موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

نداء القائد

    • فلسطين
    • الثورة الإسلامية
      • النظرة الكونية والفكرية للإسلام
      • لماذا وقعت الثورة الإسلامية وكيف انتصرت؟
      • مميزات الثورة الإسلامية
      • القيم التي حققت الثورة لأجلها
      • الإمام الخميني والثورة
      • الاستقلال والحرّية
        • استقلالنا
        • الحرّية في الإسلام
          سهلة الطبع  ;  PDF
          الحرّية في الإسلام

          ثمّة قضّيتان مطروحتان بشأن مفهوم «الحرّية»؛ احداهما وجوب انتهاج مبدأ الاستقلالية ـ وهو شعار آخر مطروح لدينا ـ أي ان نفكر على نحو مستقل دون تقليد ولا تبعية. أما إذا سرنا على منهج التقليد وفتحنا أبصارنا التي تُلقى علينا منها الأفكار الغربية فحسب، في هذه القضية التي تشكل قاعدة للكثير من اهتماماتنا ومجالات تطوّرنا، نكون قد ارتكبنا خطأً فاحشاً ينعكس علينا بنتائج مريرة.

          الحرّية في القرآن والسنّة
          أُشير ابتداءً ان قضية الحرّية واحدة من المفاهيم التي أكد عليها القرآن الكريم وأحاديث الأئمة(عليهم السلام) مراراً. ومن الطبيعي ان الحرّية التي نتحدث عنها هنا لا تعني الحرّية المطلقة التي لا أعتقد ان أحداً في العالم يؤيّدها أو يدعو إليها.
          كما اننا لا نقصد بها ايضاً الحرّية المعنوية المعروفة خاصة في المراتب العليا من المعارف الإسلامية، وهي نمط من الحرّية تسالم عليها كل أهل المعنى ولا نقاش بينهم حولها، على اعتبار انها لا تدخل في صلب بحثنا هذا. وانما المراد من الحرّية التي نتحدث عنها هاهنا هي الحرّية الاجتماعية.
          حرّية التفكير والقول والاختيار، وما إلى ذلك حق إنساني ورد تكريمها في الكتاب والسُنّة. تقول الآية الشريفة 157 من سورة الأعراف {الذين يتبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم}. لقد فرض اللّه من جملة ما فرض على أنبيائه ان يزيلوا القيود والأغلال عن الناس، أي يرفع عنهم الالتزامات المفروضة عليهم مما لم ينزل اللّه به من سلطان. وهذا مفهوم عميق وواسع.
          فلو أخذنا بنظر الاعتبار الأوضاع التي كانت تعيشها المجتمعات الدينية وغير الدينية آنذاك نجدها كانت تنوء تحت وطأة الكثير من الآراء المتزمّتة كالمعتقدات البالية والخرافات والقيود الاجتماعية المغلوطة التي فرضتها أيدي الاستبداد أو التحريف على بني الإنسان، فكانت بمثابة الأغلال المضروبة عليهم.
          عقد جورج جرداق، مؤلف الكتاب المعروف «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية» مقارنة بين جملتين احداهما للإمام علي(عليه السلام) والأُخرى للخليفة الثاني عمر بن الخطاب قالها بعدما استقدم بعض ولاته في أعقاب ما رفع إليه عنهم من ظلم واستعباد للناس، فقال لهم بعد ان وقفوا بين يديه جملته المشهورة: «استعبدتم الناس وقد خلقهم اللّه أحراراً». والأُخرى قالها أميرالمومنين عليه الصلاة والسلام ووردت في نهج البلاغة وهي: «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك اللّه حرّاً». ويستخلص جورج جرداق بعد المقارنة بين القولين ان قول أميرالمؤمنين(عليه السلام) أفضل من قول عمر بمرات متعددة؛ وذلك لأن عمر يخاطب في كلامه هذا أشخاصاً لا ضمانة لتسلطهم على الحريّات باعتبار انهم هم الذين يصفهم بقوله «استعبدتم الناس» وعليكم ان تمنحوهم حرّيتهم، وهذا نمط من أنماط المطالبة بالحرّية. أما النمط الآخر منها فهو خطاب أميرالمؤمنين للناس أنفسهم، وهو ما ينطوي تلقائياً على الضمانة التنفيذية لهذا الحق «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك اللّه حرّاً».
