موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
    • مقدمة
    • المقالة الأولى: معنى الولاية
    • المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
    • المقالة الثالثة: جنة الولاية
    • المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
    • المقالة الخامسة: حول الولاية
      سهلة الطبع  ;  PDF

       

      المقالة الخامسة: حول الولاية

      فهمنا لحد الآن إن على كل مسلم وكل من يدعي العبودية للّه أن يجعل وليّه وصاحب أمره واختياره في كل فعالياته ونشاطاته، في تمام شؤون حياته وعلى مدى عمره هو ذلك الولي الذي يعينه الله سبحانه، فهو طوع أمر القائد الذي ينصبه الله ويعينه، والخلاصة أن المحور والحاكم في جميع فعالياته الحياتية هو الله ومن يعينه الله خليفة عنه.
      وطبيعي أننا بحثنا عن مَن يعينهم الله سبحانه خلفاء عنه وأولياء على الناس وعن خصائصهم، وقلنا إن الأنبياء هم أول من يعينهم الله أولياء له على الناس ثم الأوصياء والأئمة، وقلنا إن الأولياء تارة يعينون بأسمائهم وأخرى بصفاتهم. هذه مطالب اتضحت فيما سبق.
      والمطلب الذي نتحدث عنه الآن يتضمن عدة مسائل:
      1 ـ حكم مَن يتخل عن قبول ولاية الله ويخضع لحاكمية غير الله.
      ـ ماذا يصطلح على مثل هذا العمل؟
      3 ـ ما هي النتيجة المترتبة على هذا العمل؟
      وهذه المسائل متفرعة عن الولاية ومن تبعاتها، وتكون من الأصول الإسلامية الثابتة بعد قبول أصل الولاية وإن كانت مسائل فرعية وجانبية حين يقع البحث عن أصل الولاية وقبل إثباته، فهي أصول بلحاظ ذاتها وإن كانت فروعاً قبل البحث عن أصل الولاية. والقرآن يصطلح على كل ولاية غير ولاية الله بالطاغوت؛ فهو يؤكد أن من لا يخضع لولاية الله وحاكميته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميته. فما هو الطاغوت؟
      الطاغوت مشتق من مادة الطغيان، والطغيان هو التعدي والخروج على الحدود الطبيعية والفطرية للإنسان؛ فلو أن الإنسان الذي خلق ليصل إلى كماله الممكن خرج على هذا الهدف فهو طاغوت، وعلى الناس أن يعيشوا وفقاً لرسالة الله ودينه، وهذا أمر طبيعي وفطري ومطابق لخلقه الناس. والطاغوت هو ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه، وعلى الإنسان أن يسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل أن يجعل وجوده مثمراً منتجاً، وكل دافع يتنافى مع جدية الإنسان وجهاده وكدحه ويدعوه إلى الكسل والتواني والخمول وطلب العافية فهو الطاغوت، وعلى الناس أن يخضعوا لشريعة الله ورسالته ومنهجه، وكل من يمنع الإنسان عن طاعة أمر الله ويدعوه إلى المعصية فهو طاغوت. إذن فليس الطاغوت اسماً خاصاً وليس صحيحاً ما يتخيله البعض من أن الطاغوت اسم لصنم معين، نعم يطلق على الصنم ويسمى الصنم به لكنه ليس صنماً معيناً. وقد يكون الإنسان نفسه صنماً وكذلك ثروته وحياته العاطلة المتراخية المترفة وكذلك أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كل ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضة أو النظام الاجتماعي أو القانون، فليس الطاغوت اسماً لشيء محدد خاص. والذي يستنبط من القرآن الكريم أن الطاغوت مقام فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبارين والرهبان، وهذا بحث غير بحثنا ولسنا بصدد الحديث عنه. وعلى هذا فكل من يخرج عن ولاية الله وحاكميته فلابد أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان. أما ما هو الطاغوت والشيطان وما هي النسبة بينهما؟
      لأن الشيطان هو الطاغوت والطاغوت هو الشيطان كما يقول القرآن {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}.
