موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
    • مقدمة
    • المقالة الأولى: معنى الولاية
      سهلة الطبع  ;  PDF

       

      المقالة الأولى: معنى الولاية

      يدور بحثنا حول مسألة الولاية، وقليلاً ما تطرح الولاية بمعناها الذي نستنبطه من القرآن الكريم. ومن الطبيعي أن لا تكون كلمة الولاية غريبة على الأسماع الشيعية، بل أنها مأنوسة بشكل كامل بهذه الكلمة، حيث أننا نذكر الولاية مطعمة بالقدسية ومفعمة بالإحترام في دعائنا وابتهالنا إلى الله، وفي رواياتنا وأحاديثنا الفكرية العامة الرائجة. ونحن كشيعة ندين بالولاية وندعو للّه سبحانه أن يحيينا ويتوفانا عليها.
      أُريد أَن أتحدث عن الولاية من أساسها وعمقها البعيد. ومن الطبيعي أَن يصل بي الحديث إلى ولاية علي بن أبي طالب، ولكن حديثي الآن في المراحل السابقة على ذلك، وما نبتغيه هو استخلاص واستنباط معنى الولاية من الآيات القرآنية، وستجدون علو هذا المعنى وجدته وتطوره، وستجدون أيضاً أن الأمة أو الجماعة التي تتبع منهجاً معيناً وتعتقد بعقيدة ما تعيش التيه والضياع ما لم تكن موالية. وفي ظلال هذا البحث ستطّلعون بصورة واضحة على السبب في أن صلاة الموالي هي الصلاة الحقيقية، وصيامه هو الصيام المطلوب، وعبادته هي العبادة التي فرضها الله. وسيسهل عليكم من خلال هذا البحث معرفة السر في أَن الأمة والمجتمع مع الولاية يكون لائقاً ومستحقاً للطف الله ورحمته وعنايته. ونلخص ما مضى بالقول بأننا سنفهم في ظل هذا البحث ما تعنيه أحاديث الولاية.
      ومن هذه الأحاديث الحديث المعروف والذي أكرر بعض فقراته في مواطن مختلفة (لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله جلَّ وعزَّ حق في ثوابه)(2). وسوف تستوعبون أبعاد هذا البحث بعد التدقيق فيه وفي نتائِجِه المستخلصة من الآيات القرآنية.
      ومسألة الولاية تتصل بمسألة النبوة إتصالاً وثيقاً وتتبعها من غير أن تنفك عنها، وهي في الحقيقة خاتمة لبحث النبوة، وملحق لها، وتتمة لنتائجها.
      وسوف نفهم من خلال عرضنا الحاضر أن النبوة تبقى ناقصة من غير ولاية.
      ولهذا فنحن ملزمون بالبحث بصورة مختصرة عن النبوة.. وفي هذا البحث المختصر نتعرض للقضايا الكلية والعامة في مسألة النبوة، حتى نجعل هذا البحث مدخلاً لدراسة مسألة الولاية. ولا أنسى أن أقول هنا أن عرض هذه المسألة شاق وصعب صعوبة بالغة، وأشق من ذلك بيانها وعرضها كما هي؛ ذلك لرسوخ الكثير من المفاهيم والاعتقادات الواهية الهزيلة وغير المنطقية في أذهان العامة من الناس عن الولاية بدرجة لا تسمح بفهم ما تريد أن تبيّنه عن معنى الولاية المطابق مع القرآن والسنة، وستواجه عندئذ أحد اشكالين؛ إما أن تختلط عليك الصورة بما يقوله عامة الناس، وإما أن يبدو هذا المعنى غريباً حين مقارنته مع ما في أذهان الناس، ولهذا كان هذا البحث صعباً وشاقاً جداً. ولكني بعد استمداد العون من الله المتعال وبالسعي الجاد آمل أَن أُتم هذا البحث في خلال أيام قليلة إنشاء الله تعالى.
      لماذا أُرسل النبي (ص) ولماذا جاء؟ من أجل أن تتكامل البشرية، وتتخلق الأمم بأخلاق الله. التكامل البشري وإيصال الناس إلى مكارم الأخلاق هو هدف الرسول (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق). بُعث النبي لتربية الإنسان وتقويمه، وعلينا أن ننظر في الوسائل والأساليب والطرق التي يسلكها الرسول للوصول إلى تربية الناس وتقويمهم؛ هل يؤسس مدرسة، أو يطرح مذهباً فلسفياً، أو يبني صومعة ومكاناً للعبادة. النبي أسس مصنعاً(3) لإعداد الناس وتربيتهم وصناعتهم وفق المنهج الإلهي {ولتصنع على عيني}.
      وكان (ص) يرجح أن يصل إلى هذا الهدف خلال عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر؛ إذ لم يكن يستهدف تربية إنسان واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عشرين فقط، وإنما كان يهدف إلى بناء مصنع يُنتج ويُعد إنساناً كاملاً يحبه الله ورسوله وبصورة تلقائية أتوماتيكية. فما هو هذا المصنع؟ إنه المجتمع والنظام الإسلامي. هنا يَظهر المنعطف الخطير والنقطة الحساسة لأن الجميع يقولون أن النبي جاء مربّياً ومعلماً يهدف تعليم الناس وتزكيتهم وتربيتهم، والكل يفهم ذلك، ولكن ما ينبغي فهمه بصورة دقيقة هو الطريق إلى هذا الهدف، هل يخلو بالأفراد واحداً واحداً ليلقي على مسمعه النداء الحنون المفعم برحمة الله ولطفه؟
      والأنبياء لم يؤسسوا مكاتب ومعاهد علمية أو فلسفية لتعليم مجموعة من الرواد، ثم إرسالهم لهداية الناس في أقطار الأرض، بل إن عمل النبي أشد استحكاماً وثباتاً وعمقاً من هذا كله. فماذا يعمل النبي؟ ليس أمامه من سبيل إلا تأسيس وإنشاء ذلك المجتمع الإسلامي الذي يتولى مهمة إنتاج وإعداد الإنسان الكامل.