          في كل واحدة من هذين القولين ميزة للحرية ـ إضافة إلى ما يتسم به كلام أميرالمؤمنين من خاصية الضمانة التنفيذية ـ احداهما هي السمة الفطرية للحرية «وقد خلقك اللّه حرّاً». وهي ما سأشير إليها لاحقاً عند المقارنة بين التصورين الإسلامي والغربي للحرية.
          لا أروم اليوم القاء هذا البحث على نحو التفصيل. بيد انني سأسلّط مزيداً من الضوء على مقولة الحرّية والتحرّر في موضع آخر بإذن اللّه، إذ ان هناك الكثير من الكلام الذي يجب أن يطرح بشأن هذا الموضوع. وأكتفي اليوم بالاشارة إلى أحد بُعدي الحرّية، وأعني به بُعد الاستقلالية.

          الحرّية والليبرالية
          إذن فالحرّية الاجتماعية بمعناها المتعارف في الثقافة السياسية العالمية، ذات جذر قرآني. ولا ضرورة للعودة إلى ليبرالية القرن الثامن عشر في أوربا لاستطلاع ما قاله «كانت» و «جان استوارت ميل» وغيرهم، فنحن لنا رأينا ولنا منطقنا. أضف إلى أن هذه الأقوال لا تقدّم لنا أي حل لأسباب عديدة. وهذا ما يدعونا إلى القول بأنَّ مقولة الحرّية مقولة إسلامية. ويبدو لي أن ثمة فريقين تتظافر جهودهما ضد النظر إلى الحرّية باعتبارها مقولة إسلامية ونابعة من هذه الارض؛ الفريق الأول هم أولئك الذين يستشهدون على الدوام في كلماتهم عن الحرّية بأقوال الفلاسفة الغربيين الذين ظهروا خلال القرون الثلاثة الأخيرة. مع ملاحظة ان الشرفاء منهم يذكرون أسماء أولئك الفلاسفة، أما الآخرون المتفلسفون الذين ينشرون آراءهم على صفحات الجرائد فينسبون أقوال «جان استوارت ميل» أو بعض الفلاسفة الفرنسيين أو الالمان أو الأمريكيين إلى أنفسهم دون الاشارة إلى أسماء أولئك، وهم يمارسون عملية تزييف على هذا النحو. إلا ان ذلك لا يمنعهم من إلقاء هذه الفكرة وهي ان فكرة الحرّية ومفهوم الحرّية الاجتماعية وفدا علينا من الغرب.
          أما الفئة الأُخرى التي تقدّم لهم اسباب العون جهلاً فهي تلك المجموعة التي ما ان تسمع بمفهوم الحرّية حتى يعتريها الرعب وتأخذ باطلاق صيحات الخوف على ذهاب الدين .
          إلا انهم واهمون في موقفهم هذا وذلك لأن الدين أكبر منادٍ للحرية، والحرّية الصحيحة، والحرّية المعقولة أكبر هدية يقدمها الدين للمجتمع وللشعب. بفضل وجود الحرّية تتنامى الأفكار وتزدهر الطاقات. أما الاستبداد ففيه كبت للطاقات، وحيثما وجد الاستبداد ينعدم ازدهار الطاقات التي يدعو الإسلام إلى رعايتها. والطاقات البشرية يجب استخراجها كما تستخرج الثروات الطبيعية، من أجل ان يتسنى لها اعمار الدنيا. فهل يتحقق هذا بدون وجود الحرّية؟ وهل يتحقق هذا بالأمر والنهي وحدهما؟
          يتضح لنا إذن سقم الفكرة التي تذهب إليها هذه الفئة. والحقيقة هي ان هاتين الفئتين؛ المتغربين والمحتاطين ـ هكذا نسمّيهم ـ يتعاضدان في ما بينها ودون شعور منهما على اخراج مفهوم الحرّية من البيئة الإسلامية، وهذا ما يتعارض طبعاً مع حقيقة ان مفهوم الحرّية مفهوم إسلامي.
