موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
    • مقدمة
    • المقالة الأولى: معنى الولاية
    • المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
      سهلة الطبع  ;  PDF

       

      المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية

      الجماعة التي تشكل الأمة الإسلامية، تحكمها الشريعة الإلهية والقانون الرباني، وتنفذ كل ذلك بقوة تنفيذ إلهية، ويهيمن الفكر الإسلامي على كل وجودها. إذا أرادت هذه الجماعة الوصول إلى المعنى الواقعي للولاية كما أوضحها القرآن وكما تقدم عرضها في المقالة الأولى، فلابد من تأكيد جهتين:
      أ ـ الجهة الأولى: العلاقات الداخلية الحاكمة في المجتمع الإسلامي.
      الجهة الثانية: العلاقات الخارجية والروابط بين العالم الإسلامي وبين الأمم غير المسلمة. فيما يعود إلى العلاقات الداخلية نرى أنه لا مجال للفرقة والتشتت، والذي يسود داخل المجتمع الإسلامي هو الانسجام والتفاعل والعلاقات الصميمية، ذلك أن الولاية بمعناها القرآني تستلزم ذلك وتعني به. إذن أفراد المجتمع الإسلامي أخوة منسجمون، صفوفهم متحدة، لا يسمح لها بالتفرق والتشرذم، وإذا حدث قتال أو خصومة أو نزاع بين طائفتين أو فردين مسلمين فإن القرآن يأمر المسلمين جميعاً بأن يبذلوا كل جهودهم من أجل إيقاف النزاع ورفع التخاصم، وعليهم السعي للصلح بين المتنازعين والموائمة بينهما، وإذا أبت إحدى الطائفتين الصلح والسلام واختارته الأخرى، أو كان أحد الطرفين محقاً والآخر مبطلاً لا يخضع للحق فإن على المسلمين جميعاً في هذه الحالة أن يقوموا يداً واحدة بوجه المبطل ويوقفوه عند حده ويجلسوه في مكان {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. هذا الأمر الإلهي يحفظ الوحدة داخل صفوف المجتمع الإسلامي.
      وأما فيما يرجع إلى العلاقات والروابط الخارجية، فالأمة الإسلامية مسؤولة عن تنظيم هذه العلاقات بشكل لا يوقعها بأي حال من الأحوال تحت دائرة نفوذ الأمم الأخرى وسيطرتها فكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، والأمة المسلمة لا يسمح لها أن تنتهج نهجاً سياسياً غير النهج الإسلامي ولو بشكل جزئي ومحدود، فعليها المحافظة على استقلالها السياسي بصورة دقيقة وكاملة، وليس لهذه الأمة أن تدخل إلى جبهتها أي طرف لا يؤمن برسالتها. وتؤكد ذلك القصة المعروفة والتي وقعت أحداثها في زمن الإمام الباقر (ع) والتي يُذكر عادة في المصادر الشيعية يوم كان المسلمون يتعاملون بالنقد المسكوك في بلاد الروم، ولأمرٍ ما هددت السلطات الرومية جهاز الخلافة بقطع هذه النقود عن البلاد الإسلامية، فأرشد الإمام الباقر جهاز الخلافة إلى طريقة لحل هذه المشكلة وذلك بأن يستقل المسلمون بسك النقود لأنفسهم، وقد فعلوا ذلك وخرجوا من أزمة قاتلة.
      والذي يثير الدهشة في سيرة أئمة الهدى (ع) انهم طوال عمرهم الشريف المبارك لم تكن لهم أدنى علاقة ولو جزئية بالأجهزة الحاكمة. نعم هناك مورد أو موردين نستثنيهما وأحدهما القضية المتقدمة. وعلى هذا سوف يمنع ويطوق أي تأثير خارجي من قبل الأجنحة غير الإسلامية يستهدف النفوذ داخل حصون الأمة المسلمة، وليس للمجتمع أو الأمة المسلمة أن تشكل أي علاقة مع العالم غير الإسلامي إلا بالصورة التي تحفظ الرفعة والهيمنة للإسلام.