       
      ماذا نعني بالمجتمع الإسلامي؟ وما هي حقيقته؟
      وطبيعي أن هذه المسائل ليست من صميم بحثنا الأول، ولكنها توضح جوانبه.
      المجتمع الإسلامي هو تلك الجماعة التي ترجع في حاكميتها إلى الله، فهو مصدر تشريعها وواضع قوانينها؛ فقوانين هذه الجماعة قوانين إلهية وحدود الله هي الجارية، والذي يعين القائد أو يعزله هو الله. فإذا تصورنا المجتمع على شكل هرم كما يشاء بعض علماء الاجتماع فإن الله سبحانه هو قمة الهرم، وقاعدته هي الجماعة المسلمة، والذي يوجد الجماعات والتشكيلات هو دين الله، والقرار الرباني الإلهي هو الذي يحدد وقت الصلح والسلام أو الحرب والقتال.. كما أن دين الله هو الذي يعين الروابط الاجتماعية والاقتصادية، وهو الذي يشكل الحكومة ويحدد الحقوق، وكل شيء على الاطلاق يمر من خلال دين الله وشريعته ورسالته، وعلى الجميع أن يتبعوا المنهج الذي يرسمه دين الله ورسالته.. هذا هو المجتمع الإسلامي.
      وعندما جاء الرسول إلى المدينة أسس المجتمع الإسلامي، والله سبحانه هو الحاكم على هذا المجتمع الناشىء، ومن الناحية العملية والتنفيذية كان المنفذ والحاكم الفعلي هو خليفة الله ووليه وهو الرسول، فكان يضع أو ينفذ المقررات الإلهية، وكان المسؤول عن هداية الناس وقيادتهم وإدارتهم. كان كل شيء من الله سبحانه في هذا المجتمع.. فصلاة الجماعة كانت تقام وتعقبها خطبة للرسول أو نداء للقتال، لا فرق بين الإثنين؛ كان الرسول (ص) يقوم إماماً للصلاة في المسجد ثم يرتقي المنبر للموعظة والوصية بالتقوى والتربية وتزكية النفوس. وفي نفس هذا المسجد يُؤتى براية الجهاد ليضعها الرسول بيد أسامة بن زيد أو بيد قائد كفؤ آخر ثم يقول انطلقوا على اسم الله، ثم يصدر أوامره التي تنتهي إلى انتصار المسلمين على أعدائهم. وفي نفس هذا المسجد كان الرسول يقيم الحدود الإلهية ويجريها ويقضي بين الناس ويحل مشاكلهم ويرفع نزاعاتهم.
      وكان المسجد هو مكان إدارة الأعمال ودراسة المسائل الاقتصادية.. تجمع الزكاة في المسجد وتوزع منه.. الدرس في المسجد والصلاة والدعاء والعبادة.. كان نشيد القتال يردد فصلاً فصلاً في المسجد، ولا تدرس أمور الثروة والاقتصاد إلا في المسجد، ولم تجد أمور الدنيا والآخرة مكاناً تُتداول فيه غير المسجد، فكلها تشكل كياناً واحداً في وعاء واحد هو بيت الله وتحت قيادة الرسول. هذا هو المجتمع الإسلامي.
      إنما جاء الأنبياء لبناء مثل هذا المجتمع، والذي يدخل هذا المجتمع يخرج منه إنساناً كاملاً، وإذا لم يتكامل فهو لا يجد مجالاً يتحرك فيه غير مجال حركة هذا المجتمع، ومن أراد أن يكون منسجماً مع مجتمع الرسول فإن بإمكانه ذلك، بينما لا نجد ذلك في المجتمعات المادية وغير الإلهية؛ فإن الإنسان في المجتمع غير الإسلامي إذا أراد أن يكون فرداً صالحاً فهو لا يستطيع، يريد أن يكون من أهل الإيمان والتقوى لكنه لا يستطيع، لا يريد أن يأخذ الربا ولا يتعاطاه لكنه يجد ذلك صعباً أو غير ميسور، تريد المرأة أن لا تخرج عن حدود الشريعة الإسلامية فتواجه من المجتمع الضغوط التي تدفعها للسير في الاتجاه المعاكس.
      وكل الأجواء والدوافع تبعد الإنسان عن ذكر الله؛ فالصور والمعارض، والذهاب والإياب، والمعاملات، والمحاورات تبعد الناس جميعاً عن ذكر الله وتجعل ذكر الله غريباً على النفس الإنسانية. أما في المجتمع الإسلامي فالمسألة معكوسة؛ فإن السوق والمسجد ودوائر الدولة والأصدقاء والأقارب والآباء والشباب وكل من في المجتمع وكل ما فيه، يدعو الإنسان إلى ذكر الله ويجتذبه إلى قدسه ويجعله منسجماً مع ما يريده الله ويوثق الروابط الإنسانية بالله.
      كل شيء في المجتمع الإسلامي يبعث على عبودية الله، وهذا بدوره يعد الإنسان العابد للّه عبادة حقيقة، ويبعده عن العبودية لغير الله. ولو استدامت حياة المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول على حالته الأولى مدة خمسين عاماً، ولو كانت القيادة في ذلك المجتمع للرسول، أو لعلي بن أبي طالب الذي عينه الرسول قائداً للناس من بعده، فإن جميع المنافقين يتحولون إلى مؤمنين واقعيين في هذه الخمسين سنة، أي أن أولئك الذين كانوا ضعاف الإيمان وفي منتصف الطريق والذين يمزجون الحق بالباطل وهم يوماً مع هذا ويوماً مع ذاك، إن هؤلاء يتحولون إلى مؤمنين مخلصين لو كانت القيادة نبوية ثم علوية؛ فالقلوب المنافقة تتحول إلى قلوب ملؤها الإيمان والهدى في مجتمع كالمجتمع الإسلامي الأول لو استمرت به الحياة مدة أطول مما كان ولو كان عمر ذلك المجتمع طويلاً.