      ثم يقول {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}(33) مكر الشيطان وحيلته وتدبيره وخططه ضعيفة، وتلاحظون أن القرآن استعمل كلمة الشيطان مكان الطاغوت، والطاغوت بدل الشيطان. إذن فالشيطان كائن وعنصر خارج وجود الإنسان ويعمل على إغوائه وإغرائه على الوقوع في المعصية والظلم والفساد والانحطاط والذلة والتبعية والانحراف، ويدعوه إلى القيام بالأعمال الفاسدة والشريرة، وهناك شياطين من البشر ومن الجن، هناك شياطين بيننا من أقاربنا وأرحامنا، ومن الرجال والنساء، ومن مصاديق الشيطان إبليس الذي وقف مخالفاً لصفوة الله آدم (ع) حيث اعترض على أمر الله سبحانه بالسجود عند خلق آدم.
      وأنا وأنتم على مدى حياتنا وسني عمرنا نلعن إبليس الشيطان الأول المطرود من الجنة، في حين أنه ليس الشيطان منحصراً فيه، ويحتمل أن الشياطين لم تبتدأ بإبليس ولن تنتهي به أيضاً؛ فالشياطين في العالم كثيرة يلمسون ويحسون ويدعون، ويشد على أيديهم، كذلك يرون بالعين، وفي بعض الحالات يعاصرهم الإنسان ويعايشهم. وبنحو كلي تكون الولاية غير المرتبطة بالله ولاية الشيطان والطاغوت، والذي لا يعيش ضمن القانون والأمر الإلهي وتحت ولاية الولي الحقيقي عليه أن يعلم أنه سيحيا ضمن دائرة القانون الشيطاني والطاغوتي، ويمكن أن تسألوا عن المفسدة في حياة الإنسان ضمن دائرة ولاية الشيطان والطاغوت. هذا مطلب ضمن مطالب بينتها الآيات التي تقدمت.
      فالقرآن يوضح أن ولاية الشيطان حين تهيمن على الإنسان فسوف تتسلط على تمام الطاقات الحية والفعالة والخلاقة والمثمرة، وسوف يتسلط على كل وجود الإنسان الذي يحني رأسه للشيطان والطاغوت، فسوف يلف الشيطان عنقه ورقبته بحبل ولايته المحكم، ولن يجد الإنسان منه خلاصاً؛ فالشيطان يقبض بيده على كل القوى والابداعات والفعاليات الحية ومظاهر الوجود الإنساني المشرقة. وفي الوقت الذي يسيطر الشيطان على تمام الوجود الإنساني فسوف يقوده بيسر ومن غير مواجهة في الطريق الذي يريده، وسوف يقوده بكل وسيلة يريدها الشيطان حيث يشاء. ومعلوم أن الشيطان لا يهدي الإنسان نحو النور والمعرفة والراحة والرفاه، لأن هذه ليست من أهداف الشيطان، بل أن الهدف الأساسي عند الشيطان والطاغوت هي المصالح الضيقة، فهو يسعى إلى تحقيقها، ويدعو الإنسان إلى طريق مصالحه الشخصية. ولو تدبرتم في هذه الكلمات الدقيقة سوف ترون أن لكل جملة معنى ينطبق على الواقع التأريخي في مراحله المختلفة، فإذا خضع الإنسان لولاية الطاغوت فسوف يتسلط الطاغوت على تمام الطاقات والقوى والاستعدادات والإبداعات الإنسانية.
      ومع تسلط الشيطان على الإنسان لن يسعى لتحقيق منافعه وخيره وكماله، فإن الشيطان يسعى إلى تحقيق مصالحه هو، فإذا وقع الإنسان في طريقه فسوف يضحي به لتحقيق مصالحه ومنافعه ويجره إلى الضلالة والغواية، فالقدرة تكون بيده.
      فالآية التي سأتلوها عليكم من سورة النساء تستحق التأمل والدراسة والتدبر الدقيق {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}(34).
      وحين يدقق الإنسان في التاريخ يرى بوضوح تحقق هذا الكلام الإلهي، وهذه مسائل مهمة أهمية بالغة فهي ذات أبعاد اجتماعية خطيرة، ولم نبحث عن هذه المسائل من وجهة نظر القرآن بصورة تستحق الذكر وقليلاً ما طبقناها على تاريخنا الإسلامي، وكم هو جميل أن يقوم ذوو الاختصاص والعلاقة بالقرآن الكريم والمتمرسون بدراسته، والمختصون بالمسائل الاجتماعية والتاريخية وخصوصاً قصص القرآن بالتدقيق في هذه المسائل من وجهة نظر القرآن ومقارنتها بالواقع التاريخي.
