موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
    • مقدمة
    • المقالة الأولى: معنى الولاية
    • المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
    • المقالة الثالثة: جنة الولاية
      سهلة الطبع  ;  PDF

       

      المقالة الثالثة: جنة الولاية

      لابد من التعرض لأمرين عند بحث الولاية:
      1 ـ تعريف إجمالي بالفرد الموالي والمجتمع المتولي (ذو الولاية) والذي تسوده الولاية والتولي والولاء.
      2 ـ الدور والأثر المترتب على وجود الولاية في المجتمع.
      فالذي يظهر لنا من خلال التدبر في الآيات القرآنية، ومراجعة السيرة الجهادية لأهل البيت (ع) أن هناك أبعاد ومظاهر للولاية.
      أ: فمن هذه الأبعاد، أن المجتمع المسلم ليست له علاقة تبعية بالعناصر الغريبة على الإسلام (أي بغير المسلمين خارج دائرة المجتمع الإسلامي)، وأوضحنا أن عدم وجود العلاقة الخارجية والارتباط التبعي مسألة تختلف عن مسألة عدم وجود أي علاقة أو ارتباط بأي نحو من الأنحاء، ونحن لا نقول أن الإسلام والمسلمين يعيشون حالة الانزواء السياسي أو الاقتصادي وليس لهم أي ارتباط مع الأمم والبلدان والقوى العالمية غير المسلمة، بل أن ما ننفيه هو مسألة التبعية والذيلية والذوبان، وما نثبته هو الاستقلال والوقوف من غير اعتماد على الكفار.
      ب: ومن أبعاد الولاية ومظاهرها الانسجام الداخلي والارتباط المتفاعل القوي بين العناصر الإسلامية، أي وحدة الصف الإسلامي شعاراً ورايةً، كما ورد في الحديث {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرهم بالسهر والحمى}(16).
      وورد في حديث آخر: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
      إذن المسلمون في النصوص الإسلامية كالجسد الواحد والبناء الواحد المتداخل الأجزاء والمنسجم والمتراص، وهم كاليد الواحدة تقابل الأيادي الغريبة والأجنبية وتواجه العداءات الفكرية والعقائدية، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}(17).
      وهذا البعد يستفاد بشكل أجلى من قوله تعالى {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(18)، فلا ترى من هو أقوى منهم وأكثر ثباتاً وتحصيناً واستحكاماً عند المواجهة مع الأعداء، كما لا تجد من هو أكثر منهم تحفظاً وحذراً من نفوذ كل جسم غريب على الهيكل المسلم، ولكن انظر إليهم كرة أخرى داخل صفوفهم فلن تجد غير الرحمة والمودة والألفة والتعاطف، ولا تجد جبهات متشكلة ضد بعضها البعض، وتجد استحكاماً لا يخترق بين هذه الجبهات والهياكل التي تشكل الجسم الاجتماعي الكبير (أي المجتمع المسلم)، بل إنك ترى صورة تعاكس الصورة الأولى حيث يتأثر بعض المسلمين بالبعض الآخر، وكل يهدي أخاه نحو الخير والصلاح، وهم يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، وكلٌ يشجع الآخر ويؤكد عليه بالثبات في المسيرة الكادحة إلى الله في طريق الحق.. كما يوصيه بالصمود في وجه دوافع الشر والفساد، وكل يرعى الآخر ويحفظه حاضراً وغائباً. ولقد قدمت مثال أولئك المتسلقين للجبال، فهؤلاء يتسلقون من بين التعرجات الحادة، فإذا ما تزحلقت من تحت قدم أحدهم صخرة أو حجر أو حصاة فهي كافية لإسقاطه في واد عميق، والسبيل الذي يحفظ لهؤلاء المتسلقين سلامتهم أن يشدوا ظهر بعضهم بظهر البعض الآخر بوثاق محكم قوي حتى تحفظ حالة التجاذب فيما بينهم، وليأخذ كل منهم بيد الآخر، وبين الفينة والفينة ينادي بعضهم الآخر أن احذر ضياع الطريق، لا تتخلف عنا، هل أنت جائع؟ والمسلمون يلاحظون بشكل دقيق الضعيف منهم فكرياً أو مادياً أو بلحاظ معرفة الحق عند ذاك يسعون لهدايته جميعاً، والكل يسعى في سبيل أن يسير هذا الضعيف في الخط المستقيم، ويشكل هذا البعد من المسلمين عائلة تضم أفراداً منسجمين بشكل كامل.