      ليس من صلاحيات الأمة المسلمة إنشاء علاقة أو إبرام اتفاقية استثمارية مع أمة غير إسلامية أو بلاد لا تدين بالإسلام، كما حدث ذلك في اتفاقية التنباكو، وكمباني رزي.
      وقد حدث نظير ذلك أيضاً في تاريخ الهند حيث سمح الحكام المغول للدول الأجنبية بالدخول إلى الهند لتنفيذ جملة من الاتفاقيات.. لا يجوز للمسلمين القيام بمثل هذا العمل وليس هذا من صلاحياتهم لأنها تنافي مبدأ هيمنة الإسلام والعالم الإسلامي على غير المسلمين، والعالم الإسلامي هو صاحب الولاية والحاكمية على غير المسلمين في البلاد الإسلامية، وما الذي حدث للهند الشرقية عندما دخلتها الدول الأجنبية على الجميع أن يعرف أن الاستعمار استطاع النفوذ داخل شبه القارة على سعتها بصورة دقيقة.
      نعم لا يسمح للأمة المسلمة إقامة مثل هذه العلاقات، وعليكم أن تعرفوا أنه ليس مقصودنا من ذلك أن تعيش الأمة المسلمة حالة الانزواء السياسي. ليست المسألة بهذا الشكل، إذ كيف يمكن أن لا يكون للعالم الإسلامي أي علاقة تجارية أو سياسية أو دبلوماسية مع العالم، بل أن للدولة الإسلامية علاقات ولكن هذه العلاقات لا تكون مقدمة لولاء الأمة الإسلامية لأولئك ولا تتسبب في إنشاء وإيجاد علاقة نفسية معهم، فليس وراء هذه الروابط والعلاقات والاتفاقيات التجارية والصناعية وغيرها أي اتصال حقيقي أو هوى بين المسلمين والكافرين حتى لا يفتح الطريق أمام النفوذ الاستعماري داخل البلاد الإسلامية. وعلى هذا فإن الولاية القرآنية ذات اتجاهين، اتجاه داخل المجتمع الإسلامي ووظيفته توحيد العناصر جميعاً ودفعها للسير في هدف واحد وجهة واحدة ومسيرة واحدة، واتجاه خارج المجتمع الإسلامي ووظيفته قطع كل العلاقات بين المجتمع المسلم وبين كل التيارات والسلطات غير المسلمة.
      وهنا يظهر مطلب دقيق سوف نتعرض له في حينه وهو أن هذه الولاية هي نفس الولاية التي عند الشيعة، فنحن الشيعة نعتبر الارتباط بالإمام أمراً مهماً وعظيماً، ونحن نمتثل أمر الإمام في كل شئون حياتنا الاجتماعية، وكيف نفهم ذلك من القرآن؟ نفهم ذلك من النصوص القرآنية التي تتحدث مع المسلمين عن الولاية.
      وإذا أراد المجتمع أو الأمة أن تلتزم بالولاء بمعناه القرآني، أي إذا أرادت أن تركز كل قواها الداخلية في جهة واحدة نحو هدف واحد وتقف بوجه كل القوى غير الإسلامية بعد تعبئة قواها الداخلية هي، تحتاج حينذاك إلى نقطة مركزية ومحور تكون له القدرة وبيده القرار، والمجتمع المسلم يحتاج إلى مركز تلتقي عنده كل القوى الداخلية وتنجذب إليه، والمسلمون جميعاً يستلهمون منه ويسمعون له ويستجيبون لأمره، وهو مطلع على تمام المصالح والمفاسد، ليكون حافظاً لرسالة الله ويمكنه بذلك توظيف كل الطاقات في مجالاتها المناسبة.