      أريد أن أعرض عليكم صفحات من التاريخ لإيضاح معنى هذه الآية.. مدينة الكوفة من المدن المثيرة للعجب البالغ في تاريخ الإسلام وأنتم تحملون صور وخواطر مختلفة عن الكوفة، وما أقوله ليس فيه جديد، فأمير المؤمنين (ع) اختار الكوفة عاصمة لخلافته من بين أقطار ومدن الدولة الإسلامية الواسعة. وهذا من مميزات الكوفة، وقد اشترك أهل الكوفة في حروب أمير المؤمنين، فأكملوا حرب الجمل والنهروان.
      وقد اشتركت مجموعة من القبائل التي تعيش في أطراف الكوفة في معركة صفين، وهؤلاء الرجال من الكوفة وغيرهم أتموا تلك الحرب، وقد كان أمير المؤمنين (ع) يشكو منهم ويلومهم قائلاً (لماذا لا تأتون حين أدعوكم إلى الحرب؟). وكان كبار أهل الكوفة وأشرافهم هم الذين كتبوا للإمام الحسن كتاباً طالبين إليه المجيء حتى يمكنوه من أن يحكم مدينتهم لكنه لم يستجب، ونفس أكابرها كتبوا للإمام الحسين بن علي (ع) أنه ليس علينا إمام وحاكم وقائد والله قد أهلك ذلك الطاغية فأقدم علينا، وقد قالوا ذلك حقاً وصدقاً، فإن فيهم سليمان بن صرد وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وغيرهم، وأهل الكوفة أنفسهم وقفوا صفاً غير متوازن بوجه الإمام الحسين وارتكبوا تلك الفاجعة النكراء، وهم أنفسهم الذين قاموا بعد مدة قليلة من جريمتهم هذه بعمل مشرق وضاء نادر الحدوث في التاريخ الإسلامي؛ ذلك هو ثورة التوابين الذين خرجوا على الظالم طلباً للتوبة، ولأنهم لم يصلوا لنصرة الإمام الحسين في يوم عاشوراء. وقد بذرت في نفس هذه المدينة بذور أغلب الثورات ضد بني أمية وبني العباس وقد نمت تلك البذور، وانتصرت تلك الثورات، فكم قدموا من المضحين وكم قُتِل منهم، وكم قدموا من أعمال مثمرة كبيرة، ولكن من بين هؤلاء تبرز أحياناً أنواع من الضعف والكسل والخور والقصور الروحي والمعنوي، لماذا؟
      هل لهؤلاء قلبان وروحان ووجهان؟ وتاريخ الكوفة مهم جداً، وأنا أرى أن البحث في الكوفة والدراسة النفسية لتلك المدينة بحث مهم ونافع وعمل عظيم ذلك الذي ينجزه المتخصصون والمحققون وعلماء النفس والاجتماع، حين يدرسون تاريخ الكوفة وأوضاعها ويفكرون في ذلك، وعندئذ يوضحون ما يثير العجب من وجود مظاهر عظيمة ومضيئة للنفس الإنسانية، ومن وجود مظاهر هزيمة الوجدان والشرف وظهور حالات الضعف والتكاسل، لماذا حدث هذا؟
      الكوفة مدينة ولدت تحت ظل كلمات أمير المؤمنين الواضحة المتينة.
      وهل أن المحيط والبيئة هي التي تصنع الإنسان؟
      الرجال العظام والمتحمسون في تاريخ الشيعة هم من الكوفة وهم أكثر من شيعة المدينة المنورة، والسبب في ذلك هو التعليمات والدروس العظيمة التي غذاهم بها علي (ع) في السنوات المعدودة التي لبث بينهم فيها، وليس سهلاً أن يحكم فرد مثل علي بن أبي طالب في المدينة.
      صحيح أن حكومة علي (ع) في تلك السنوات الأربع كانت ضعيفة في العالم الإسلامي، لكنها كانت غير قاصرة أو ضعيفة في مدينة الكوفة، وكانت تظهر فيها ظواهر عظيمة فتحولت إلى مهد للتشيع وموطن للفضائل والأخلاق الشيعية، وليس ضرورياً في موطن الفضائل أن يكون كل أهل ذلك الموطن من أهل الفضيلة والأصالة والمثالية، ففي المجتمع الثائر المتحمس تبرز طبقة واحدة من الناس يحملون الحماس والثورة.