      ج: والبعد الثالث من أبعاد الولاية وهو أهمها جميعاً؛ إذ يضمن بقاء الولاية ببعديها الأوليين، هو المركز القيادي المقتدر داخل المجتمع الإسلامي، لأن المجتمع المسلم بحكم الجسد الواحد، وأجزاء هذا الجسد متجانسة متماسكة متفاعلة متعاونة فيما بينها، وهو يد واحدة ورجل واحد بوجه المخاطر الخارجية والأجنحة الكافرة.
      وهذه الوحدة في المجتمع المسلم لا يمكن أن تحصل من غير أن تتمركز القوة في محور فاعل، وإذا قدر لكل وحدة اجتماعية أن تدار مستقلة عن الوحدات الاجتماعية الأخرى فسوف تتفرق أعضاء ذلك الجسد الواحد إلى أقطاب متعددة وقدرات غير متوحدة، ولن يسير المسلمون في درب واحد، وسيؤول أمرهم مآل وجود جهازين يديران الجملة العصبية للإنسان، جهاز يدير الطرف الأيمن والآخر يدير الطرف الأيسر، ففي هذه الحالة لن يحصل انسجام بين الطرفين إذا ما أُريد إنجاز عمل واحد.. فلو أراد الإنسان هذا أن يرفع شيئاً من الأرض سوف يجد أن يده اليمنى استعدت لرفعه بينما يجد اليسرى لا زالت منقبضة غير مستعدة للحركة والرفع بأي وجه، وسيختل وضع البدن مع وجود جهازين يديران سلسلة الأعصاب، ويتخذ الإنسان في هذه الحالة وضعاً مضحكاً مزرياً حين يريد إنجاز عمل أو مواجهة عدو، ولن يستطيع.
      وإذا أراد المجتمع الإسلامي أن يدفع عدوه في الوقت المناسب فعليه أن يحفظ مركز القدرة والقوة والقيادة فيه، والمواجهة الناجحة مع العدو يلزمها تكتيل وضم كل الأجنحة الاجتماعية ووضعها في خط واحد مواجهة لخط العدو، لتوجه ضربة محكمة قوية لعدوها، وهذا لا يحصل ما لم تندفع هذه الأجنحة بملئ اختيارها لهذا العمل وتلك المواجهة. وقد ذكر مولوي الشاعر الإيراني المشهور قصة تماثل في النتيجة حال الأجنحة الاجتماعية غير الموحدة.. فإنه ذكر أن ثلاثة ذهبوا إلى بستان عنب واستطاع عدو لهم أن يهلكهم جميعاً عن طريق الدسيسة.
      وقد تكرر وقوع مثل هذا في التاريخ العام للأمم وفي التاريخ الإسلامي أيضاً. وإذا ما أراد المجتمع المسلم أن يستفيد من طاقاته ويتجنب السلبيات والنقائص، فعليه تحكيم علاقاته الداخلية وتوحيد أعضاء المجتمع كما تتوحد أعضاء الجسد الواحد.. وتتعبأ لمواجهة الخطر الخارجي، والمجتمع الإسلامي يد واحدة مقابل أعدائه.
      خلاصة ما نريد ذكره هنا أن المجتمع الإسلامي من أجل تحقيق بعدي الولاية الأوليين عليه أن يملك مركزاً قيادياً واحداً قادراً وفعالاً، وتستلهم كل العناصر الفعالة والنشطة في هذا المجتمع من هذا المركز نشاطها الفكري والعملي وفعاليتها الحياتية وأساليب مواجهة أعدائها وطرق تقوية المحبة والولاء بين أفرادها. وهذا المركز الواقع في عمق المجتمع المسلم هو الذي يتولى إدارة تمام الأجنحة، وهو الذي يحدد لكل فرد عمله ومكانه المناسب، وهو الذي يرفع حالات النزاع والتعارض ويمنع من نشوء هذه الحالات، وهو الذي يسدد كل القوى للمسير نحو غاية واحد وفي مسار واحد. وهذا المركز يعيّنه الله سبحانه، فلابد أن يكون عالماً، واعياً، مأموناً، جامعاً لكل الكمالات التي يخلقها الإسلام، مظهراً قرآنياً حياً. وثقافتنا الإسلامية تطلق على هذا المركز اسم الولي. على هذا يلزم بعدي الولاية بعدٌ ثالث (هو بعد ولاية الولي)..
