موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
    • قصة المحاضرة
    • نظرتان خاطئتان
    • النظرة الصحيحة
    • مراحل مسيرة الإمامة
    • موقف الإمام السجاد (عليه السلام)
    • حياة الإمام الباقر (عليه السلام)
      سهلة الطبع  ;  PDF

       

      حياة الإمام الباقر (عليه السلام)

        استمرار منطقي لحياة الإمام السجاد (عليه السلام)
      أصبح أتباع أهل البيت مجموعة متميزة ذات وجود مستقل، ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميك بسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش الأمويين، قد أصبح لها وجود منتشر وواضح في كثير من الأقطار الإسلامية خاصة في العراق والحجاز وخراسان، وأصبح لها «تنظيم» فكري وعملي. وولّت تلك الأيام التي قال الإمام السجاد (عليه السلام) عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيها على عشرين شخصاً. وأضحى الإمام الباقر (عليه السلام) يدخل مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلامي، يسألونه عن رأي الإسلام في مختلف شؤون الحياة. ويفد عليه أمثال طاووس اليماني وقتادة بن دعامة وأبو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علم الإمام أو ليحاجّوه في أمور مختلفة. وبرز شعراء يدافعون عن مدرسة أهل البيت، ويعبّرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكري والعاطفي لآل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وتناقلت الألسن هذه الروائع الأدبية وحفظتها الصدور.
        ومن جهة أخرى فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلاٍل هذه الفترة بنوع من الطمأنينة، وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبد الملك بن مروان (ت86 هــ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصر بالأمن والاطمئنان إلى أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كأسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّى إلى انشغالهم باللهو والملذات التي تصاحب الشعور بالاقتدار والجاه والجلال.
        مهما يكون الأمر حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة أهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الإمام وأتباعه في مأمن تقريباً من مطاردة الجهاز الحاكم.
        وكان من الطبيعي أن يقطع الإمام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف على طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة. وهذا ما يميّز حياة الإمام الباقر (عليه السلام).
        ويمكن تلخيص حياة الإمام الباقر (عليه السلام) خلال الأعوام التسعة عشر من إمامته (95ــ114هــ) بما يلي:
        إن أباه الإمام السجاد (عليه السلام) عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلّمه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم.. وتذكر أن فيه سلاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال له: «يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك. ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علماً». لعل هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد سلّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي).
        ومع بدء الإمام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، يتسع نطاق انتشار الدعوة، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدى مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعاً في أصقاع بعيدة عن مركز السلطة الأموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كما تحدثنا الروايات التاريخية.
        إن الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الإمام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذا الواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الانحراف.
        إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنو أمية، فغرقوا إلى الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتى أضحوا كحكّامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصيخون لنصيحة سمعاً «إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا».
        ومن جهة أخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسير تنحو منحى استرضاء الطاغوت الأموي وتلبية رغباته. ومن هنا فإن كل أبواب عودة الناس إلى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة أهل البيت بواجبها «وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا».
        اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت إلى تقريع أولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة إلى ايقاظ ضمائرهم أو ضمائر اتباعهم من عامة الناس.
        نرى الإمام يقول للكميت الشاعر مؤنباً:
        «امتدحت عبد الملك؟» قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ. فتبسم الإمام وأنشد الكميت بين يديه:
                        من لقلب متيم مستهام                غير ما صبوة ولا أحلام
        بهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الأموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.
        وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب لمقابلة الإمام، فيؤخذ بهيبة الإمام وشخصيته ووقاره ومعنويته وفكره، فيقول له: «يا بن رسول الله لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً».
        فقال له الإمام: «إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه».
        ومن الأبعاد الأخرى لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط بأهل البيت رسول الله وأتباعهم من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة، وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيهم وجهة ثورية حركية.
        عن المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر (عليه السلام) إذ جاءه رجل فقال له: كيف انتم؟ فقال الإمام الباقر:
        «أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل، كان يذبّح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ألا وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً على العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً على غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم: صدقتم. فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس لأنا ذرية محمد، وأهل بيته خاصة وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرها. فقال له الرجل: والله إني لأحبكم أهل البيت. قال: فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه لأسرع الينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم».
        فما إن بدت على الرجل علامات الهياج جرّاء استثارات الإمام حتى سارع الإمام إلى رسم الطريق أمامه. إنه طريق مفروش بالدماء والدموع، والإمام رائد على هذا الطريق يصيبه البلاء أولاً قبل أن يصيب شيعته.
        وفي دائرة أضيق نرى أن علاقة الإمام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الاتباع كالدماغ المفكر بين أعضاء الجسد الواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار.
        وتتوفر بأيدينا وثائق تبين هذه الارتباط متمثلاً بإعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الاتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم.