      ويحدث أحياناً أن يكون بين ملايين من البشر عشرات محدودة من الآلاف هم الذين يقومون بعمل بطولي، ولكن البطولة والثورة والشجاعة تسجل في حساب الملايين، وكذا مدينة الكوفة فإنه كان فيها مجموعة تستحق التقدير والإعجاب وليست الكوفة بدعاً من بقاع الأرض وأقطارها ليس فيها مجموعة صالحة، كلا.. فإن فيها مجموعة صالحة كما أن في أي بقعة من الأرض توجد مجموعة صالحة ثائرة، وليس أهل الكوفة أسوأ من غيرهم. كلا.. فأهل الكوفة مثل أهل مشهد وطهران وأصفهان والمدينة المنورة وكأهل أي مدينة أخرى.
      ولكن لأن هذه المجموعة المحدودة العدد التي تعيش في زاوية من العالم الإسلامي أعني الكوفة كانت مثار خوف الحكومات آنذاك، لهذا كانت الحكومات تعين عليهم أقسى الولاة والقادة وأحط الجواسيس والعيون والعملاء وأغلظ الجلادين، فأعملوا فيهم سياسة قاسية صارمة، أجروا بينهم إعلاماً مسموماً فاسداً، وضيقوا عليهم في المجال الاقتصادي حيث أخذوا الناس بسياسة التجويع، مما أدى بالناس بطريقة غير مقصودة أو متعمدة إلى القيام بالأعمال الفاسدة المنحطة.
      ولم تكن مثل هذه السياسة تجري في سائر المدن والعواصم الإسلامية الأخرى، لأن تلك المدن كانت تفقد مثل تلك المجموعة الشجاعة الثائرة لأمير المؤمنين، وكان هدف الحكومات من إجراء تلك السياسة هو تفويت الفرص المناسبة التي يمكن أن يستفيد منها أولئك الرساليون المجاهدون.
      ولهذا اتبعت الدولة سياسة إعلامية مسمومة، وأجرت سياستها الاقتصادية القاسية بالتجويع وقطع العطاء أو تقليله، وكذلك حكمت الناس بسياسة التخويف والرعب والضغط.
      وخلاصة الأمر أنهم استعملوا مع أهل الكوفة مختلف أساليب الضغط، ولم تكن المدن الأخرى في مثل هذا الوضع المفجع، وكانت الأعمال غير الصالحة تصدر من عامة أهالي الكوفة نتيجة هذه السياسة الظالمة والنادرة الحدوث، فليس منشأ الفساد عند أهل الكوفة هو المدينة التي يسكنونها، هذا عرض مختصر لتاريخ الكوفة، وفي رأيي أن من يطالع التاريخ ويحلله سوف يحصل على نتائج مثيرة.
      فالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كان يعلم أنه لا يصلح لأهل الكوفة الثائرين الأبطال سوى الحجاج بن يوسف الثقفي، ولهذا عينه حاكماً ووالياً على الكوفة وهو أقسى الجلاّدين وأشدهم غلظة وأكثرهم ارتباطاً وتبعية لبني أمية.