      والمسألة الأخرى التي نبحثها: هي هل أملك أنا أو أنت هذه الولاية؟ من الممكن أن نكون من أهل الولاية كأفراد، ولكن هل أن مجتمعنا يملك هذه الولاية؟ من الممكن أن يقع هذا التساؤل، هل هناك فرق بين ولاية الفرد وولاية المجتمع؟
      ولابد من الإجابة بالإثبات، فلو كان ثمة عضو سالم بنفسه فليست سلامة هذا العضو دليلاً على سلامة تمام البدن، هذا أولاً، وثانياً لن يحصل هذا العضو السليم على تمام حسنات وإيجابيات العضو السليم مع وجوده ضمن بدن غير سالم، ولابد أن نعرف ابتداءً كيف تكون محصلة الإنسان المتولي، لنعرف مدى كوننا من أهل الولاية، وإذا كنا من أهلها علينا أن نعرف مميزات المجتمع ذو الولاية، وما هي الشروط الموضوعية التي تؤهله ليكون مجتمعاً موالياً، وليس ثمة ما يمنع من وجود فرد موالٍ في مجتمع غير موال، ومن الطبيعي أن أنظر هنا إلى القضية في عالم الإمكان والثبوت لا في عالم الواقع والإثبات والتحقق، فإن المسألة بهذا اللحاظ في غاية التعقيد.
      وعلينا الآن أن نبحث هذه الحالة وهي ما إذا كان الفرد قد تولى وأصبح من أصحاب الولاية، فهل تنتهي مسئوليته؟
      هل يمكن أن يكون الفرد من أهل الولاية في مجتمع لا يملك هذه الولاية؟ وهل تكون ولاية الفرد كاملة حين لا يشعر بمسئولية تجاه مجتمعه؟ هذه مسائل يجب على كل المسلمين الرجل منهم والمرأة وخصوصاً الشباب أن يفكروا فيها، ومن المحتمل أن لا يتوفر لي الوقت الكافي لشرح هذه المسائل واحدة واحدة، لأن كل واحدة من هذه المسائل تحتاج في تفصيلها إلى ساعات من البحث والتحليل.
      ولهذا سوف أتحدث باختصار وأترك لكم مهمة تفصيل هذه المسائل، والآن أشير إلى المسائل الأربع المتقدمة.
      1 ـ كيف نعرف الفرد الموالي وما هي صفاته؟
      2 ـ ما هي المقومات التي تجعل المجتمع وهيئاته التي تعيش في مكان واحد من أهل الولاية؟ ومتى يفقد هذه الولاية؟ أي ما هي شروط المجتمع المتولي على ضوء المفهوم الإسلامي للولاية؟ وفي أي الشروط الموضوعية يفقد المجتمع هذه الولاية؟
      3 ـ هل تنتهي مسؤولية الإنسان عن لزوم خلق المجتمع الموالي عندما يتولى هو..؟
      4 ـ لو كان ثمة إنسان موال على المستوى الفردي وهو يعيش في كنف مجتمع غير موال وهو لا يشعر بأية مسؤولية تجاه هذا المجتمع، هل يضر عدم إحساسه بالمسؤولية بولايته؟ هل أن عدم شعوره بمسؤولية خلق المجتمع الموالي ينقص من ولايته على مستواها الفردي؟
      وأنا أطرح عليكم واحدة أو اثنتين من هذه المسائل، وعندما يكتمل البحث ستدركون عمق معنى الولاية وسموه وانسجامه مع مدركات العقل، وكيف لا تتضاد مدركات العقل مع معنى الولاية المفسر قرآنياً وسنة، ولنقارن هذا المعنى مع المعنى المضاد الذي يجعل الإنسان كسولاً قاعداً، يأنس بالراحة والخمول، ولا يأخذ الأمور مأخذ الجد، وسوف تستنتجون من هذه المقايسة أين تبدأ الفوارق واين تنتهي، ويتصور البعض أن التولي لا يعني أكثر من إبراز