          أُشير هنا إلى ان الإسلام أعطى للحرية الاجتماعية زخماً أكبر مما أعطته ايّاها المذاهب الغربية على ما فيها من تفسيرات ليبرالية متعددة. أي منذ ما أعقب عصر النهضة وانتشار الفكر الليبرالي في فرنسا وفي أوربا ومن بعدهما في كل أرجاء العالم، وانتهى بقيام الثورة الفرنسية، ثم استغل في ما بعد على نحو مشوّه في حروب استقلال أمريكا، وإلى حين صدور المنشور الأمريكي ـ إلى آخر ذلك من المواضيع المطوّلة التي يستلزم الحديث عنها فرصة أوسع ـ طُرحت منذ ذلك الوقت وحتّى العصر الحاضر عشرات التفسيرات لمفهوم الليبرالية. وخاصة في الآونة الأخيرة حيث ما برح المنظرون الأمريكيون ومن يدور في فلك أمريكا يدبّجون المقالات في هذا المضمار.
          أود أن أبيّن لكم ان الكثير من هؤلاء المفكّرين، وحتى غير الأمريكيين منهم يكتبون في هذا المجال، وخاصة في ما يتعلق بالليبرالية، بناء على توصيات من الأجهزة الأمريكية. وربّما تؤلف كتبهم في النمسا أو في ألمانيا أو في فرنسا، إلا انّها تطبع في نيويورك، بتوصيات أمريكية؛ ولأن منطلقاتها تصب في سياق الأهداف الأمريكية.
          وهذا الموضوع بحد ذاته موضوع ذو شجون. وخلاصة الكلام هي ان هذه التفسيرات، وعلى الرغم من تنوّعها، إلا ان الرؤية الإسلامية تبقى رؤية راقية.
          يواجه الغربيون مشكلة عند محاولاتهم اعطاء الحرّية طابعاً فلسفياً، ويؤكدون على ضرورة وجود أدلّة وجذور فلسفية لحرية الإنسان. وقد طرحت في هذا المجال آراء وكلمات شتّى. وذهبوا في تبريرهم لضرورة وجود الحرّية مذاهب شتّى من قبيل المنفعة، والخير الجماعي، واللذة الجماعية، واللذة الانفرادية، أو على أكثر الاحتمالات، هي حق من الحقوق المدنية. إلا ان هذه التبريرات كلّها واهية، وحتى هم أنفسهم طعنوا فيها.
          إذا أمعنّا النظر في ما كتب عن الليبرالية في السنوات الأخيرة، نلاحظ انَّ الكثير منه كان مضيعة للوقت ولا طائل من ورائه وأشبه ما يكون بمساجلات القرون الوسطى حول مفهوم الحرّية؛ كأن يطرح أحدهم رأياً فيرد آخر عليه، فينبري الأول للرد على الثاني وهذه في الحقيقة ملهاة لا بأس بها! لمثقفي العالم الثالث ليكون أحدهم نصيراً لنظرية ويكون الآخر نصيراً لنظرية أُخرى، ويقتنع أحدهم باستدلال ما، ويكتب شخص آخر تعليقاً على هذا الاستدلال، وينسب شخص آخر نظرية غيره لنفسه. وأكثر ما قالوا في هذا الباب هو ان مصدر الحرّية والحكمة من وجودها حق إنساني. في حين ذهب الإسلام إلى ما هو أسمى من هذا حين اعتبرها ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ أمراً فطرياً ملازماً لطبيعة الإنسان. صحيح أنّها حق، ولكن حق يفوق سار الحقوق من قبيل حق الحياة. مثلما ان حق الحياة لا يمكن وضعه في مصاف حق السكن وحق الاختيار وما إلى ذلك، فكذا الحال في ما يخص حق الحرّية الذي يعتبر أرفع واسمى من هذه الحقوق، بل هو الارضية والقاعدة لها جميعاً. هذا هو رأي الإسلام في الحرّية.