      دخل الحجاج الكوفة في منتصف الليل مع مجموعة من المسلحين ولم يعلم بدخولهم أحد من أهلها، والوالي السابق على الكوفة كان قد أُخرج أو عومل معاملة الطريد من قبل أهل الكوفة. دخل الحجاج مسجد الكوفة في منتصف الليلة نفسها، وكان المسجد يدوي بأصوات أهل العبادة والمتهجدين. أصدر الحجاج لغلمانه وجنوده أوامره وعين لهم أماكن استقرارهم، ومن غير أن يشعر به أحد توجه إلى المسجد ودخل بين صفوف الناس ثم استل نفسه من بينهم ليستقر على المنبر، ولأن مسجد الكوفة واسع جداً لم يشعر الناس بما يجري أول وهلة ولكنهم بدأوا يدركون تدريجياً ما الذي يحدث، شاهدوا رجلاً غريب المظهر والهيئة جالساً على المنبر من غير أن ينطق بكلمة، يلبس عمامة حمراء قد أنزل حنكها، وكان متلثماً لا يرى من وجهه إلا بريق عينه، وكانت له هيئة مدهشة. تصوروا رجلاً يحمل السيف ويلبس عباءة وعمامة حمراء يجلس على المنبر بهيئته هذه ومن غير أن يتكلم، في تلك اللحظة رفع رجل من المصلين رأسه لتقع عينه على هذا المنظر الغريب، سأل الذي إلى جنبه من هذا؟ والآخر يسأل الذي إلى صفه وبدأت تنتشر في أنحاء المسجد التساؤلات عن هوية هذا الرجل، وانتشر الغوغاء والضجيج أُثير انتباه الناس بهذا الشكل فتركز اهتمامهم حول المنبر، تصوروا جيداً ماذا يقول القرآن {نولّه ما تولى} من لا يخضع لحاكمية الله وولايته سوف يطوّق عنقه بما لا يستطيع الفكاك منه.
      فأنت أيها المصلي الجالس في المسجد، أنت مسلم وترى على منبر مسجدك رجلاً لا تعرفه، لماذا لا تتحرك نحوه وتسأله من أنت؟ لماذا لا تسعى إلى معرفة هذا الرجل ثم تعرفه للناس؟ وأنت أيها المصلي الثاني والثالث يوجه إليك نفس السؤال، فلو سأل كل هؤلاء نفس ذلك الرجل عن هويته ونادوا من أنت؟ فسوف يتغير الوضع، لكن هؤلاء ركنوا إلى الخور وفقدوا إرادتهم، وضعفت نفوسهم وانتظروا مقالة الحجاج فيهم.
      عندما رأى الحجاج أن كل العيون توجهت نحوه من غير أن يعرفوه، قال لهم: سأعرفكم من أنا، فنزع العمامة ولثامه ثم قال:
      أنا ابن جلاّ وطلاع الثنايا  متى أضع العمامة تعرفوني
      وكان هناك واحد أو اثنان من أهل الكوفة يعرفون الحجاج لأنه كان قد جاء إليها مرة في فترة سابقة، فقال من يعرفه هذا هو الحجاج، نعم إنه هو.. فضج المسجد بخبر دخول الحجاج وداخل الناس رعب شديد، ثم قال الحجاج: أنا الحجاج وصح فهمكم، وكان الخوف والرعب يخيم على الناس، ولم يقل أحدهم لنفسه الحجاج رجل وأنا رجل هو فوق المنبر وأنا تحته وكل ما عنده عندي، ولكن ضعف العزيمة كان سائداً بين الناس.
      قال الحجاج: يا أهل الكوفة إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها. عندما سمع الناس هذا التهديد الفارغ في حقيقته زاد رعبهم وهلعهم. وهل دخل الحجاج إلى الكوفة وهو يحمل قنبلة ذرية؟
      ولو كانت معه لما فجرها، لأنه لو فعل ذلك لما بقي أحد حتى يكون ولياً وحاكماً عليه، لابد من بقاء مجموعة لأنه لو قتل الجميع فسوف لن يكون حاكماً على أحد. وليس ثمة حاكمية على الباب والحائط والتراب والحجر.
      لم يفكر الناس بهذه الأمور بعد أن قال الحجاج: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، ثم أضاف: وأنا أحدد الآن أي رأس سوف يقطف، ونادى غلامه، فنهض وقال: له اقرأ كتاب أمير المؤمنين (عبد الملك بن مروان) لأهل الكوفة.
      فتح الغلام كتاب عبد الملك فقرأ مطلعه وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل الكوفة: يا أهل الكوفة، سلام عليكم.
      عندما قرأ الغلام هذا الكلام قاطعه الحجاج وقال له: اسكت، ثم التفت إلى الناس وقال: انكم تسيئون الأدب فأنتم لا تردون سلام أمير المؤمنين، ثم قال اكمل يا غلام.
      قرأ الغلام ثانية يا أهل الكوفة سلام عليكم. عندها ضجَّ الناس من أنحاء المسجد وبصوت عالٍ وعلى أمير المؤمنين السلام. ابتسم الحجاج راضياً وقال لنفسه انتهى الأمر، وكان ما قاله صحيحاً تماماً، فإن رد السلام على أمير المؤمنين والفاسقين يعني قبول ولاية الحجاج وحكومته. وبهذا الشكل انتهت مقاومة أهل الكوفة.