      فإن أولئك الذين لم تعرف أرواحهم المعاني البعيدة للإيمان سيعرفون الله. والإيمان معرفة رفيعة.. هذا هو مقتضى طبيعة المجتمع الإسلامي، وهذا هو مبتغى الأنبياء وهدفهم، وهذا المجتمع هو المصنع الذي يعد وينتج الإنسان المتكامل، وتخرج من هذا المجتمع مجاميع تعمل بالإسلام في سطحها الظاهر وتؤمن بالإسلام في قلبها وأعماقها وواقعها.
      ولهذا الهدف أُرسل النبي، ولمثل هذا الهدف كان يعمل ويدعو، وقد تقدم أن هدفنا البحث عن الولاية من أسسها وأعماقها. عندما جاء النبي برسالته وطرح فكره الإسلامي، وبدأ دعوته، فهل يستطيع إدارة المجتمع لوحده؟ ألا تحتاج الجماعة وتشكيلاتها إلى طائفة من الناس تتولى إدارة الأمور؟ ألا تحتاج الجماعة إلى جنود يدافعون عنها، ويردون كيد الأعداء؟ أليس من الضروري وجود مجموعة من المسلمين تعين النبي في تبليغ رسالته ونشر دعوته؟ طبيعي أن ذلك لازم وضروري، ولابد أن تكون هذه السبل طبيعية غير حاصلة على أساس الإعجاز، والأنبياء يسلكون الطرق الطبيعية في أكثر أعمالهم. جاء النبي ليبني المجتمع المسلم (أي مدرسة التربية)، وهو لإنجاز هذا الهدف يحتاج إلى جماعة متراصة متحدة يشد بعضها بعضاً تؤمن بهذه المدرسة من أعماق قلبها، وتسير بخطىً ثابتة نحو تحقيق هدفها.
      كان ضرورياً للنبي من أجل تحقيق هدفه وجود مثل هذه الجماعة، ولهذا كان فاتحة أعماله إيجاد مثل هذه الجماعة المتراصة عن طريق تلاوة الآيات القرآنية والمواعظ الحسنة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}(4)، حيث كان القرآن ومواعظ النبي التي تصدر من أعماق قلبه هما السبيل لإنشاء ذلك المجتمع، وكانت كلمات الرسول تصيب هدفها وتدخل أعماق القلوب لتجتذبها اجتذاباً إلى طريق الله ورسالته. كانت بداية أعمال الرسول تجميع المسلمين ليشكلوا [الجماعة الأولى] (والصف الأول) والجبهة التي تقابل جبهة الكفر والشرك. ولو سألنا عن نواة هذه الجبهة، لوجدنا أنها تتألف من المسلمين الثابتين أولي الاعتقاد الراسخ والقلوب القوية من الذين {لا تأخذهم في الله لومة لائم}(5).
      وكان على المسلمين في ذلك الحين أن يكونوا كالفولاذ إذا أرادوا لجبهتهم أن تبقى قوية مستقلة عن الجاهلية، وهي جبهة حديثة النشوء، غضة العود، قليلة العدد، مع كثرة المشاكل والضغوط التي يخلقها المجتمع الجاهلي.. كان عليهم الارتباط القوي، والاتصال المحكم، حتى لا يستطيع أي عامل النفوذ إلى جبهتهم ليفرق بينهم.. كانوا أشد الحاجة إلى ما يسميه المثقفون هذه الأيام بالانضباط الحزبي الحديدي؛ عليهم الاتصال أكثر ما يستطيعون والتفاعل بأقوى ما يقدرون، وعليهم الابتعاد ما استطاعوا عن الصفوف والتيارات المضادة لأنهم يشكلون الأقلية، وفكر الأقلية إذا حوصر وضيق عليه فليس له أي قيمة، فإنه كعمل الأقلية وشخصيتها قد يضيع في المسالك العملية المتعددة التي ترجع إلى الجماعة المخالفة التي تشكل الأكثرية، وبهذا تسحق شخصية الأقلية وعملها وفكرها ضمن شخصية الأكثرية وتوجهاتها.
      إذن لابد لتلك الجماعة من الانسجام والاتصال والوحدة والانفصال عن سائر الجبهات الأخرى من أجل أن تبقى هذه الجماعة متشكلة ومؤلفة، وأساساً لبناء المجتمع الإسلامي الكبير القائم على أسس القوة والمتانة والثبات؛ ذلك المجتمع الذي تبنيه أيادي هذه الجماعة الصغيرة.
      وحال هذه الجماعة عندما تريد بناء مجتمعها الكبير يشبه حال أولئك الذين يتسلقون الجبال فهم يطمحون طي المسافة الملتوية المتعرجة، ويحمل كلٌ منهم عصا، وطريقهم الجبلي مغطى بالثلوج كثير الارتفاعات الشاهقة والانخفاضات السحيقة؛ فمن أجل أن يصل هؤلاء إلى قمة الجبل لابد أن يلتزموا بالوصايا التي تقدم لهم بشأن تسلق الجبال، التصقوا ببعضكم، شدوا الظهور سوية، لا تسيروا متفرقين فإن من يبقى وحده قد ينزلق ويسقط.
      يوصي هؤلاء بالالتحام الشديد والتفاعل المشترك، ويقال لهم أيضاً لا تثقلوا ظهوركم بالأحمال الثقيلة، ولا تنظروا إلى الأطراف المحيطة بكم، بل عليكم تركيز نظراتكم على طريقكم، وركزوا حواسكم على عملكم، وتشد أيدي هؤلاء وظهورهم بإحكام حتى إذا سقط واحد منهم أو اثنان كان بإمكان الباقين إنقاذه وإرجاعه إلى حالته المتوازنة. هذه الحالة الشديدة الاتصال والتفاعل تعتبر مثالاً واضحاً لحالة المسلمين الأوائل انسجاماً واتصالاً وتفاعلاً.