      من الضروري إذن وجود قيادة ورئاسة وقدرة متمركزة إجتماعياً تعرف ماذا ينتج هذا الفرد أو ذاك، وماذا يمكنهم أن يقدموا حتى يلزم الجميع بأداء ما نستطيع أدائه. ولنأخذ مثالاً يقرب لنا هذه الفكرة.. أنتم تعرفون معامل الحياكة اليدوية للسجاد، فهناك مجموعة تعمل، ولكن أعمالها مختلفة، فالصبي والكبير، والمرأة والرجل، كل منهم يضع خيطاً في النسيج الكبير، وكل يقدم عملاً ونشاطاً معيناً. لو لم تكن هذه الأعمال منسجمة مع بعضها فكيف تصنع السجادة الكاملة؟ هناك خطة وفكر وعين وقرار فوقي تجعل الأعمال منسجمة والخيوط متداخلة متناغمة تشكل صوراً جميلة. لابد إذن من تعيين نوع الخيوط المستعلمة وكيفية وصلها وأماكن قطعها. لو لم تكن هناك خطة وقرار فكيف نترقب صناعة فراش كامل؟ عندما يراقب الإنسان هذا العمل يصاب بالدهشة.
      فمن أين ظهرت هذه الوردة الجميلة في هذا الطرف؟ ثم كيف نبتت أختها وتوأمها في الحجم والشكل في الطرف الآخر؟ ومثل هاتين الوردتين ظهرت وردتان أخريتان في الجهة المقابلة للنسيج، وكل شيء منظم ومنسجم وفي مكانه الطبيعي.. كيف حدث هذا؟
      لأن هناك خطة مرسومة، ومشرف صارم.. وكذلك المجتمع إذا أراد أن يجمع طاقاته وقدراته لتصب في جهة واحدة من غير أن تضيع طاقة من هذه الطاقات، ومن أجل أن تكون الطاقات جميعاً قوة واحدة متراكمة كأنها ذراع واحد متحدية الصفوف والقدرات غير الإسلامية والمعادية، يحتاج مثل هذا المجتمع إلى قدرة مركزية وقلب واحد. نعم هناك شروط يجب أن تتوفر في هذه القدرة والقلب الواحد؛ فيجب أن يكون واعياً كفوءاً بدرجة عالية، وعالماً بدرجة كبيرة، شجاعاً لا يتراجع، مدبراً حكيماً، له نظرة بعيدة تختلف عما يراه الآخرون، لا يخشى في الله لومة لائم، يقدم نفسه في سبيل الله عند الحاجة. ماذا نسمي مثل هذا الإنسان؟
      نسميه (الإمام) أي القدوة والنموذج، والحاكم المعين بتعيين إلهي كما عين الله سبحانه إبراهيم {إني جاعلك للناس إماماً}(8). وعندما نقول أن تعيين الإمام والقائد من الله نريد بذلك الإشارة إلى صورتين في التعيين الإلهي:
      1 ـ أن يعين الله الإمام باسمه وعلاماته الخاصة به كما عين النبي أمير المؤمنين والحسن والحسين وسائر الأئمة (ع).
      2 ـ أن لا يعينه باسمه بل بصفاته وشروطه كما ورد في حديث الإمام المهدي (عج) (فأما من كان الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلدوه)(9)، فقد عين الإمام (ع) في هذه الرواية وغيرها صفات وشروط القائد والإمام ولم يذكر اسماً معيناً.. فكل شخص تنطبق عليه هذه الشروط يكون إماماً، وأريد بكلمة الإمام القدوة والمقدم والحاكم وصاحب الراية وحاملها، ذلك الذي يتبعه المسلمون أينما سار، يجب أن يعين هذا الإمام من الله ويجب أن يكون عادلاً مدبراً، ومتى ما أراد الكيان الإسلامي الكبير (الأمة الإسلامية) أن يكون حياً ناهضاً متحركاً قوياً يقظاً فعليه أن يحكم علاقته بقوة مع ذلك المركز والقلب المتحرك النابض بحرارة وقوة.