التعظيم والاحترام لأهل البيت عندما يُذكرون كأن نقول (عليهم السلام)، والمودة والحب القلبي لهم، وطبيعي أن حب أهل البيت فريضة إسلامية وواجب أكيد، ومن الواجبات أن يذكر أهل البيت بالإعظام والإجلال، كما أن إقامة مجالس الوعظ والتبليغ باسمهم أمر عظيم الفائدة، وفي ذلك دروس عالية يستلهمها الإنسان من سيرتهم وحياتهم في وجهها المبكي والمُسر، ومطلوب من المسلمين إقامة العزاء عليهم ومجالس السرور لهم والبكاء على مظالمهم ومصيباتهم، ولكن هذه الأمور ليست هي الولاية، فالولاية أعظم من هذه الأمور، ويكون قد قام بعمل صالح من شارك في مجلس سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وسالت دموعه حزناً على مقتله ومصابه، ولكن هذا ليس وحده دليل الولاية؛ إذ ليس كافياً لتحقق الولاية أن يبكي الإنسان. وعلينا جميعاً أن ندقق في معنى الولاية؟ ويتحتم ذلك على من أثرت على أذهانهم بعض الأيادي المغرضة منحرفة كانت أو عميلة حيث صورت لهم أن هناك من يخالف في مسألة الحزن والبكاء لمصائب سيد الشهداء، وها نحن نقول ليس هناك من يخالف في ذلك لأن البكاء على مصائب الحسين بإمكانه ضمن بعض الظروف الموضوعية أن ينقذ أمة بكاملها، وقد حدث ذلك للتوابين الذين ذهبوا إلى قبر الإمام الحسين بن علي (ع) وجلسوا يبكون عند قبره يوماً أو يومين أو أكثر، وكان نتيجة هذا النحيب وتلك الدموع والعبرات أن عقدوا بينهم ميثاقاً وعهداً على الذهاب إلى ميدان القتال والمواجهة المسلحة مع الظالمين حتى الشهادة. هذا هو البكاء على الإمام الحسين، وهل يخالف أحد في عطاء هذا البكاء وتأثيراته الفعالة؟! وليس هناك من يخالف في لزوم الإجلال والإعظام عندما يذكر الحسين بن أمير المؤمنين، وكل من يعرف الأئمة (ع) يجزم بلزوم ذكرهم بكل إكبار وإجلال لأن ميراث أهل البيت هو الشهادة، وأعز ذكرياتهم الفداء والتضحية في سبيل الله، وكل وجودهم خالص لله. على الإنسان أن يذكر أهل النبي بكل إكبار.
      وليس لهذا الأمر ارتباط بالتشيع ولا بما يناقض التشيع. فإن من المؤكد أن أوربا وأمريكا وكل الأقطار الكافرة حين تطلع على حياة علي بن أبي طالب وشخصيته، فسنجد مظاهر الإعجاب بشخصية علي وأعماله الكبيرة التي أنجزها في حياته بادية في أقوالهم وأفعالهم، وسيظهرون الاحترام والإجلال والتعظيم لعلي (ع) حين يذكر اسمه، بل سيذكرون اسمه باعتزاز وافتخار، وسيبقى اسم علي في ذاكرتهم محفوظاً مثاراً للفخر والاعتزاز.
      فليس الأمر إذن خاصاً بالشيعة، وهل تتصور بعد هذا أن الولاية لا تعني أكثر من هذا؟! نعم الإعظام والإكبار للأئمة من شعب الولاية وجانب مهم وخطير من جوانبها يسوق أهلها إلى الجنة، ولكنه ليس كل معنى الولاية وحقيقتها، وعلى هذا يكون حصر التولي بمسائل البكاء على الإمام الحسين (ع) والإعظام لاسمه أمر غير صحيح، ويكون طرحه وعرضه بهذا الشكل كاشفاً عن الجهل إذا لم يكن كاشفاً عن قصد وقلة معرفة إساءة إلى الفكر الإسلامي.