      هل لهذه الحالة المتفاعلة المتصلة اسم خاص في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة، أم ليس لها اسم؟
      وهل تقبل الانفصال والذوبان تلك العلاقة الصميمية بين المسلمين الأوائل الذين شكلوا الجبهة الإسلامية الأولى؟ ألم تكن هذه الجبهة منفصلة بنحو كامل عن سائر الجبهات المضادة فكراً وسلوكاً، مبدأ وغاية، مع أنها شديدة الالتحام والتفاعل داخل صفوف المسلمين؛ فالأيادي متشابكة ومتلاصقة والقلوب متوحدة متفاعلة، والأجساد متراصة والمسلمين يشد بعضهم بعضاً.
      هل لهذه العلاقة اسم خاص في القرآن الكريم؟ نعم هناك اسم لهذه العلاقة الالتحامية، ولهذه الجبهة المتميزة والتي شكلتها مجموعة من الأفراد ذوي الفكر الواحد والطموح الواحد والهدف الواحد والواضعين خطاهم في طريق واحد والمتحركين من أجل غاية واحدة والذين يعتقدون بعقيدة واحدة، هؤلاء الذين كانوا يلتحمون ويتآزرون فيما بينهم بقوة تشتد يوماً بعد يوم، وكانوا متمايزين عن باقي الجبهات والتيارات والرؤى الفكرية بصورة واضحة على كل المستويات الفكرية والسلوكية، وهم يحافظون على تميزهم واستقلالهم هذا، ولماذا كل ذلك؟
      لأنهم لا يريدون الذوبان والتحلل في الآخرين. والقرآن الكريم يصطلح على هذه العلاقة بالولاية. كان الرسول (ص) هو الذي أوجد تلك الجماعة المتفاعلة المنسجمة؛ فآخاهم ووحدهم وحولهم إلى جسد واحد. ومن هذا الكيان المنسجم تشكلت الأمة الإسلامية، ومن هذه الجماعة تولد المجتمع الإسلامي؛ وقد فصلهم الرسول وأبعدهم عن أعدائهم ومخالفيهم ومعانديهم كما سنقرأ ذلك في الآيات القرآنية.
      وقد أوجد الرسول حاجزاً بين المسلمين وبين سائر الجبهات، ومنعهم من تكوين أي علاقة مع جبهات اليهود والنصارى والمشركين، وكان يسعى ما أمكنه السعي إلى أن يجعل الصفوف الإسلامية متصلة مملوءة متوحدة متفاعلة منسجمة، لأنهم إن لم يكونوا على تلك الحالة وإذا لم يكن بعضهم يوالي بعضاً، لا يستطيعون حمل الأمانة الملقاة على عواتقهم وسوف يعجزون عن النهوض بها وإيصالها إلى غايتها المنشودة ونهايتها المطلوبة. وعندما يتحول المجتمع الإسلامي إلى أمة عظيمة تبقى ضرورة الولاية قائمة.
      وسنأتي بالشرح على ذلك.. ومن أجل أن نصل إلى معرفة إجمالية للولاية عند الشيعة، علينا التدقيق فيما تقدم من أن المجتمع الصغير يلزمه الالتحام والارتباط القوي وهو يعيش في دنيا يخيم عليها الظلام وتحكمها الجاهلية؛ لابد له من ذلك الالتحام والانسجام من أجل البقاء والديمومة، فلن يكون له وجود وحياة إذا لم يكن متصلاً منسجماً متفاعلاً، ومثال ذلك المسلمون الأوائل الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وكانوا يعيشون وسط المجتمع الجاهلي، ومثال آخر المجتمع الشيعي الثائر الصغير في عصور الخلافة الأموية والعباسية والتي كانت تنصب الكيد والعداء للإسلام.. هل كان من اليسير بقاء تلك الجماعة المؤمنة، مع شدة الحملات التشويهية، وحملات الرعب والتجويع والإعتقالات والسجن والقتل؟ ما هو هدف كل هذه الحملات؟ ألم تكن تهدف إلى تذويب وسحق ذلك الجمع المنسجم فكراً وسلوكاً، مع ملاحظة أن هذا التجمع كان يعارض بشكل واضح وصريح الاتجاهات الحاكمة آنذاك؟
      أما كيف قدر لهذا الجمع أن يبقى؟! ذلك لوجود العلاقة الصميمية والمتفاعلة بشكل مدهش والتي يسميها القرآن بالولاية، وتحت ظلال هذه الولاية أمكن بقاء الشيعة كمدرسة تواجه المدارس المعارضة. تصوروا نهراً عظيماً واسعاً تصب فيه روافد مختلفة منتشرة الأطراف هنا وهناك، والمياه تجري سريعاً، لن يكون سطح الماء مستوياً بل ستكون هناك حفر كثيرة. مع اختلاط المياه ببعضها وبتيارات الماء التي تصب من الروافد ومن كل الاتجاهات يحدث تفاعل شديد بين مجموع هذه المياه الجارية، سوف يطغى بعضها على بعض والماء جارٍ من غير توقف مما يبعث على أن ينتشر الطين والترسبات هنا وهناك.