      {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى}.
      وحين أجبتم يا أهل الكوفة الحجاج وأردتموه فهو لكم وهو وليكم، والله سبحانه لا يخرج الحجاج عن ولايتكم بطريق إعجازي ليضع مكانه الإمام زين العابدين(ع). كلا، فالحجاج لكم وما دمتم تحبونه فكل حياتكم وفكركم وروحكم طوع أمره، هذه هي سنة الحياة والكون والتاريخ.
      بعد قراءة كتاب عبد الملك نزل الحجاج من المنبر ليتوجه إلى دار الإمارة، وكان جمع من أهل الكوفة قد ساندوا أحد الخارجين على الدولة ولعله محمد بن الأشعث، فأراد الحجاج أن يلعب لعبة جديدة، فقال لأهل الكوفة: يلزمكم الاحتياط فتأتونا جميعاً لتعترفوا بأنكم قد كفرتم ثم تؤمنوا من جديد وتتوبوا.. فاستجاب له الهمج الرعاع وبقي المخلصون من أهل الكوفة فإنهم لم يكونوا على استعداد للاستجابة، بقي بعضهم في بيته وشحذ بعضهم الآخر سيفه وبعضهم عمل غير هذا. ذهب الناس جماعات إلى دار الإمارة، ليشهدوا على أنفسهم بالخروج على دين الله والارتداد عن الإسلام، وبعد أن شهدوا بذلك تابوا قائلين: تبنا وندعو الله أن يقبل الأمير توبتنا لأننا نريد أن نكون على الإسلام.
      وكان هناك شيخ طاعن في السن قد تقدم نحو الحجاج، فبادره الحجاج لما شاهد عليه من سيماء الوقار والهيبة: كأنك شاك في كفرك. ومعنى هذا الكلام أن يرد على شكّه بقطع رأسه بالسيف، فقال له الشيخ: كلا، فأنا أكثر الجميع كفراً. هذا مقطع من التاريخ، التاريخ درس الحياة والرجل العاقل من يدرس التاريخ والحياة ليكون له عمران يقضي أحدهما مجرباً باحثاً، ويقضي آخر في تطبيق ما حصل عليه من خبرات وتجارب.
      وتجربة التاريخ وحوادثه هي عمرنا الأول. دققوا في التاريخ واستأنسوا به واحرصوا على أن تلتقطوا ما في أعماقه، ولا تكتفوا ما الذي يريد أن يقوله لنا التاريخ وما الذي تخبرنا به وتقوله لنا قصة الحجاج، وليس ضاراً أن أُضيف هنا أن الحجاج هذا قد قُتِل بأبشع صورة بيد هؤلاء الذين ارتكب كل تلك الجرائم والفجائع من أجلهم، وليس ضاراً أيضاً أن تعرفوا من أعان ظالماً سلّطه الله عليه. وهذه سنة أخرى..
      لاحظوا عظمة الدروس التي يقدمها لنا التاريخ، ولاحظوا أهمية مقولات التاريخ وسننه. سيروا مع التاريخ مع كمال التدقيق. سوف ترون أن الآية القرآنية يتضح معناها بكل يسر، وقد عرضت عليكم شيئاً من مقاطع التاريخ وعليكم مهمة الاتصال والارتباط بالتاريخ.. وارجع الآن إلى الآيات القرآنية {وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}.
      فأنت عندما تقرأ القرآن وتطلع على المفاهيم الإسلامية سوف تدخل في حمى الله سبحانه وتلوذ به من الشيطان الذي لا يريد أن تعرف القرآن وتفهمه، فاسع إلى أن لا تُسلب منك معرفة القرآن المستحكمة في قلبك لتفتح لك هذه المعرفة طريق الوعي والعمل، ومن أجل هذا استعذ من الشيطان الرجيم.
      {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}. فالشيطان الضال المضل لا يتسلط على المؤمن، فتوكل على الله واعتمد عليه، والشيطان لا يتسلط على من يخضع لولاية الله ويدخل في دائرة حاكمية {إنما سلطانه على الذين يتولونه} من يخضع لولاية الشيطان فهو وليه {إنما سلطانه على الذين يتولونه}، والآية تفيد حصر ولاية الشيطان في دائرة من يرتضي ولاية الشيطان ويخضع له، {والذين هم به مشركون}(35) وتقدم في آية من سورة النساء تلوناها {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى}.

