولكنّ الأخطر من ذلك هو أن يتغلغل هؤلاء في المراكز الثقافية وينفذوا إلى عقول الجماهير وإيمانهم ومعتقداتهم وخط سيرهم الصحيح، فيقبضوا على زمامها ويتحكموا فيها ويحدث ما هو واقع الآن في مجالات الصحافة والإذاعة والتلفزيون في عالم الغرب، أي تتحقق الرأسمالية.
        وكما أن الإذاعات والتلفزة الدولية والامبراطورية الخبرية العالمية يتحكم فيها الرأسماليون، فإن هؤلاء يدخلون إلى بلادنا ويسيطرون على مؤسساتنا الثقافية ويطمحون إلى طبع بصماتهم في حياتنا عن طريق الثقافة، وهو ما شاهدتُ دلائله قبل عدة سنوات هنا وهناك وأطلقتُ عليه اسم «الغزو الثقافي»، فقبل بذلك البعض ورفضه آخرون من الأساس قائلين إنه لا وجود البتة لهذا الغزو الثقافي! فلو جاء البعض ونادوا بالتطور دون الإيمان بأصل القيم، فواضح أي تطور هذا الذي يريدونه!.. إنه تحويل النظام الإسلامي إلى نظام غير إسلامي. وإن التطور في نظرهم يعني إزالة اسم الإسلام وحذف حقيقة الإسلام والتخلي عن الفقه الإسلامي! وبالطبع فإننا نعرف بعض هؤلاء؛ فبعضهم من مخّلفات النظام البائد الذين أكلوا واتخموا على حساب ذلك النظام ثم لم يستطيعوا أن يجدوا لهم مكاناً بين الجماهير، فجاؤوا اليوم ليجرّوا أنفاسهم ويشمخوا برؤوسهم ويدّعوا الحرية وحبّ الجماهير ويتشدّقوا بالديمقراطية، وهم الذين كانوا عملاء ظلم وجور للبلاط الذي كان يتحكم في رقاب هذا الشعب منذ خمسين عاماً مضت، دون إعادة أدنى اهتمام للشعب طوال تلك المدة! ثم برزوا اليوم ليرفعوا شعار الاصلاحات، وهم الذين عملوا بكل كيانهم في خدمة ذلك النظام! فما معنى هذه الاصلاحات؟! إن هذه الاصلاحات هي الاصلاحات الأمريكية! أي أنكم يا أبناء الشعب الإيراني الذين قطعتم يد أمريكا تعودون لإصلاح أسلوبكم هذا وتأذنون للسادة الأمريكيين بالتفضل لدخول بلادكم ليأخذوا من جديد بزمام الاقتصاد والثقافة وإدارة شؤون هذه البلاد! وأمّا البعض الآخر فلا ينتمون للنظام الغابر، ولكنهم منذ بداية الثورة، وحتى قبل الثورة، أظهروا أنهم لا يرغبون تماماً في إدارة البلاد طبقاً للشريعة الإسلامية! إنهم يريدون اسم الإسلام ويحبون اسم الإسلام، وليسوا أعداءً للإسلام بهذا المعنى، ولكنهم لا يؤمنون أبداً بالفقه الإسلامي والأحكام الإسلامية وحاكمية الإسلام، بل يؤمنون بالأساليب الفردية؛ وقد استطاع بعضهم السيطرة على الأمور والأخذ بزمامها في بداية الثورة.. ولو لم يكن الإمام قد وضع الثورة نصب عينيه لأعادوا الثورة برمّتها وهذا البلد للهيمنة الأمريكية من جديد! إن هؤلاء ينادون أيضاً بالإصلاح، وينادون أحياناً بالإسلام أيضاً، ولكنهم ينضمون لمن يرفعون الشعار صراحة ضد الإسلام ويعربون عن تضامنهم معهم! إنهم ينادون بالإسلام أحياناً ولكنهم يعملون مع أولئك الذين يرفعون شعار معارضة الحكومة الإسلامية وشعار العلمانية وشعار الفصل بين الدين والحكومة وشعار الحكومة اللادينية والحكومة المضادّة للدين وشعار المادية! ومن الواضح أن هؤلاء وصوليون ونفوذيون، وليسوا ممّن يقبلون بالقيم ولا ممّن يؤمنون بالتطور؛ كلا، إنهم فقط وصوليون وأجانب وغرباء.. لقد تحدثتُ قبل عدة شهور من هنا ولكن البعض رفع عقيرته بالاستنكار لهذا المصطلح! نعم، إنهم ليسوا منّا، وإنهم يرفضون الثورة والإسلام والقيم، فلتكن الأجنحة التي هي منّا على حذر من هؤلاء.

        خطبة الجمعة لسماحته في طهران، 7/2/1421
      • الإمام الخميني والثورة
      • الاستقلال والحرّية
      • ذكريات القائد من أيام النضال
    • العراق
    • الحج العبادي و السياسي
    • الوحدة الوطنية والإنسجام الإسلامي
    • الرسول الأعظم(ص)
700 /