          لاشكّ في ان هنالك استثناءات. فهذا الحق يمكن سلبه في بعض الأحوال كحق الحياة؛ فإذا ما قتل شخص شخصاً يُقتص منه، وإذا ما أفسد يُقتص منه. وهذا المعنى ينطبق أيضاً على حق الحرّية. غير ان مثل هذه الحالات تعكس وضعاً استثنائياً.
          يتضح من هذا خطأ الفكرة التي تصور وكأن الحرّية الاجتماعية فكرة وفدت علينا من الغرب، وكلّما شاء أحدنا الاتيان بكلام جذاب ومثير لابدّ له احالة المقابل لقراءة كذا كتاب لكذا مؤلف غربي. هذا أمر مرفوض ويجب علينا التفكير بالاستقلالية والرجوع إلى مصادرنا الإسلامية. وعلى الإنسان ان يستفيد من افكار الآخرين لإنارة عقله والعثور على النقاط المضيئة، لا أن يتعامل معها من باب التقليد؛ لأن التقليد تترتب عليه أضرار لا تحمد عقباها.

          الفوارق الأساسية للحرية في المنطق الإسلامي وفي المنطق الغربي
          كان من جملة ما استخلصته من هذا السجال الفكري والصحفي ـ وهو كما سبقت الإشارة ظاهرة مباركة ـ هو ان الكثيرين لا يلتفتون إلى حقيقة هامّة تتلخص في وجود ثلاثة فوارق اساسية بين الحرّية في المنطق الإسلامي وبين الحرّية في المنطق الغربي. وكما أشرت فان الليبرالية تتألف من خليط من نظريات وآراء وتوجهات شتّى، ولعل بعضها يختلف عن البعض الآخر في بعض المجالات إلى حدٍّ بعيد.
          الليبرالية في المنظور الغربي معناها حرية الإنسان دون النظر إلى حقيقة الدين والخالق، ولذلك فهم لا يعتبرونها هبة إلهية للإنسان وانما يبحثون عن جذور فلسفية لها، وطرحوا بشأنها تفسيرات شتّى.
          أما في الإسلام فالحرّية ذات جذر إلهي، وهذا بحد ذاته فارق اساسي تتفرع عنه فوارق عديدة. ويذهب المنطق الإسلامي إلى اعتبار أي تحرك مُناهض للحرية بمثابة تحرك مضاد لظاهرة إلهية؛ بمعنى انه يُلقي على المقابل فريضة دينية للتصدي لأي محاولة لسلب الحريات. ومثل هذا التصور لا وجود له في الغرب. أي ان الكفاح الذي يخوضه الناس في سبيل الحرّية ليس له أي تبرير منطقي في وجهة نظر الليبرالية الغربية. لأن من جملة ما يُقال في هذا الصدد هو ان في «الحرّية» خيراً عاماً ومنفعة للأكثرية. أي ان هذا هو منطلق الحرّية الاجتماعية. إلا ان التساؤل الذي يُثار هنا هو لماذا أُقتل وأُعَذَّب في سبيل مصلحة الأكثرية؟ هذا أمر بعيد عن المنطق.
          لاشكّ في ان حالة التفاعل والحماس الآنيان تدفع بالكثيرين نحو ميادين الحرب والقتال ولكن ما ان يخرج احد المقاتلين تحت لواء مثل هذه الأفكار، من ساحة القتال حتى تعتريه الهواجس والشكوك في الاسباب التي من أجلها يضحّي بحياته.
          في الفكر الإسلامي لا تسير القاعدة على هذا المنوال وانما يُنظر إلى الكفاح من أجل الحرّية كتكليف ديني، لأنه يجري في سبيل أمر إلهي. وكما اننا مكلفون باغاثة من يتعرض لخطر القتل مثلاً، وان لم نفعل نقارف ذنباً. فهكذا الحال أيضاً في مجال الحرّية التي يعتبر الدفاع عنها تكليفاً.