      ماذا تقولون لو شاهدتم مجرىً نظيفاً زلالاً وفراتاً عذباً داخل ذلك النهر العظيم وهو محافظ على نقاءه وتميزه بصورة تثير الدهشة والإعجاب؟ لم يمسسه سوء من كل الأطراف المحيطة به، لم تختلط أو تمتزج مياهه بمياه النهر الكبير. فما تغير لونه مطلقاً، ولم يتأثر مذاقه العذب بمذاق ماء النهر الأجاج، حلو الطعم عذبه، أبيض اللون، شفاف بلوري، صاف خالص نقي، يسير محافظاً على صفائه وخلوصه في مجراه قُدُماً. شبّهوا العالم الإسلامي في أيام الأمويين والعباسيين بهذا النهر، حيث كانت التيارات والمدارس الفكرية والسياسية المختلفة في صراع..
      انظروا إلى هذا الصراع من أوله إلى آخره، تجدون مجرى التشيع كالخيط الرفيع من الماء داخل ذلك الطوفان المهيب؛ فهو شيء وكأنه لا شيء، يرى صغيراً وكأنه لا يرى، لكنه كان محافظاً على وجوده، لم يصبه كدر المياه المختلفة، ولم يتغير طعمه أو يفقد صفائه ونقاوته، ولم تستطع التأثير فيه مذاقات المياه المختلفة أو رائحتها أو ألوانها، حافظ على بقائه مستقلاً وسلك مسيره وطريقه. ما هو ذلك العامل الذي حافظ على وجوده ونقائه واستمراره؟ إنه وجود الولي، الذي كان يوصي بإنشاء علاقة الولاية بين أتباعه. وكان يربط بعضهم ببعض، ويجعل بعضهم رحيماً ببعض، وكان يذيع هذه العلاقة ويشجع عليها ويحفظها قوية بين أفراد جبهته، هذا بعد من أبعاد الولاية عند الشيعة، وهناك أبعاد أخرى سوف نحققها ونحللها.
      فليس كل ما تعنيه الولاية هو هذا، بل إن هذا جانب من جوانبها وبعد من أبعادها. وعلى هذا نعرف أن الولاية هي الاتصال والترابط والانسجام بين الأفراد. والقرآن يعتبر المؤمنين أولياء فيما بينهم، والذين آمنوا وأخلصوا يشكلون في منطق القرآن جبهة واحدة. وورد مصطلح المؤمن في رواياتنا تعبيراً عن الشيعي، والإيمان بناء على هذا المصطلح، هو الاعتقاد بالفكر الإسلامي الذي يعتمد على أساس الولاية، والإيمان هو الرؤية الإسلامية من خلال زاوية النظر هذه.
      ونحن نرى أن الإنسجام كان قوياً وشديداً في زمان الأئمة (ع) وكانت الأخوة هي الظاهرة البارزة، كان ذلك من أجل المحافظة على التيار الإسلامي حياً صافياً متدفقاً على مر التاريخ. ولو لم تكن العلاقة بهذا الشكل القوي فما الذي يقع؟
      سوف يفنى الإسلام والمسلمون ألف مرة وستذوب أفكارهم وتصادر، كما حصل ذلك لبعض الفرق الأخرى حيث فقدوا صبغتهم وذابوا وانتهوا.. على كل حال هذا بعد من أبعاد الولاية.
      ونتعرض الآن للبعد الآخر الذي يتلو سابقه في الأهمية وهو بعد ولاية ولي الله؛ فقد عرفنا معنى ولاية الشيعة، فما الذي نريده بولاية ولي الله؟ ولاية علي بن أبي طالب ماذا تعني؟ ماذا نعني بولاية الإمام الصادق(ع)؟ ويجب علينا جميعاً أن نوالي الأئمة (ع)، فما نعني بهذه الولاية؟
      هناك من يتخيل أن ولاية الأئمة لا تعني أكثر من محبتهم والانشداد القلبي بهم، وهذا وهم كبير؛ فليست الولاية محبة فقط، وهل يوجد في العالم الإسلامي من لا يحب الأئمة المعصومين وأهل بيت النبي وذوي قرباه؟! فهل الكل موالون؟! وهل هناك من ينصب العداء للأئمة وأهل البيت؟ وهل كان كل أولئك الذين قاتلوا الأئمة يعادونهم؟ كان الكثير منهم يحب الأئمة ولكن حب الدنيا جعلهم يقاتلونهم، وكان الكثير منهم يعرف مقام الأئمة وسمو مكانتهم وفضائلهم.
      فعندما بلغ المنصور خبر وفاة الإمام الصادق(ع) أخذ يبكي. هل تتصورون أن المنصور كان يتظاهر بالبكاء؟ أمام من يتظاهر؟ أمام أتباعه والسائرين في ركابه؟ أمام ربيع الحاجب؟ كلا، لم يكن بكاؤه تظاهراً، وإنما كان محترق القلب ومتحسراً لوفاة الإمام الصادق. لكن من هو قاتله؟ المنصور هو الذي أمر بدس السم للإمام.. وعندما بلغه خبر التنفيذ تألم وتحسر وتحطم قلبه، فهل يكون المنصور من أهل الولاية للإمام الصادق لأنه تألم لوفاته؟ وقد انتهى هذا الفهم للولاية إلى نتيجة خاطئة شأن المأمون حيث تصور الكثير من أن المأمون كان شيعياً، فمن هو الشيعي في منطق هؤلاء؟ هل أن الشيعي هو من يعرف أن الحق مع الإمام الرضا (ع) ويكفيه هذا؟! على ضوء هذا الفهم ليس المأمون فقط شيعياً بل أبوه هارون الرشيد شيعي أيضاً، وكذلك المنصور ومعاوية ويزيد، بل هم من ألصق الناس بالشيعة حينئذ.
      وأولئك الذين نازعوا علياً وخاصموه وحاربوه، هل كانوا يكرهون علياً؟ كلا، إن أغلبهم كان يحب علياً، فهل نجعلهم شيعة لعلي ومن أهل ولايته وولائه؟ كلا، إن الولاية أسمى من هذا المعنى وأرحب..