      فيجعل الله من تولى الشيطان قائداً له وحاكماً عليه ووليّاً على أموره {ونصله جهنم وساءت مصيرا}(36).
      {إن الله لا يغفر أن يُشرك به} عليكم الرجوع إلى أبحاث التوحيد لتعرفوا معنى مصطلحي التوحيد والشرك وتحددوهما، فما الشرك وما التوحيد، وما هو الذنب الذي لا يتجاوز عنه الله ولا يغفره؟ إن الله لا يغفر أن يشرك به في الولاية، والمشرك الذي لا يغفر له هو من منطقة النفوذ الإلهي الرباني لغير الله واستقرت في روحه جراحات المعاصي والتخلف عن أمر الله ورسالته، وهذه الجراحات لن تلتئم، لا يغفر له والغفران يعني التئام الجراحات التي تسببها المعاصي والانحرافات، فإذا أشركت غير الله في الولاية فلن تذهب عنك آثار المعاصي وجراحاتها.
      {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ويغفر الله غير الشرك من المعاصي. وطبيعي أن هذه المغفرة تأتي بعد التوبة والتدارك، فالذي يتوجه إلى الله يتوجه الله إليه ويغفر له، ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً وابتعد عن الهداية.
      قد يضل الإنسان ولا يهتدي إلى الطريق في الصحراء ويبتعد مقدار كيلومتر واحد ولكن هذا الإنسان لو ضل الطريق عشرات الكيلومترات فلن يسهل عليه الرجوع ويحتاج إلى جهد كبير وتعب شاق وتيقظ بالغ ودليل قوي ليرجع إلى الطريق. وأولئك الذين أشركوا قطعوا مسافة شاسعة مبتعدين عن الهداية الربانية وعن طريق الله الوسطى المستقيمة.
      {فقد ضلّ ضلالاً بعيداً إن يدعون من دونه إلا أناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} المريد هو العاصي والغوي، وللمريد معنى آخر وهو غير المتخلق بالأخلاق الفاضلة. {لعنه الله} حيث أن الشيطان عاهد الله من أول الأمر على الطغيان والإضلال، ومن حيث الأساس والطبيعة والصفات لا تلتقي جبهة الشيطان مع الجبهة الإلهية.
      وهنا يبين القرآن طبيعة الشيطان وصفات الشيطان في العالم {وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً}(37). فتعهد الشيطان هنا بأن يضل طائفة من العباد عن الطريق المستقيم، فيستولي على عقولهم ويعمي أبصارهم وبصيرتهم ويخرجهم من دائرة ولاء الله ليدخلهم تحت ظل ولائه وقيادته، {ولأضلّنهم ولأمنّينهم} تأملوا هذه الكلمة فهي تشمل الأماني الطويلة والبعيدة وكل ما يبعد الإنسان عن المجاهدة والكدح في سبيل الله..
      الأماني والآمال أن يعيش الإنسان براحة وطمأنينة وسرور ورفاه، فأمانيه أن يزوج الولد الكبير والبنات، وتوسعة الدار الصغيرة ومحل تجارته، وأن يكون رئيساً ومديراً لذلك الجهاز أو تلك الجمعية أو الهيئة، أو الحصول على هذا المقدار من المال … فالآمال البعيدة والأماني الطويلة تطوق عنق الإنسان وتدور حوله كما يدور حجر الطاحونة، وإذا قلعت أضراس الأماني والآمال وأبعدتها عنك فسوف تعيش حراً، وتفكر بحرية وترى رؤية حرة من غير أن يفيدك أي قيد، فلهذا يقول الشيطان {ولأمنّينهم}، سوف أقيدهم بقيود الآمال البعيدة والطويلة {ولآمرنهم فليبتّكن آذان الأنعام}، يمكن أن يراد من الآية الإشارة إلى العادة الجاهلية بشق آذان الأنعام ويمكن أن يكون للآية معنى دقيق، ولم أدقق لمراجعة ما قيل حول الآية، والظاهر أن الآية تشير إلى ما يفعله أهل الجاهلية من شق أو قطع أذن الحيوان تحسباً للبركة والرزق والسلامة، وهذه سنة جاهلية وهي أنموذج ومصداق للأفكار والأطروحات الجاهلية وتلاحظون سخافة هذا العمل وتفاهته، وكل سنن الشيطان على هذه الشاكلة، {ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله} وفطرته حيث سأخرجهم من دائرة الولاء للّه لأدخلهم في دائرة الولاء لي، وسآمرهم بالخروج على فطرة الله والابتعاد عن نهجه وخطه الذي رسمه لعباده. وسأضع لهم قانوناً يخالف الفطرة وأرسم لهم طريقاً يخالف طبيعتهم ويوصلهم إلى نهاية غير النهاية المرسومة لهم.