          ويترتّب على هذا الفارق الأساسي فوارق أخرى فرعية؛ منها على سبيل المثال ان الليبرالية تؤمن بالحرّية المطلقة انطلاقاً من اعتقادها بنسبية الحقيقة ونسبية الأخلاق. ويبررون ذلك بالقول انك لا ينبغي لك مؤاخذة من ينتهك ما تدين به من معتقدات؛ وذلك لأنه ربّما لا يعتقد بمثل ما تعتقد به. ويترتب على هذه القاعدة طبعاً عدم وجود أي حد للحرية لا معنوياً ولا أخلاقياً. وهذا التصور نابع من عدم إيمانهم بوجود حقيقة ثابتة، وان القيم الإنسانية أُمور نسبية.
          أما الإسلام فلا يذهب إلى هذا الرأي وانما يؤمن بوجود قيم ثابتة ومسلّم بها، وبوجود حقيقة الكمال والقيم التي يسير الإنسان نحوها. والحرّية انما تكون محدودة في اطار هذه القيم. أما كيفية فهم هذه القيم وتحديد معالمها فهو موضوع آخر لعل البعض يسلك المنهج الصحيح في فهمه، وقد يسلك البعض الآخر مسلكاً خاطئاً في استيعاب مضامينه. وعلى كل حال فالحرّية محدودة في اطار الحقيقة وفي اطار القيم. وحتى هذه الحرّية الاجتماعية التي يكرّمها الإسلام إلى هذا الحد، إذا استغلت في طمس المعطيات المادية أو المعنوية لشعب ما تصبح حينئذاك مضرّة ومثلها تماماً كمثل حياة الإنسان {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنّما قتل الناس جميعاً}.
          هذا المنطق القرآني الذي يصوّر قتل الإنسان وكأنه قتل لجميع الناس، منطق يلفت الانتباه؛ لأنه يعتبر هذا العمل انتهاكاً لكرامة الإنسانية. غير انه يستثني من ذلك «بغير نفس أو فساد في الأرض». إذن فالحقائق والقيم الثابتة المسلّم بها هي التي تحدد اطار هذه الحرّية. مثلما تحدد أيضاً حق الحياة.
          الفارق الآخر في النظرة إلى الحرّية هو ان الغرب ينظر إليها في اطار المصالح المادية. وحتى الحريات الفردية والاجتماعية تتحدد في ضوء هذه الرؤية. فعندما يكون هناك مساس بالمصالح المادية تضيق رقعة الحرّية. وحتى ان المصالح المادّية تشمل هنا الهيمنة العلمية لتلك البلدان. فمن المعروف ان حق التعليم والتربية من جملة الحقوق والحريات المسلّم بها لكل إنسان. إلا ان رقعة هذه الحرّية تضيق في الجامعات الكبرى للدول الغربية؛ إذ لا يجوزون انتقال العلوم والتقنية المتطورة إلى بعض البلدان مخافة ان تخرج التقنية من احتكار هذه الدول مما يفقدها تسلطها وهيمنتها في هذه الحقول. هنا تكون للحرية حدود فلا يحق للاستاذ تعليم طلاب بلد من العالم الثالث؛ كالطلبة الإيرانيين أو الصينيين على سبيل المثال أسرار كذا علم.
          وهكذا الحال أيضاً في مجال انتقال المعلومات والأخبار. هنالك اليوم ضجّة في العالم تنادي بحرية تداول الأخبار والمعلومات ليطلع الناس عليها. وهذا من مصاديق اشاعة الحرّية في الغرب. إلا ان أمريكا حينما شنّت هجومها على العراق ـ على عهد رئاسة بوش ـ فرضت رقابة صارمة على المعلومات لمدّة اسبوع أو أكثر، وأُعلن رسمياً بأنه لا يحق لأي صحفي نقل أو نشر أية صورة أو خبر عن الهجوم الأمريكي على العراق. كان الجميع على معرفة بوقوع الهجوم استناداً إلى الخبر الذي أذاعه الأمريكيون أنفسهم، إلا انهم لم يسمحوا لأحد بالاطلاع على التفاصيل بذريعة ما ينطوي عليها من خطر على الأمن العسكري. إذن فالأمن العسكري يقيّد حق الحرّية وهذا القيد هو قيد مادي طبعاً.