      والولاية عند الإنسان بمعنى الارتباط الفكري والسلوكي بالولي، ذلك الإرتباط الذي يشتد ويقوى يوماً بعد يوم. فعلى الإنسان أن يبحث عن الولي ويعرفه ليتبعه في الجانب الفكري والسلوكي والمعنوي الروحي، في المنهج والطريق، وعلى الإنسان أن يحكم الوشائج والعلائق بينه وبين وليه، ويتبعه ويتحرك خلفه، ويجعل جهده جهد وليه، وجهاده جهاده، ومحبته محبته، وعدائه عدائه، وجبهته جبهة وليه، وحزبه حزب وليه، وعندئذ يكون من أهل الولاية، وكيف نكون أولياء لعلي المتولي والموالي من يعرف وليه ويتبعه في أفكاره وسلوكياته، في مسيره ومنهجه، لكننا نحصر الولاية بالمحبة القلبية لعلي بن أبي طالب وبإجراء العبرات والدموع على المصائب التي واجهها وعملنا مباين لعمل علي، وفكرنا ومعرفتنا لا يلتقيان مع فكر علي ومعرفته، وقد نسجنا للولاية شكلاً اسطورياً في أذهاننا، وأسعدنا قلوبنا حين أوحينا إليها أننا من الموالين لعلي (ع) وسيصيبنا ما يصيب أولياء علي من الثواب الجزيل والعطاء المبارك. والله يعلم ويشهد أن هذا ظلم صريح وجفاء واضح لحق علي (ع)، وهو بُعد وهجران لمفاهيم الإسلام، لأن الولاية تؤول في النتيجة إلى الولاء للإسلام، والإمام الصادق (ع) يجعل الولاية هي العمل؛ إذ يؤكد (ع) أن من يعمل صالحاً فهو ولينا ومن يعمل غير صالح فهو عدونا.
      بهذا الشكل يشرح الإمام الصادق مفهوم الولاية، ولأن الولاء في ثقافة الإمام الصادق وفكره يختلف عن ذلك المفهوم الذي يحمله الجاهل أو المنحرف، وهو يحيا ويرتزق باسم الإمام الصادق، علينا أن نعمق فهمنا لمعنى الولاية والتولي وإلا سوف نخسر عمرنا الذي قضيناه بأمل الفوز بالجنة وسنشعر بالخسران عندما تبلغ أرواحنا الحلقوم.
      التولي والولاء الفردي هو الارتباط والتبعية المطلقة للولي، ولكن ما هي الولاية الاجتماعية؟ عندما يُعرف ولي المجتمع المسلم ثم يكون محوراً لحركة المجتمع وحياته، فهو الذي يوظف الطاقات والأنشطة والفعاليات الاجتماعية، وهو النهر الكبير الذي تتفرع عنه كل الينابيع والجداول، وهو النقطة التي تلتقي عندها كل الخيوط، وهو المصدر لكل الأوامر، وهو المشرف على تنفيذها، والكل يتطلع إليه؛ فهو الجهاز المحرك لكل فعاليات الحياة الاجتماعية، وهو القائد القريب على حركة المجتمع.
      كان ثمة أفراد من المسلمين يسيرون في خط الولاية كأفراد مثل أبي ذر والمقداد وسلمان وغيرهم، وحين استلم أمير المؤمنين الخلافة والحاكمية سار المجتمع منذ ذلك الحين في خط الولاية، وأصبح الأمر والنهي بيد الإمام، وفي ذلك الحين ارتبطت كل الخيوط بمركزها الطبيعي وأصبحت الأمور الاجتماعية تدار بإشراف الإمام (ع)، فهو الرافع لراية الحرب، وهو الذي يعطي الأمر بالهجوم، وهو الذي يوقع ويمضي قرار السلم. في مثل هذا الوضع الاجتماعي يكون المجتمع متولياً وموالياً، وفي وضع مخالف لهذا الوضع لا يكون المجتمع سائراً في خط الولاية، فإذا كان لنا مثل هذا المجتمع فعلينا أن نحمد الله ونشكره على هذه النعمة الكبيرة، وإلا فعلينا السعي الجاد لبناء هذا المجتمع وإنشائه.