        منها وصية الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر الجعفي في أول لقاء بالإمام أن لا يقول لأحد انه من الكوفة، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة. وبذلك يعّلم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الإمام فيه قدرة على حفظ الأسرار، درس الكتمان.. وهذا التلميذ الكفوء أصبح بعد ذلك صاحب سرّ الإمام. ويبلغ به الأمر مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير:
        «كنت ملازماً لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنّا بالمدينة، دخل على أبي جعفر (عليه السلام) فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتى وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلما نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه، وإذا هو من محمد بن علي (الباقر) إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. قال: ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره، ثم امسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتى وافى الكوفة.
        يقول النعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاماً له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد منصور بن جمهور.. أميراً غير مأمور، وأبياتاً من نحو هذا، فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، الناس يقولون: جنّ جابر بن يزيد. فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك الي وإليه أن أنظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا، أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يعلب على القصب. فقال: الحمد الله الذي عافاني من قتله».
        هذا النموذجّ من نماذج الارتباط بين الإمام وخاصة أتباعه، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطنة الحاكمة من هؤلاء الاتباع، ويؤكّد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الإمام بأتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها.
        وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في الحياة الإمام الباقر (عليه السلام) وفي حياة الشيعة ليسجل فصلاً آخر في حياة الأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
        النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بها الإمام. وهذا يعود إلى عوامل كثيرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن على المجتمع مما يفرض عنصر التقية بيت اتباع الإمام الذين هم المطلعون الوحيدون على حياة الإمام السياسية.. ولكن ردود الفعل المتشددّة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذ جهاز حاكم مقتدر كجهاز عبد الملك بن مروان، الذي يعتبر أقوى حاكم أموي، ضد الإمام الباقر (عليه السلام) كل أسباب الشدّة والحدّة، فإن ذلك يدل دون شك على إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الإمام وأتباعه. لو كان الإمام منهمكاً فقط بنشاط علمي، لا ببناء فكري وتنظيمي، فإن الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الإمام، لأن ذلك يدفع بالإمام وبأتباعه إلى موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطنة.
        باختصار، موقف السلطنة المتشدّد من الإمام الباقر (عليه السلام) يمكن فهمه على أنه رد فعل لما كان يمارسه الإمام من عمل معارض للسلطة.
        من الأحداث الهامة في أواخر حياة الإمام الباقر (عليه السلام) استدعاء الإمام إلى الشام عاصمة الخلافة الأموية. فالخليفة الأموي أراد أن يستوثق من موقف الإمام تجاه الجهاز الحاكم فأمر باعتقاله وإرساله مخفوراً إلى الشام. (وفي بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضا جعفراً الصادق).
        يؤتى بالإمام إلى قصر الخليفة. وهشام أملى على حاشيته طريقة مواجهة الإمام لدى وروده. تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم على الإمام، وكان يستهدف في ذلك أمرين: أولهما إضعاف معنويات الإمام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه. والثاني: محاولة إدانة الإمام في مجلس يضم زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الإمامة)، ثم نقل هذه الإدانة عن طريق أبواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجل لنفسه انتصاراً على خصمه.
        يدخل الإمام مجلس الخليفة، وخلاف ما اعتاده الداخلون من السلام على الخليفة بإمرة المؤمنين، يتوجه إلى كل الحاضرين، ويشير إليهم جميعاً ويقول: السلام عليكم.. ودون أن ينتظر الأذن بالجلوس يأخذ مكانه في المجلس. وهذا الموقف من الإمام أضرم نار الحسد والحقد في قلب هشام.. وبدأ هشام على الفور يقول: يا محمد بن علي، لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم، وجعل يوبّخه.
        وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم والتوبيخ.. والإمام ساكت في كل هذه المدّة ومطرق بوقار ينتظر فرصة الإجابة.. وحين أفرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت على المجلس، نهض الإمام وتوجه إلى الحاضرين، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير إسلامية، واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال:
        «أيها الناس! أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة. يقول الله عزّ وجلّ: والعاقبة للمتقين».
        عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض على سامعها الإيمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوى الأمر بسجن الإمام.
        الإمام في سجنه واصل علمه التغييري فأثّر على من معه في السجن. بلغ الأمر هشاماً فكبُر عليه أن يرى حدوث مثل ذلك في عاصمته المحصّنة من التأثير العلوي. فأمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع (البريد) ويرسل إلى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام.
        مرت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهى خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا (مدين). وأغلق أهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر أبواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعاً. واشتد على أتباع الإمام الجوع والعطش. صعد الإمام على مرتفع يطل على المدينة ونادى بأعلى صوته:
        «يا أهل المدينة الظالم أهلها. يقول الله: {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ}».
        يقول الراوي: وكان بين أهل المدينة شيخ كبير فأتاهم فقال: يا قوم هذه والله دعوة شعيب (عليه السلام). والله لئن لم تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقوني وأطيعوني.. فإني لكم ناصح.