          هذا فضلاً عن ان توطيد ركائز تلك الحكومات يمثل قيداً آخر على الحريات. ولابدّ وانكم سمعتم ما حصل في أمريكا قبل حوالي خمس سنوات ـ وهو ما نشرته الصحف تلك الأيام، وقد أُتيح لي الاطلاع على معلومات أكثر عن تلك الحادثة ـ حينما ظهرت جماعة تحمل توجهات دينية خاصة ضد الحكومة الأمريكية ـ في عهد الرئيس الحالي كلينتون ـ فحاولت السلطات الأمريكية القضاء عليهم عبر الأساليب الأمنية ولكن دون جدوى، فلجأت إلى محاصرة الدار التي اجتمعوا فيها وأضرمت النار فيها؛ فالتهمت النيران أجسادهم وكان عددهم حوالي ثمانين شخصاً بينهم نساء واطفال. ولعله لم يكن بينهم عسكري واحد. وقد نشرت صور الحادثة يومها وشاهدها العالم بأسره.
          تلاحظون إذن ان حرّية الحياة، وحرية المعتقد، وحرّية الكفاح السياسي مقيّدة بهذه الحدود. ويستخلص من هذا ان الحرّية في العالم المادي الغربي لها حدودها وقيودها أيضاً. غاية ما في الأمر انها قيود مادية..
          أما القيم الأخلاقية فلا تشكل هناك أي حاجز أمام الحرّية. فهناك ـ على سبيل المثال ـ في أمريكا حركة الشذوذ الجنسي، وهي من الحركات الناشطة وتتباهى بسعة نشاطها وتنظم التظاهرات في الشوارع، وتنشر ما تشاء من الصور في المجلات، وتشير بكل فخر إلى أسماء التجار والساسة الذين ينتمون إليها، من غير أن ينكر أحد منهم مثل هذا الانتماء أو يشعر بالخجل منه. والادهى من ذلك هو ان بعض من يعلنون معارضتهم لهذه الحركة يواجهون هجمة شرسة من بعض الصحف والمجلات. وخلاصة القول هي ان القيم الأخلاقية لا توجب لديهم فرض أي قيود على الحرّية.
          من الأمثلة الأخرى الشائعة في الدول الأوربية هي ان حرية البيان تتقيّد بعدم الدعاية لصالح الفاشية، ومن الواضح ان الدافع الكامن وراءه دافع مادّي ومنفعة حكومية. في حين ان حركة العري ـ وهي حركة أخرى أيضاً ـ لا تفرض عليها مثل هذه القيود. وهذا يعني ان حدود الحرّية وفقاً للنظرة الغربية وفي ظل جذورها ودوافعها الفلسفية، تتقيد بالحدود المادية لا الأخلاقية. غير ان الإسلام يقر قيوداً أخلاقية لها. أي انّه يعتقد بحدود معنوية للحرية فضلاً عن تلك الحدود المادية. ولاشك طبعاً في وجوب تقييد حرّية كل من يقدم على عمل فيه اضرار بمصلحة البلد. وهذا أمر منطقي. إلا ان القيود المعنوية موجودة ايضاً.
          إذا كان الإنسان يؤمن بعقيدة ضالّة فلا مؤاخذة عليه. وحينما نقول لا مؤاخذة عليه فذلك يعني إنه مؤاخذ أمام اللّه وأمام المؤمنين، إلا ان الحكومة غير مكلفة باتخاذ أي اجراء ضدّه. كان اليهود والمسيحيون واتباع بقية الأديان موجودين في المجتمع الإسلامي في زمن صدر الإسلام، وفي بلدنا في الوقت الحاضر، ولا مانع من ذلك. أما إذا حاول صاحب العقيدة الفاسدة اضلال الناس البسطاء ـ لابدّ ـ من وضع قيود أمام حريته. وهذا المثال ينطبق أيضاً على من يبتغي اشاعة الفساد السياسي أو الفكري أو الجنسي، وعلى ادعياء الفلسفة ممن يدأبون على تدبيج مقالات تقدح على سبيل المثال بالدراسات العليا للشباب وتحصي ما فيها من المعايب والنواقص. من الطبيعي أن مثل هذه المقالات عديمة التأثير بنسبة تسعين بالمائة، لكنها من المحتمل أن توثر على بعض الشباب الكسولين بنسبة عشرة بالمائة. ولا يجوز في مثل هذه الحالة السماح لمن يتّبع أساليب الخداع والأكاذيب لصرف الشباب عن مواصلة الدراسة.