      وليس ثمة نعمة تضاهي نعمة الولاية؛ فإذا أظلت رؤوسنا فللّه الشكر والحمد، وإن لم ينعم علينا بمثل هذه النعمة فعلينا أن نسير في طريق الحصول عليها في أنفسنا ومجتمعنا. علينا أن نحيا حياة علي (ع) وننهج نهجه ونسير في طريقه الذي سار فيه ونرتبط بعلي ولي الله، وهذا ما يحتاج إلى جهد وكدح ومجاهدة واهتمام على مستوى من يحرق دمه.
      لأن الأئمة الهداة (ع) كان كل همهم بعد استشهاد أمير المؤمنين هو السير على خط الولاية، وكانت كل جهودهم مركزة على هدف إحياء الولاية في المجتمع الإسلامي، وليغرسوا ذلك الغرس الذي نسميه الإنسان في مزرعة الولاية. وقد سقوا الولاية بالماء العذب الطهور حتى أينعت وتهدلت أغصانها خضراء باسقة وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.. هذا هو عمل الأئمة، وهكذا ينبغي أن يكون عملنا بلحاظ الولاية في المجتمع، ولنرَ ما نعمله حتى نمكن ولي المسلمين من إعمال قدرته وصلاحياته.
      وكما قلنا سابقاً فإن هناك طريقين لتعيين الولي، فتارة يعين باسمه وصفته علي، الحسن، الحسين، علي بن الحسين (عليهم السلام).
      وأخرى يعين ضمن صفات محددة كما قال (ع): (أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه)(19).
      بهذه الطريقة الوصفية يعين الولي، وهذا التعيين إلهي قطعاً، ولكنه يختلف عن الأول بلحاظ أن الأول تعيين اسمي خاص، وهذا تعيين وصفي عام، وعلى المسلمين تطبيق هذه الصفات على مصاديقها من العلماء، وسنجدها منطبقة على آية الله العظمى السيد البروجردي، وسيرجع الإنسان إلى طريقه المستقيم عندما يجعل همه تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع ضمن دائرة الولاية، وسوف يجد المنهاج والطرق الصالحة لإنجاز هذا العمل، وليس لنا كلام في هذه المناهج والطرق في البحث الحالي. والمجتمع الذي يسير في اتجاه الولاية كالميت الذي تحل فيه الروح والحياة. تصوروا ميتاً ليس فيه حياة، أن له مخ ودماغ وأعصاب ولكنه لا يعقل أو يفكر، وله عين لكنها لا ترى النور ولا تبصر، وله فم لا يتناول الطعام أو يبتلعه، وله معدة وكبد وجهاز هضمي لكنه لا يهضم الغذاء، وله شرايين وعروق فيها دم لكن الدم لا يجري ولا يتحرك، وله يد لكنها لا تستطيع دفع حشرة صغيرة عنها، وله قدم لا تنتقل من الحرور إلى الظل.
      لماذا أصبح بهذا الشكل؟ لأنه لا روح في بدنه، أما حين تدب فيه الحياة، فسوف يعمل المخ والأعصاب واليد والفم والمعدة، يستطيع عندئذ أن يفكر، ويمسك بالأشياء بيده، ويأكل بفمه، وتهضم معدته، ويعمل جهازه الهضمي عمله المعتاد، ويتحرك الدم في دورته العادية، ويوصل الطاقة إلى كل أجزاء الجسم، وسوف يشعر البدن بدفء الحياة والحركة، وعندئذ يعمل الإنسان ويتحرك ويواجه العدو وينشأ علاقات المودة، وسيتكامل تدريجياً. ضعوا هذه الصورة أمام نواظركم لتعرفوا أهمية الولاية في المجتمع. ضعوا المجتمع مكان الجسم الميت، ضعوا الولاية مكان الروح والنفس والحياة، فالمجتمع الذي لا يسير في خط الولاية ليس فاقداً للاستعدادات والطاقات الكامنة وإنما طاقاته ميتة ضائعة مهدورة، لا تنفع الإنسان فهي مشلولة بل ستكون ضارة له، فإن للمجتمع مخ يفكر ويحلل، لكنه يفكر في إيجاد الأجواء الفاسدة والقاتلة، وفي وسائل إفناء العالم والكون وشقاء البشرية وتثبيت قواعد الاستغلال والاستكبار والظلم، ولهذا المجتمع عين لكنها لا تبصر ما ينبغي أن يبصر، وترى ما ينبغي أن تغض عن مثله الأبصار، ولهذا المجتمع اذن لكنها لا تسمع مقولة الحق، وعلى الأعصاب أن تنقل هذه المقولة الحقة إلى المخ، لكن المخ لا يأمر الجوارح بالحركة وفق الحق، والجوارح والأعضاء لا تعمل العمل الموافق للحق، والأوضاع السائدة في هذا المجتمع لا تسمح للإنسان بالحركة المطابقة للحق. مثل هذا المجتمع لا يكون سائراً في خط الولاية، وفي هذا المجتمع الفاقد لنعمة الولاية لا تشتعل المصابيح ولا يزداد أو يشتد ضياؤها ونورها، والقطرات الباقية من الوقود في هذه المصابيح تشرف على النفاذ، ثم تجف هذه المصابيح، تلك المصابيح التي عبئها النبي (ص) بالوقود شارفت على الانطفاء وكادت أن تخبو، وقد خبت وانطفأت.