      وحين نفهم حقيقة الولاية لعلي بن أبي طالب وللأئمة (ع)، نرجع إلى أنفسنا لنرى هل تنطوي جوانبها على هذا الولاء أم لا ؟
      وإذا لم نجد الولاء سألنا الله سبحانه أن يرزقنا الولاء للأئمة، وبذلنا الجهد في سبيل الحصول على هذا الولاء. وحين ننتهي إلى بيان المعنى الحقيقي للولاية سوف يتبين الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون في تفسيرهم للولاية، وقد اعتاد الشيعة في يوم (18 ذو الحجة) وهو عيد الغدير أن يتداولوا هذا الدعاء "الحمد للّه الذي جعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (ع)". وكثيراً ما قلت لأصدقائي وأحبتي لا تقولوا الحمد للّه الذي جعلنا فإني أخشى أن يكن هذا كذباً، ولكن قولوا اللهم اجعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (ع)، إن علينا أن نلاحظ هل أننا من المتمسكين بالولاية أم لا؟ وسنصل إلى دراسة هذه الناحية إنشاء الله.
      وهذا بعد آخر للولاية، وخلاصة ما قلته أن ولاية الأمة المسلمة وولاية تلك الجبهة السائرة والمجاهدة في سبيل الله تعني العلاقة المتفاعلة والمنسجمة والمتصلة بين أفراد هذه الأمة وهذه الجبهة، والتي تظهر في العلاقات القلبية المشتركة والمتلائمة وفي الاستقلالية الكاملة عن باقي الجبهات التي تحمل فكراً آخر وتسلك سلوكاً مضاداً وتعمل في سبيل إلغاء هذه الأمة ومصادرة وجودها.
      وآيات سورة الممتحنة شاهد صدق على هذه الحقيقة، وأنا أتصور أنها إنما سميت بهذا الاسم لتناسب هذا المعنى، ولعلها إنما سميت باسم الولاية من أجل ذلك.
      {بسم الله الرحمن الرحيم* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} الآية تنهى المؤمنين عن اتخاذ غيرهم أولياء وأحبة وأعضاء في مجتمع المؤمنين، وليس الأمر كما ترجمه بعضهم إلى الفارسية بمعنى المحبة فقط؛ فإن هذا ليس هو المعنى الكامل لكلمة الأولياء، وليست المسألة مقتصرة على المودة والمحبة بل هي أرفع من ذلك وأعمق؛ فالآية تريد أن تقول لا تعتبروا أولئك منكم ولا تحسبوهم من جبهتكم وصفكم وأعضاء من مجتمعكم وأمتكم، ولا تجعلوا أنفسكم منهم ومن جبهتهم حتى على مستوى الافتراض الذهني والتقدير والتصور فضلاً عن الاعتقاد والجزم، لا تجعلوا عدو الله وعَدوّكم إلى جنبكم ومعكم، بل كونوا صفاً يقابله، وقفوا في وجهه وعارضوه. {تلقون إليهم بالمودة} لا تعتبروهم من جبهتكم ومن صفكم حتى تعلنون لهم عن مودتكم لهم، {وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} فإن كنتم صادقي الإيمان والجهاد فما لكم من حق في اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء واعتبارهم من صفكم وأمتكم.
      والآيات اللاحقة تشير إلى الكفار الذين يعنيهم الله سبحانه لأنها تذكر أقسام الكفار {تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيلي}.
      ولابد أن نذكر أن سبب نزول هذه الآيات هو ما فعله حاطب بن أبي بلتعة، حيث كان رجلاً ضعيف الإيمان، وعندما عزم الرسول على الخروج لمقاتلة كفار قريش وجهادهم أخذ حاطب يحدث نفسه (لو لم ينتصر الرسول في هذا الخروج وهذه المعركة فسوف تلحق قريش الضرر بأقاربي الذين يسكنون بين ظهرانيهم). أراد حاطب وهو من جند الرسول أن يحتال لإنقاذ أقاربه، فقال لنفسه نحن الآن قرب النبي ونجاهد معه وسيصيبنا أجر المجاهدين وثوابهم، فعليَّ أن أحتاط للأمر بكتابة رسالة إلى الكفار أعلمهم فيها عن مودتي ووفائي لهم ولا ضرر في ذلك، إذ عندما تتلاقى السيوف في ميدان القتال لن أعمل بمفاد هذه الرسالة، ولا مانع من أن اخدع الكفار برسالتي ما دامت الحرب لم تقم، وسأحصل على الدنيا وعلى ثواب الله(6). وسأكون مصداقاً لتلك القصة المعروفة التي تقول أنه تنازع عمدة البلد ومختارها مع أحد أكابر هذه البلدة، فسألا أحدهم مع من ترى الحق، ومن هو قائله؟ فقال: كل منهما يقول الحق، فكان مع الجبهتين على وفاق تام. كتب حاطب رسالة إلى رؤوس قريش حتى يطلعهم على علاقته الودية معهم وعلى صداقته الحميمة والرحيمة لهم، ودفع الرسالة لأمرأة لتوصلها إلى مكة، وأطلع الوحي الرسول على الحادثة، فأرسل خلف المرأة أمير المؤمنين وأرسل معه واحداً أو اثنين من المسلمين يقبضوا على المرأة، وجد عليٌّ المرأة وهددها، فأخرجت الرسالة من ضفيرتها. سأل النبي (ص) حاطباً: لم فعلت هذا؟ ولم كشفت للعدو عن أسرارنا العسكرية والقتالية؟. قال: يا رسول الله إن لي رحماً وعشيرة في مكة، وخفت عليهم أذى قريش وتضييقهم، فأردت أن أجلب لينهم وعطفهم، فكتبت لهم هذه الرسالة. وتجيب الآية الكريمة: لا تخطئوا فإن هؤلاء لن يلينوا لكم، ولن تقترب قلوبهم معكم لأنهم يشكلون جبهة فكرية مضادة لكم، وهم يعلمون أن دينكم وإيمانكم سوف يستأصلهم ويلغي وجودهم، وقد وضعوا كل همهم للقضاء على دينكم وإيمانكم، فهيهات أن يكونوا معكم رحماء أو يكونوا لكم أصدقاء. تقول الآية {أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء} فيا حاطب بن أبي بلتعة، لا تتصورنَّ أن هؤلاء سيكونوا حافظين لك ولرحمك في غدٍ، لأنك أعنتهم اليوم. كلا، فإنك إن تقربت إليهم وتنازلت عن شيء بسيط، فإنهم ينتظرون تنازلاً أكبر، وسيتسلطون عليك أكثر ويمدون إليك يد العداوة والظلم {أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} سيضغطون عليكم أكثر، ويذلوكم، ويسلبوكم شخصيتكم وعزتكم وكرامتكم، ولن ينظروا إليكم نظرة احترام، فلا تحسبوا أنهم ينفعونكم، وودوا لو تكفرون. وحين يتسلطون عليكم سوف يسلبوكم تلك العلقة الباقية من الإيمان، فهل تحبون أن تكفروا؟ لا تتصوروا ولا تظنوا أن هؤلاء يتركونكم على دينكم بكل حرية وراحة أو يسمحوا لكم بالتنسك والعمل على ضوء رسالتكم ودينكم.