      وعلى هذا يتبين أن البعد الآخر للولاية هو الارتباط المستحكم بين كل مسلم من المسلمين وفي كل الأحوال مع قلب الأمة المسلمة، وهذا الارتباط فضلاً عن كونه ارتباطاً فكرياً هو ارتباط عيني، فالإمام هو القدوة وهو المُتبع في الأفكار والرؤى وهو المطاع في الجانب السلوكي والعملي، فولاية علي (ع) تعني على هذا أن يتبع الإنسان علياً بأفكاره، وكذلك في سلوكه وعمله، وتكون له علاقة قوية متينة مع علي (ع) لا تقبل الانفصال. هذا هو معنى الولاية، وعلى ضوئه يتيسر لنا فهم معنى الحديث القائل (ولاية على بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي). هذا كلام دقيق عميق مفاده أن المسلمين وأبناء القرآن إذا تابعوا علياً في الجانب الفكري والسلوكي فسوف يأمنوا من العذاب، وذلك الرجل الذي يجعل القرآن مستعصياً على الفهم كيف يدعي أنه من أولياء علي (ع) وأنه من المرتبطين به فكرياً مع أن علي (ع) في إحدى خطب نهج البلاغة(10) يقول (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى ونقصان من عمى). بهذا الشكل يحث علي (ع) الناس على دراسة القرآن، وبهذه الصورة يربطهم بالقرآن. فلو قال قائل أن القرآن عصي على الفهم، فهل يكون من أولياء علي بن أبي طالب. كلا، كان علي (ع) على أتم الأهبة والاستعداد للتضحية بتمام وجوده من أجل الله وفي سبيله، وهذا الذي لا يفهم القرآن ليس مستعداً للتنازل عن مثقال واحد من أمواله أو راحته أو شخصيته ومكانته الاجتماعية من أجل رسالة الله، فهل هذا من الموالين لعلي (ع)؟ وليُ علي (ع) ذلك الذي أحكم علاقته بعلي بشكل غير قابل للانفصال فكراً وسلوكاً. دققوا في معنى الولاية هذا تجدونه أدق المعاني وأعمقها وأحسنها، واستمعوا الآن لآيات من سورة المائدة.
      فقد بنيت هذه الآيات الجانب الاثباتي للولاية أي الجهة الداخلية وكذلك الجانب السلبي [الجهة الثانية] قطع العلاقات الخارجية، وتبين أيضاً البعد الثاني للولاية وهو الارتباط الفكري والسلوكي بالولي وهو قلب الأمة وحاكمها وإمامها.
      {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}.
      الأولياء جمع ولي وهو مشتق من الولاية، وهي الاتصال والعلاقة، فالولي من يتصل بآخر ويرتبط به ويتبعه.
      {بعضهم أولياء بعض} فلا تنخدعوا بانفصال معسكراتهم ظاهراً، فهم يتحدون لمواجهة أصالتكم ورسالتكم في جبهة واحدة وخندق واحد، ومن يتولهم منكم [التولي تفعّل من الولاية] يعني من اتخذهم أولياء ووضع قدمه في وادي ولايتهم وارتبط بهم فإنه منهم {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
      {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم} فهم لا يقتنعون باللحوق الطبيعي بهم بل يسارعون ولا يقتنعون بالاقتراب منهم بل يدخلون أعماق خندقهم وجبهتهم، وإذا سألتهم عن سبب ارتباطهم بهم وعن سبب عدم إظهار العناد لهم {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} ولننظر إلى كلمات الله التي تجيب:
      {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} وعند ذاك يأسفون على خطئهم ويقولون لو كنا نعلم أن المؤمنين ينتصرون بهذا الشكل لما كانت لنا مودة أعداء الله ودينه، ويقول الذين آمنوا بعد افتضاح أولئك {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم} كان هؤلاء يظنون بالناس الظن الحسن وينخدعون بالمظاهر.