      في الأيام التي أعقبت وفاة الرسول كانت هناك شعلة ضئيلة الضياء تنير بعض الشيء، لأن النبي قد عبئها بالوقود، ولكن الوقود نفد بعد ذلك لأن يد الولاية لم تكن تشرف على هذه المشاعل والمصابيح، وامتلأت الأجواء بالدخان الأسود، وزكمت الأنوف بالرائحة الكريهة، وخبا النور شيئاً فشيئاً حتى جاء زمن عثمان الذي حولها إلى معاوية ورأيتم ما الذي حدث، لقد حدث كل ما أخبرت فاطمة الزهراء عن حدوثه عندما خاطبت نساء الأنصار والمهاجرين، فلم يتعقلن كلامها ولم يسمعنه. ولقد أخبرت الزهراء المسلمين منذ اليوم الأول بما سيحدث ولكنهم كانوا في غفلة، ولم يصلوا إلى مستوى فهم كلام الزهراء، ولقد حدث كل ما قالته، ذلك السيف الصارم البتار الذي يقطر بالدماء، والشفار والمدى التي تقتل الفضائل والكرامات والأصالة، وتلك الأيدي التي تخنق الإنسان والإنسانية. لقد أخبرت عن كل هذا ومنذ اللحظة الأولى فاطمة الزهراء، ولقد أخبر عن هذه الأمور قبل الزهراء أبوها الرسول (ص)، فهما يعرفان ويعلمان بهذه الأمور ولهذا أخبرا عنها. لكن المسلمين لم يفهموا وكانت آذانهم مثقلة لا تسمع، ولا زال صوت الزهراء يرن في المسامع والآذان، فلتسمع الآذان الحساسة المرهفة الواعية، والمجتمع ذو الولاية ينضج كل الطاقات والاستعدادات الإنسانية، ويربي كل ما وهبه الله سبحانه للبشر حتى يصلوا إلى كمالهم المنشود، وينمي غرس الإنسانية ويقويه. الولي هو الحاكم في هذا المجتمع وهو الذي يضع المجتمع في طريق الله وصراطه، وهو من الذاكرين لله في كل الأحوال، وهو المقسم للثروة والمال بالحق، وهو الذي يسعى إلى نشر الخير والصلاح وقلع جذور الفساد والظلم والجهل.
      {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}، فهم يقيمون الصلاة لأنها نموذج لذكر الله والتوجه الاجتماعي نحو الله، فهم يقيمون الصلاة ويسيرون إلى الله ووجهتهم مطابقة لما يريده سبحانه {وآتوا الزكاة} وهم يوزعون الثروة بنحو عادل ويدفعون الزكاة، ومصاديق الزكاة القرآنية واسعة وعديدة؛ إذ يشمل مصطلح الزكاة في القرآن كل أنواع الإنفاق والصدقات المالية. {آتوا الزكاة} يراد منها قطعاً إشاعة العدالة في التوزيع، وقد وردت روايات في الزكاة تفيد أن الزكاة إنما شرعت لحفظ التوازن المالي وتعديل الثروة.