      بعد هذا يأتي دور البيان القاطع الذي يوجهه القرآن بشأن اقارب حاطب وكل من شاكلهم في التاريخ، فهو يقول: أنتم على استعداد وإهبة للتنازل عن دين الله ورسالته من أجل قومكم وأقاربكم وأرحامكم وأولادكم فتظهرون لأعداء الله محبتكم ومودتكم، فأي منفعة سوف تجنونها من أولادكم وأرحامكم؟! وكم سينفعكم أولئك الذين تسالمون قريش من أجلهم؟! هل سينجوكم من عذاب الله؟!
      وهذا حاطب الجاهل كان على وفاق مع قريش والكفار وأعداء الرسول من أجل أن لا يلحق بأرحامه ضرر منهم، كم هي منفعة هؤلاء الأولاد والأرحام حتى يتسبب الإنسان من أجلهم في سخط الله عليه؟ {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} {يوم القيامة يفصل بينكم}. نستطيع أن نقرأها منفصلة عما سبقها، ويكون معناها أن الله يفرق بينكم فلن ينفع أحدكم الآخر، ونستطيع أيضاً قرائتها بهذا الشكل {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة} ثم {يفصل بينكم} ويكون مفادها أن الله يفرق بينكم يوم القيامة.
      وهذه الفقرة من الآية الكريمة لها نظير في القرآن الكريم وهو قوله تعالى في سورة عبس {يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه}(7). فهذا الطفل الذي تتحمل كل غم وهم من أجل راحته سوف يفر منك، وكل فرد سوف يفر من سائر المخلوقات، فكل يفر من الآخر، إذ ليس لديه وقت يسأل فيه عن حالهم، {لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه} وليسمع منطق القرآن من يضحي بسعادة دنياه وآخرته من أجل راحة أولاده وسعادتهم ويتحمل من أجل ذلك أنواع البلاء والشقاء ويجعل آخرته وراءه ظهرياً، ليسمع آيات القرآن لعله يخشع ويلين {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير* قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه}. هذا المقطع من الآيات هو القمة في السياق القرآني، أيها المؤمنون انظروا ما فعله ابراهيم والذين معه فاجعلوهم لكم أسوة وتابعوهم في عملهم، فما الذي فعله أولئك؟ لقد قالوا لقومهم الضالين وللطاغوت وللآلهة المزيفة {نحن براء منكم} لقد كفرنا بكم، ونحن على جفوة معكم، ويفصل بيننا وبينكم العداء والبغض. نعم هناك طريق للوفاق معكم {حتى تؤمنوا بالله وحده} فإذا أعتنقتم أفكارنا فنحن معكم ولكم، فتعالوا إلى الإيمان بعقيدتنا. القرآن يأمر المسلمين أمراً صريحاً بالنهج على طريقة ابراهيم {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلاّ قول إبراهيم لأبيه}.
      كان هناك مورد مستثنى، إذ لم يقطع إبراهيم علاقته بكل الكافرين جميعاً؛ حيث قال لعمه {لأستغفرن لك ربي وما أملك لك من الله من شيء} فلا تتصورن انك ستدخل الجنة بشفاعة ابنك المطيع لله سبحانه. كلا، فأنا لا أستطيع أن أدخلك الجنة، ولكني سأتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه من أجل أن يغفر لك ذنوبك ويجعلك من المؤمنين {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وأغفر لنا، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}. هذا دعاء ابراهيم، ثم يقول القرآن الكريم {لقد كان فيهم لكم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} ومن يكون على وفاق مع أعدائه فسوف يفقد عزته، ويذل شخصيته، ويتنازل عن كرامته، ولن يضر الله شيئاً، ولتحفظوا ما قاله ابراهيم، ولتتذكرونه دائماً، فإنه والذين معه قالوا لأعدائهم الكفار والمنحرفين عن رسالتهم {إنا براء منكم} وبهذه الطريقة كان تعامل الإمام السجاد والذين اتبعوه مع المنحرفين في زمانهم؛ فقد ورد في كتاب بحار الأنوار قصة حواريّ الإمام السجاد، يحيى بن أم طويل، الذي دخل المدينة المنورة ووقف مواجهاً أهلها الذين يتظاهرون بأنهم أتباع آل محمد وأوليائهم؛ أولئك الذين عاش بين ظهرانيهم الإمام الحسن والحسين طول عشرين سنة، وما كانوا أتباعاً لبني أمية ولا من محبيهم، لكنهم كانوا هيابين جبناء خيمت عليهم ظلال الخوف من واقعة الطف وكربلاء، وكان نتيجة الرعب الذي أفشاه بنو أمية أن تخلفوا عن أهل البيت وتركوهم منفردين، وكانت عقيدتهم سليمة، مع ذلك وقف يحيى بن أم طويل يوجه هؤلاء وقرأ عليهم {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً} وهو نفس كلام إبراهيم والذين معه مع المشركين والمنحرفين والضالين. فالولاية هي الولاية كما تلاحظون، وإبراهيم كان على الولاية، وشيعة الإمام السجاد كانوا على الولاية، فهم على انسجام فيما بينهم، وهم على جفاء وبينونة مع عدوهم، ويخرج عن الولاية للإمام السجاد(ع) من دفعه الخوف أو الطمع إلى الانضواء في صفوف جبهة العدو.