          الحرّية لا تعني الأكاذيب ولابث الاشاعات والأراجيف.
          إن مما يحز في النفس هو عدم الرجوع إلى الدراسات والمبادئ الإسلامية في ما يخص قضايا الحرّية. ورد في الآية 60 من سورة الأحزاب {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم}. المنافقون والذين في قلوبهم مرض فئتان وإلى جانبهما فئة المرجفين الذين يثيرون الرعب والخوف على الدوام في أوساط المجتمع الإسلامي الوليد الذي يجب أن يكون أفراده في حالة استعداد روحي دائم للدفاع عنه، إلا ان فئة كانت تقع في النفوس كوقع الآكلة، وتثبط العزائم والهمم. وهؤلاء هم المرجفون الذين يحذرهم القرآن انهم إذا لم يكفوا عن عملهم، ليغرينّك بهم ويؤلبك عليهم. وهذا حد للحرية. إذن الفارق الآخر الذي تتسم به الحرّية في المنطق الإسلامي هو ان لها قيوداً من القيم المعنوية.
          وهناك فارق آخر ايضاً وهو ان الحرّية في منطق الفكر الليبرالي الغربي تتنافى مع التكليف؛ على اعتبار ان الحرّية تعني التحرر من التكليف أيضاً. في حين يذهب الإسلام إلى ان الحرّية هي الوجه الآخر للتكليف، والناس أحرار لأنهم مكلفون. وإذا لم يكن هناك تكليف فلا ضرورة للحرية، ولكانوا على طبائع الملائكة؛ وكما قال الشاعر مولوي [ما معناه] انه جاء في الحديث ان الخلاق المجيد خلق العالم على ثلاثة أنماط، وأحد هذه الأنماط هم الملائكة الذين كلّهم عقل وعلم ولا يعرفون غير السجود للّه.
          بينما يتصف البشر بأنه مركّب من جملة غرائز ودوافع متناقضة يسير من بينها على طريق الكمال. وقد منح الحرّية من أجل طي طريق الكمال هذا.
          وهذه الحرّية على ما لها من قيمة انّما مُنحت له من أجل تكامله، مثلما ان حياته نفسها وهبت له في سبيل السير نحو الكمال. {ما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون} فهو تعالى خلق الجن والانس من أجل ان يبلغوا مرتبة العبودية، وهي مرتبة عالية جداً. والحرّية ايضاً كحق الحياة، تمثل مقدّمة للعبودية.
          بلغوا في الغرب في رفضهم للتكليف مرحلة رفضوا معها كل تفكير ديني وغير ديني، وكل عقيدة فيها تكليف، وحلال وحرام، ويجب أو لا يجب. ويلاحظ حالياً في مؤلفات الكتّاب الليبراليين الأمريكيين ومن يحذون حذوهم، ومن يتخذونهم بمثابة أنبياء لهم ـ مع انهم ينتمون إلى أُمم في بلدان أخرى، ويشكل بعض الأفراد في بلداننا ـ وللأسف ـ فئة منهم ـ انهم يذهبون إلى انّ الفكر الغربي الحر يتعارض مع مبدأ «يجب أو لا يجب» ومع كل مبدأ عقائدي. في حين يقف الإسلام على طرف نقيض من ذلك ويعتبر الحرّية مواكبة للتكليف لكي يستطيع بواسطة هذه الحرّية اداء تكاليفه على نحو صحيح، وينجز أعمالاً كبرى، ويستطيع بلوغ التكامل.

          خطاب القائد في جامعة إعداد المعلّمين بطهران، 11/5/1419

      • ذكريات القائد من أيام النضال
    • العراق
    • الحج العبادي و السياسي
    • الوحدة الوطنية والإنسجام الإسلامي
    • الرسول الأعظم(ص)
700 /