      قالوا أهؤلاء هم أهل الظاهر الحسن والذين يقسمون الإيمان المغلظة أنهم معكم، وكلما كلمناهم قالوا أنا معكم وليس لنا معكم خلاف، فنحن نقول ما تقولون، أكان كل هذا كلاماً كاذباً؟ هؤلاء مرضى القلوب على رغم ظاهرهم المقبول، وقلوبهم منافقة وسوداء وغلف {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}(11).
      هذه الآيات إلى هذا المقطع تتحدث عن العلاقات والروابط الخارجية، ودققوا الآن في السياق التالي لهذه الآيات الراجع إلى العلاقات الداخلية {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} فإذا لم تتحملوا عبأ الرسالة ومسؤولية تبليغها كما تعهدتم بذلك حين آمنتم بالله، وإذا لم تصلوا بها إلى مكانها وألقيتموها من على ظهوركم، فلا تتصوروا أن هذه المسؤولية لن يتحملها غيركم، بل سيكون الفخر لغيركم في حملها.
      {يا أيها الذين آمنوا من يرتدُّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}.
      هل نحن من هؤلاء الذين يحبون الله، وهل أن كلماتنا التي يحبها الله دليل على حبنا لله.. يجيب القرآن الكريم {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
      {يحبهم ويحبونه} أي أنهم يسلمون لأمر الله كاملاً، والله يحبهم، وهذه المحبة ذات طرفين.
      {أذلة على المؤمنين} وهذه صفة أخرى من صفات هؤلاء، أذلة على المؤمنين، متواضعين خاضعين، وهذا دليل قوة الارتباط والعلاقة الحميمة بالمؤمنين، وليسوا ذوي غرور أو طالبي أجر أو مقام، إذا التقوا بالناس كانوا منهم ومعهم وفي طريقهم ومن أجلهم، لا يخرجون أنفسهم من بين الناس ولا يرقبون أمور المسلمين من غير اهتمام، وليس اهتمامهم بأمور المسلمين مؤقتاً أو جزئياً.
      {أعزة على الكافرين} لا ينفذ إليهم تأثير الأعداء، مرفوعي الرأس بالفكر الإسلامي الذي حصّنهم بحصن محكم غير قابل للنفوذ والاختراق، {يجاهدون في سبيل الله} من غير قيد أو شرط {ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}.
      والآية التي تتلو هذه الآيات تتحدث عن الارتباط والعلاقة بين أفراد المجتمع المسلم وبين قلب المجتمع أي الإمام، وعندما ندقق جيداً في الآيات يتضح أن جملة من المسائل التي يتصور أنها ليست قرآنية هي من صميم المضامين القرآنية ومن الأمور التي بينها القرآن بوضوح وجلاء، ذكر القرآن في ما تقدم من آيات الروابط الخارجية والروابط الداخلية.