      ولهذا يقول يحيى تلميذ الإمام السجاد(ع) لهذا وأمثاله (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً).
      ويحيى بن أم طويل تلميذ الإمام السجاد ومن أصحابه البررة المخلصين، وكان مصير هذا الرجل الصالح أن أخذه الحجاج وقطع يده اليمنى ثم اليسرى ثم قطع رجله اليمنى فاليسرى، ولما أراد أن يتكلم بالحق قطع لسانه حتى مات (رحمة الله عليه) وكان دمه سبباً لديمومة حياة التشيع، وقد بني بدمه وشهادته أسس التشيع الشامخة الرصينة بعد الإمام السجاد.  

      خلاصة المقالة الأولى
      الرؤية الإسلامية الجديدة التي بلغها الرسول عن ربه سبحانه وتعالى، تعطي للحياة معنى الجدية، فهي رؤية متميزة، لا تستطيع تحقيق أهدافها في بناء هذه الحياة جديدة ما لم تظهر بشكل عملي وفعلي متمثلة في فكر المؤمنين بها، وفي وجدانهم، وفي عملهم وسلوكهم. والمؤمنون هم المجموعة المنسجمة المتفاعلة من الناس. وهذه المجموعة تشكل جبهة قوية غير قابلة للنفوذ والاختراق من قبل الأعداء. ويلزم هذه الجماعة أن تتوحد وترص صفوفها وتملأ ثغراتها وتصمد في طريقها حتى لا تذوب في التيارات والمدارس الفكرية النظرية والعملية المعارضة، وهذا يستلزم بدوره الابتعاد عن كل ما يحدث الخلل والضعف والوهن في هذه المجموعة ويجعلها عرضة لتأثير الأفكار المعارضة، ويلزمها كذلك عند الضرورات قطع العلاقات العادية أو تحديدها مع أولئك المعارضين.
      ويطلق القرآن الكريم كلمة التولي والموالاة والولاية على هذا التوحد والانسجام والتراص في جبهة واحدة فكرية وعملية. وهذا التجمع المنسجم الموحد هو حجر الزاوية في المجتمع الإسلامي وهو الذي يشكل أسس بناء الأمة الإسلامية، ومن أجل أن تحفظ الأمة الإسلامية العظيمة وينشأ المجتمع الإسلامي الكبير لابد من حفظ الوحدة والانسجام ولابد من الحذر من نفوذ الأعداء واختراقهم لحصون هذه الأمة، وليس من سبيل لحفظ الوحدة غير سبيل الولاية والولاء، والأمور الدقيقة التي ترتبط بالولاية القرآنية والتي نشير إليها مستقبلاً إنشاء الله لابد من استنتاجها من آيات قرآنية متعددة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}.
      {وقد كفروا بما جاءكم من الحق} (فكيف تتخذونهم أولياء).
      {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (وقد اتخذوكم جبهة مضادة لهم).
      {إن كنتم خرجتهم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} (فعليكم مجانبة أولئك).
      {تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما اخفيتم وما أعلنتم}
      {ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل} (من يتخذ الكافرين أولياء)
      {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء}
      {ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء}
      {وودوا لو تكفرون}
      {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم}
      {يوم القيامة يفصل بينكم}
      {والله بما تعملون بصير}
      {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم}
      {وقد بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً}
      {حتى تؤمنوا بالله وحده}.
      سورة الممتحنة 1 ـ 5.
       
      أسئلة حول المقالة الأولى
      1 ـ ما هو نوع العلاقة بين الولاية والنبوة؟
      2 ـ على ماذا اعتمد الرسول في تربية الإنسان؟
      3 ـ المدرسة التربوية الإسلامية، ما هي ميزاتها؟
      4 ـ ماذا تعني الولاية حسب الفهم الابتدائي؟
      5 ـ ماذا تعني ولاية الشيعة فيما بينهم؟
      6 ـ ماذا تعني الولاية لولي الله؟
      7 ـ ما هي الأوامر المستفادة من سورة الممتحنة والموجهة للمؤمنين؟
      8 ـ كيف كان إبراهيم وأتباعه نموذجاً للمؤمنين، وكيف يظهر هذا الانموذج في حياة المؤمنين هذه الأيام؟
      9 ـ ماذا قال يحيى بن أم طويل في المسجد؟ ولمن نقول هذا الكلام هذه الأيام؟


         2 ـ أصول الكافي، باب دعائم الإسلام، الحديث الخامس.
         3 ـ ورد لفظ الصنع تعبيراً عن عملية تربية وإعداد الإنسان في القرآن الكريم في قوله تعالى {ولتصنع على عيني} سورة طه، 
         الآية: 39.
         4 ـ سورة النحل، الآية: 125.
         5 ـ نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
         6 ـ مثل فارسي سائر "هم خدا را داشت باشيم وهم خرما".
         7 ـ مورة عبس، الآيات: 34 ـ 37.

    • المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
    • المقالة الثالثة: جنة الولاية
    • المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
    • المقالة الخامسة: حول الولاية
    • المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
700 /