        استجاب أهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الى أبي جعفر وأصحابه الأسواق.
        وآخر فصل في هذه الرواية يبين ايضاً بطش الخليفة العباسي وتجبّره. فبعد أن فتح أهل المدينة أبوابها للإمام وصحبه، كُتب بجميع ذلك الى هشام. فكتب هشام الى عامله على مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة الله عليه وصلواته.
        ومع ذلك، يتجنب الإمام أي مواجهة حادة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم، فلا يعمد الى سيف، ولا يسمح للأيدي المترعة الى السلاح أن يشهره، ويوجهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان ايضاً لا يشهره اذا لم يتطلب عمله التغييري الأساسي الجذري ذلك. ولا يسمح لأخيه زيد، الذي بلغ من الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيما ثورة، أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام على التوجيه الثقافي والفكري.. وهو بناء أساس ايديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية.
        ولكن هذا الاسلوب لم يكن يمنع الإمام ــ كما أشرنا ــ من توضيح (حركة الإمامة) لأتباعه الخلّص. وإذكاء عمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً الى اثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق. والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد من السبل التي مارسها الإمام الباقر (عليه السلام) مع أتباعه. وهو يشير الى تقويم الإمام (عليه السلام) لمرحلة التي يعيشها من الحركة.
        يقول الحكم بن عيينة: بينا أنا مع أبي جعفر (عليه السلام) والبيت غاص بأهله اذ أقبل شيخ يتوكّأ على عنزة (عكازة) له حتى وقف على باب البيت، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم سكت. فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على الإمام وقال: يا بن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك. فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم، ووالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، ووالله ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحلُّ حلالكم وأحرّم حرامكم وانتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟ فقال الإمام: إليّ إليّ، حتى أقعده الى جنبه، ثم قال:
        «أيها الشيخ، إن أبي علي بن الحسين (عليه السلام) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي (عليه السلام): إن تمت ترد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين.. وإن تعش ترى ما يقرّ الله به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى». قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر. فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: الله أكبر يا أبا جعفر، إن انا متّ أرد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين وتقرُ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي واستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش أرى ما يقرّ الله به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتى لصق الأرض. وأقبل اهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها الى صدره، وقام فودّع وخرج، والإمام ينظر اليه ويقول: «من أحب أن ينظر الى رجل من أهل الجنة فلينظر الى هذا».
        مثل هذه التصريحات، تذكي الأمل في قلوب تعيش جوّ الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الإسلامي العادل.
        تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر (عليه السلام) تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاماً من التعليم الأيديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية، واذكاء روح العمل.. تسعة عشر عاماً من مسير شائك وعر يتطلب كثيراً من الجد والجهد. وحين أشرقت هذه الأعوام على الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب، تنفس أعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموّجه سوف يتخلصون من مصدر إثارة طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم. لكن الإمام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة، ووسيلة توعية مستمرة! لقد وجّه ولده الصادق (عليه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الإمام الباقر (عليه السلام) والاسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة. في الرواية عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا النوادب تندبني عشر سنين بمنى ايام منى».
        وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث حياة الإمام الباقر وغفلوا عما فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الإمام (800) درهم، وأوصى أن يخصص جزء منها لمن يندبه في منى.. وندب الإمام في منى له معنى كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة.
        واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل أرجاء العالم الإسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة في موسم الحج. فكل مناسك الحج يمر بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة، إلاّ في منى، حيث يبيت الليلتين او الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع. وندب الإمام في هذا المكان سيثير التساؤل عن شخصية هذا المتوفّى، من هو؟ فيحصلون الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه. إنه من أبناء رسول الله، وأستاذ الفقهاء والمجتهدين. ولماذا يندب في هذا المكان؟ لم يكن موته طبيعياً؟ من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكل خطراً على الجهاز الأموي؟ و.. وعشرات الأسئلة التي كانت تثار حين يندب الإمام في هذا المكان ثم يحصل السائلون على الاجابة.. وتنتشر الأخبار في أطراف البلاد وأكنافها بعد عودة الحجيج الى أوطانهم. وكان هناك في مواسم الحج من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمع المسلمين، وليبثّ روح التشيع من خلال أعظم قناة إعلامية آنذاك.
        هكذا عاش الإمام، وهكذا خطط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل الله ويوم يبعث حياً.
        توفى الإمام الباقر (عليه السلام) وهو في السابعة والخمسين من عمره، وعلى عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الأموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإن ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشيعة، أي الإمام الباقر، فأوعز هشام الى عملائه أن يدُسّوا السم للإمام، وحقق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.

    • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
    • معالم حياة الإمام الصادق (عليه السلام)
700 /