      وهو يبين في السياق التالي مركز العلاقات الداخلية وقلبها، أي الإمام والقدوة والقائد {إنما وليكم الله} فهو القائم بأمركم وهو الذي ترجع إليه الأمة والمجتمع المسلم في كل الأنشطة والفعاليات، وهو ملهم الأمة، ولكن الله سبحانه لا يتجسم ولا يجلس بين الناس فيأمرهم وينهاهم، فمن هو الولي الآخر {ورسوله} ولا نزاع أو نقاش بين الرسول وبين ربه لأنه نبيه والمبعوث برسالته، وبما أن الرسول بشر ينطبق عليه قول الله في القرآن الكريم {إنك ميت وإنهم ميتون}(12) فهو لا يبقى إلى الأبد. فلا بد إذن من إيضاح تكليف المرحلة اللاحقة لوفاة الرسول، هل هناك ولي ثالث قال الله سبحانه في نفس الآية {والذين آمنوا} هذا هو الولي الثالث، ولكن هل يقوم بأعباء الولاية كل من آمن؟ هل أن ملاك الولاية بدرجة متناسبة مع الإيمان فقط من غير حاجة إلى صفة أو شرط آخر؟ من الواضح أن الإجابة الصحيحة هي النفي؛ لأن ثمة صفات وشروط تذكرها الآية {الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة وهم راكعون} هذه الصفات لم تجتمع إلا في علي (ع)، فالآية تشير إلى علي بن أبي طالب وتعينه ولياً، حيث أن (الواو) في قوله تعالى {وهم راكعون} حالية، فتكون الجملة حال لدفع الزكاة، فليس كل من دفع الزكاة فهو الولي، وإنما الولي هو من دفع الزكاة في حالة الركوع، ولو شكك في ذلك وقيل بأن الآية قد تريد تعيين كل مؤمن ولياً، فأنا أسأل هل ثمة أسوة ونموذج وقدوة يحمل كل مفاهيم الرسالة وروحها مثل علي بن أبي طالب بين المسلمين؟ ليس هناك غير علي، فهو وحده الإمام والانموذج المتكامل للجناح المؤمن المنسجم المتين، ولو فرض أن الآية غير ناظرة إلى علي بالخصوص، فهناك أدلة أخرى على ولايته ذكرها الشيعة مفصلاً في بحث الإمامة، ونحن عندما نبحث هذه المسألة ننظر إلى جانبها الإثباتي، فإنها قضية عقائدية. ولابد للشيعة أن تعرف نفسها وفكرها وترسخ إيمانها وتعمقه أقوى ما تستطيع، ونحن نعتقد أيضاً إلى جانب ذلك أن على الشيعة أن يتركوا معارضة إخوانهم السنة، لأن هناك عدو خارجي يتربص بالمسلمين الدوائر ولا يفصل بين شيعة أو سنة، فعندما تثبت الشيعة عقائدها لا تريد بذلك إلغاء عقيدة الآخرين أو الدخول في خلاف عقائدي معهم. علينا أن نعرف كيف نفهم عقائد الشيعة وأفكارها، لأن التشيع كما نرى ليس شيئاً غير الإسلام وليس الإسلام شيئاً غير التشيع.
      والذي ننتهي إليه ونستنبطه ونفهمه من القرآن فهماً صحيحاً ومنطقياً ومتوازناً هو التشيع، وعلى هذا فنحن نتحدث في مجال عقائدنا عن أصول الإسلام وأصول الرؤية الإسلامية الكونية، وليس لكم في هذا أدنى خلاف كما أقطع. إذن ما نبحثه في هذه العقائد هو جانبها المثبت حيث نعرض الإسلام كما نفهمه من خلال المدرسة الشيعية الإسلامية، وليس لنا كلام مع الآخرين الذين يمكن أن يفهموا الأمور بطريقة ثانية.
      ليس لنا معهم معارضة أو بحث، لأننا أخوة نمد إليهم دائماً يد المودة والمحبة، ولأن ثمة عدو مشترك خارج دار الإسلام يتربص بنا الدوائر، وليس لنا الحق في أن يضرب أحد رأس الآخر. هذه هي طريقتنا في البحث، والبحث إنما ينصب على التشيع لأصالته، ولأننا شيعة نعتقد أن الإسلام هو التشيع ولا نريد ببحثنا هذا إيقاع الخلاف بين الشيعة والسنة، ليس هدفنا هو هذا أبداً لأن هذا التضارع محرم في رأينا.
      {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}.
      لو أن المسلمين التزموا بالولاء والولاية، فما هي النتيجة وما هو أثر الأبعاد الثلاثة المتقدمة للولاية، وهي حفظ العلاقات الداخلية، قطع العلاقات والروابط مع الأجنحة والكيانات غير الإسلامية، حفظ الارتباط الدائم والعميق مع قلب الكيان الأساس وقلب الأمة المسلمة أي الإمام والقائد. الأثر هو ما تذكره الآية الكريمة {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}(13).