      {وأمروا بالمعروف}، ينشرون الخير والعمل الصالح {ونهوا عن المنكر}، ونحن نتصور أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أن نأمر باجتناب عمل السيئات أو نأمر بإنجاز العمل الحسن، في حين أن الأمر اللفظي والكلامي مظهر وصورة من صور ومظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
      وقد قيل لأمير المؤمنين: لماذا تقاتل معاوية؟ فأجاب: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فاسمعوا جيداً وعوا. قالوا لعلي ما لك ولمعاوية، اذهب إلى الكوفة وليذهب إلى الشام. فقال علي (ع): إن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد نهض الإمام الحسين من المدينة قائلاً: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
      انظروا إلى سعة هذه الدائرة، ولاحظوا كم هي ضيقة في نظرنا. وعلى كل حال عندما تكون الولاية متمثلة في مجتمع ما فسوف يقيم ذلك المجتمع الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وستدب الحياة في بدن المجتمع الذي كان ميتاً.  
       
      خلاصة المقالة الثالثة
      تتمثل الولاية في حياة المجتمع عندما يتعين الولي ويكون من الناحية العملية مصدر استلهام لكل الأنشطة والفعاليات الحياتية الاجتماعية.
      وتتمثل الولاية في حياة الفرد عند معرفته لوليه وارتباطه به ارتباطاً فعالاً قابلاً للنماء والثبات والاستحكام، لأن الولي مظهر للولاية الإلهية وهو الذي يسعى جاهداً إلى توظيف كل الإمكانات والقابليات التي أودعها الله في الإنسان لكي يصل إلى كماله؛ فهو يسعى إلى توظيف هذه الإمكانات في نفع المجتمع ويحول دون توظيفها فيما يوقع الضرر بالناس، كما أنه يمنع من تبديد هذه الطاقات وإضعافها، لأن هذا يشكل خطراً من أعظم الأخطار. والولي والإمام يُؤمن العدل والأمن الفردي والاجتماعي لتنمو غرسة البشرية، كما أنه يهيأ الأرض الخصبة والمناخ المناسب والماء العذب لكي يشتد عود هذه النبتة الطيبة، وهو الذي يمنع من وقوع المظاهر المختلفة للظلم كالشرك والاعتداء على الغير وعلى النفس، ويسوق الكل نحو عبودية الله، ويربي العقل والمعرفة الإنسانية.
      وخلاصة برنامجه الأساسي دعوة الجميع إلى إقامة ذكر الله والعمل والابتكار والابداع، فهو يدعوهم إلى الصلاة وإقامة ذكر الله، والى تقسيم الثروة العادل وأداء الزكاة ونشر الخير والعمل الصالح والأمر بالمعروف وقلع جذور الشر والسوء والنقص بالنهي عن المنكر، وهذا ما يؤدي إلى تقريب البشرية نحو هدف خلقتها وغاية وجودها شيئاً فشيئاً.
      والتدبر في الآيات القرآنية يفتح أمامنا الآفاق الواسعة لجنة الولاية، وكذلك يتوضح لنا معنى ذلك الحديث النابض بالحياة (ليس أفضل من الولاية في الدين كله).
      {لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم}
      {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}
      {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}
      {لبئس ما كانوا يفعلون}
      {ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا}
      {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم}
      {وفي العذاب هم خالدون}
      {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل اليه ما اتخذوهم أولياء}
      {ولكن كثيراً منهم فاسقون}(20).
      {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء}
      {واتقوا الله ان كنتم مؤمنين}
      {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً}
      {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}
      {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون}
      {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغَضِب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل}(21).  
       
      أسئلة المقالة الثالثة
      1 ـ ما هي الولاية الفردية، وما هي مظاهرها؟
      2 ـ ما معنى الولاية في المجتمع، وما صفات المجتمع المتولي؟
      3 ـ كيف يكون سعي الإنسان للوصول إلى خط الولاية في حياته وفي حياة مجتمعه؟


         16 ـ نهج الفصاحة، ص 561 ، الحديث: 2712.
         17 ـ سورة المائدة، الآية: 545.
         18 ـ سورة الفتح، الآية: 29.
         19 ـ الوسائل، ج: 18، ص 95.
         20 ـ سورة المائدة، الآيات: 78 ـ 80.
         21 ـ سورة المائدة، الآيات: 57ـ60.

    • المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
    • المقالة الخامسة: حول الولاية
    • المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
700 /