      {ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله} هذا هو عهد الشيطان مع الله فهو عهد ولجاجة وعناد مع الله، وهذا هو خط كل الشياطين وأطروحتهم وبرنامجهم.. وكونوا على اطمئنان أن الناس لو أرادوا أن يعيشوا على ضوء الفطرة والخلقة الأصلية، فلن يهيمن عليهم الشيطان ولن يظهر في طريقهم، وإنما يبعد عن الفطرة من يتولاه ويخضع له، لأن هذا هو دور الشيطان وعمله وخطته وميثاقه، ولهذا يخاطبني ويخاطبكم الله سبحانه في نفس السياق القرآني المتقدم {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}(38).

      خلاصة المقالة الخامسة
      كل ولاية غير الولاية الإلهية هي ولاية الشيطان والطاغوت، والخضوع لولاية الشيطان توجب تسلط الشيطان على كل القوى الفعالة والخلافة التي أودعها الله في الإنسان وعندئذ يسيرها في طريق هواه، وقيادة الطاغوت وحاكميته وولايته لا تؤدي إلا إلى ضياع وهدر الطاقات الحية، حيث أن الطاغوت لا يرى إلا مصالحه الشخصية، وإنما يحرم البشر من نور المعرفة وأشعة الهدى الإلهي والحياة في ظل الدين الرباني، ويحبسون في الجهل والشهوة والغرور والطغيان لأنهم يخضعون لولاية الطاغوت.
      وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}(39). {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً * إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً * إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلّنهم ولأمنّينهم ولآمرنهم فليبتّكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً * مبيناً يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}(40).
      {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(41).

      أسئلة المقال الخامسة
      1 ـ ما هو محور البحث في هذه المقالة، وما هو البعد الذي تدور حوله هذه المقالة؟
      2 ـ كيف عرض القرآن ولاية غير الله، وبأي اسم سماها؟
      3 ـ ما هو الطاغوت، وماذا يعني، وما هو مقامه في العلاقة مع أشراف القوم والملأ والمترفين والأحبار والرهبان؟
      4 ـ ما هي العلاقة والنسبة بين الشيطان والطاغوت، وما هي مصاديق الاثنين؟
      5 ـ وضح المعنى اللغوي لقوله تعالى {نولّه ما تولى}، ثم أوضح المعنى الذي تريد الآية بيانه؟
      6 ـ على أي طائفة من الناس يتسلط الشيطان ويتولى؟
      7 ـ قارن بين آية 13 من سورة النساء وآية 98 من سورة النحل، واستخرج الإجابة الدقيقة عن السؤال السادس؟
      8 ـ بيّن القرآن الحوار بين الشيطان وبين الله سبحانه وتعالى وذكر القرآن تعهدات الشيطان، اذكر مثالاً تاريخياً لكل مورد؟


         33 ـ سورة الأنعام، الآيتان: 13-14. 
         34 ـ سورة النساء، الآية: 76.
         35 ـ سورة النساء، الآية: 115.
         36 ـ سورة النحل، الآية: 100.
         37 ـ سورة النساء، الآية: 105.
         38 ـ سورة النساء، الآيات: 116ـ 118.
         39 ـ سورة النحل، الآيتان: 99ـ100.
         40 ـ سورة النساء، الآيات: 115ـ120.
         41 ـ سورة البقرة، الآية: 257.
         42 ـ سورة المائدة، الآية: 55.
         43 ـ سورة القصص، الآية: 41.
         44 ـ سورة إبراهيم، الآية: 28.

    • المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
700 /