       
      خلاصة المقالة الثانية
      الجبهة الواحدة المتراصة والصف الواحد الذي يشد بعضه بعضاً هما في الحقيقة اللذان يشكلان المدينة الإسلامية الفاضلة، بعد أن يشكلا ذلك الكيان العظيم الموحد وهو الأمة المسلمة المؤلفة من مجموع المؤمنين بدين الله..
      وتظهر الولاية في مواضع الأمة الداخلية وفي مواضعها الخارجية؛ ففي الداخل يكون كل فرد وكل جناح في الأمة مسؤول عن تعبئة كل الطاقات والقوى بصورة دقيقة وحساسة حذرة، ثم توظيف هذه القوى في طريق ومسار واحد ونحو هدف واحد، كما أن كل فرد وجناح مسؤول بصورة مؤكدة عن رفع كل مقتضيات الفرقة والتشتت حتى لا تضيع الطاقات وتذهب هدراً. وفي الخارج يكون على الجميع أن يحذروا من إنشاء أي علاقة أو معاهدة أو مودة مع غير المسلمين حتى لا يتعرض العالم الإسلامي لخطر السقوط والذوبان وعدم الاستقلال. وواضح أن حفظ ورعاية هذين البعدين من الولاية (أي الاتصال الداخلي المحكم وعدم القابلية للنفوذ الأجنبي) يستلزم وجود قدرة مركزية ذات سلطة نافذة هي في الحقيقة مظهر لكل العناصر الإيجابية الحية والفعالة في الإسلام، وهذه النقطة المركزية هي الإمام والحاكم الشرعي، وتستلزم هذه الولاية ببعديها أيضاً وجود ارتباط قوي وعميق بين أفراد الأمة وبين الحاكم والإمام أي المحور الأساس لفعالية وأنشطة المجتمع.
      وهنا يتجلى بُعدٌ آخر من أبعاد الولاية وهو بعد ولاية (الإمام وقائد العالم الإسلامي).
      وفي الآيات التالية إشارات معبرة عن هذه الحقائق الدقيقة:
      {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}
      {بعضهم أولياء بعض}
      {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}
      {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}
      {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم}
      {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}
      {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين}
      {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}
      {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون الله لومة لائم}
      {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}
      {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}.
      {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}(14).
      {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(15).
       
      أسئلة المقالة الثانية
      1 ـ من أجل إقامة الولاية القرآنية، ما هي الجهات التي ينبغي أن تلاحظها الأمة المسلمة؟
      2 ـ كيف تنشأ وكيف تكون العلاقات مع الدول غير الإسلامية؟ وهل تؤدي المفاهيم الإسلامية حول الولاية إلى قطع العلاقات مع كل الدول؟
      3 ـ كيف نفهم الولاية في القرآن ونثبت أن الولاية التي نفهمها هي عينها ولاية القرآن؟
      4 ـ ما هي صفات وشروط الولي التي تستفيدها من الحديث المذكور في المحاضرة؟
      5 ـ إشرح بدقة كيفية ارتباط الولي بالمجتمع، وارتباط الأفراد بالولي.
      6 ـ اذكر الآيات 51 ـ 57 من سورة المائدة، واشرح الأبعاد الثلاثة للولاية على ضوء الآيات المباركة.


         8 ـ سورة البقرة، الآية: 124.
         9 ـ وسائل الشيعة، ج 18 ، ص 95
         10 ـ نهج البلاغة، الخطبة 175، نسخة فيض الإسلام.
         11 ـ سورة المائدة، الآيات: 51 ـ 53.
         12 ـ سورة الزمر، الآية: 30.
         13 ـ سورة المائدة ، الآية: 56.
         14 ـ سورة المائدة، الآيات: 51 ـ 57.
         15 ـ سورة آل عمران، الآيتان: 102ـ 103.

    • المقالة الثالثة: جنة الولاية
    • المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
    • المقالة الخامسة: حول الولاية
    • المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
700 /