موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
    • قصة المحاضرة
    • نظرتان خاطئتان
    • النظرة الصحيحة
    • مراحل مسيرة الإمامة
    • موقف الإمام السجاد (عليه السلام)
    • حياة الإمام الباقر (عليه السلام)
    • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
    • معالم حياة الإمام الصادق (عليه السلام)
      • تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها
        سهلة الطبع  ;  PDF

         

         1ــ تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها

          هذا الموضوع يشكل أبرز خصائص دعوة أئمة أهل البيت، منذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله). كانت مسألة إثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) تشكّل طليعة الدعوة في كل أعصار الإمامة.. هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي (عليهما السلام)، ونشاهدها بعد ذلك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت، مثل زيد بن علي. ودعوة الإمام الصادق (عليه السلام) لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً.
          قبل أن نستعرض وثائق هذا الموضوع، يجب علينا أن نعرف أولاً مفهوم «الإمامة» في الفكر الإسلامي. وما معنى الدعوة إلى الإمامة؟
          كلمة «الإمامة» تعني في الأصل القيادة بمعناها المطلق، وفي الفكر الإسلامي تطلق غالباً على مصداقها الخاص، وهو القيادة في الشؤون الاجتماعية، الفكرية منها والسياسية.
          وأينما وردت في القرآن مشتقات لكلمة الإمامة (إمام، أئمة)، فيراد بها هذا المعنى الخاص لقيادة الأمة. ففي بعض المواضع يقصد بها القيادة الفكرية، وفي مواضع أخرى يراد بها القيادة السياسية، أو الاثنتين معاً.
          بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله) وظهور الانشقاق الفكري والسياسي بين المسلمين اتخذت كلمة الإمامة والإمام مكانة خاصة، لأن مسألة القيادة السياسية شكّلت المحور الأساس للاختلاف. والكلمة كان لها في البداية مدلولها السياسي أكثر من أي مدلول آخر، ثم انضمّت إليها بالتدريج معانٍ أخرى، حتى أصبحت مسألة «الإمامة» تشكّل في القرن الثاني أهم مسائل المدارس الكلامية ذات الاتجاهات الفكرية المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح آراءها بشأن شروط الإمام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الإسلامي، وهو معنى سياسي للإمامة.
          إن الإمامة في مدرسة أهل البيت ــ التي يرى أتباعها أنهم يمثلون أنقى تيار فكري إسلامي ــ لها المعنى نفسه، ونظرية هذه المدرسة بشأن الإمامة تتلخص فيما يلي:
          الإمام والزعيم السياسي في المجتمع الإسلامي يجب أن يكون منصوباً من الله، بإعلان من النبي. ويجب أن يكون قائداً فكرياً ومفسّراً للقرآن وعالماً بكل دقائق الدين ورموزه، ويجب أن يكون معصوماً مبرّأً من كل عيب خلقي وأخلاقي وسببي. ويجب أن يكون من سلالة طاهرة نقية و…
          وبذلك فإن الإمامة كانت في العرف الإسلامي خلال القرنين الأول والثاني تعني القيادة السياسية، وفي العرف الخاص بأتباع أهل البيت تعني، إضافة إلى القيادة السياسية، القيادة الفكرية والأخلاقية أيضاً.
          فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتعاً بخصائص هي ــ إضافة إلى قدرته على إدارة الأمور الاجتماعية ــ مقدرته على التوجيه والإرشاد والتعليم في الحقل الفكري والديني، والتزكية الخلقية. وإن لم تتوفر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يرقى إلى مستوى «الإمامة الحقة». وليس بكافٍ ــ في نظرهم ــ حسن الإدارة السياسية والاقتدار العسكري والفتوحات وأمثالها من الخصائص التي كانت معياراً كافياً لدى غيرهم.
          فمفهوم الإمامة لدى اتباع أهل البيت ــ إذن ــ يتجه إلى إعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعية والفردية. فالإمام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتية. ومن هنا كان «النبي» (صلّى الله عليه وآله) إماماً أيضاً، لأنه القائد الفكري السياسي للمجتمع الذي أقام دعائمه. وبعد النبي تحتاج الأمة إلى إمام يخلفه ويتحمل عبء مسؤولياته، (بما في ذلك المسؤولية السياسية). ويعتقد الشيعة أن النبي نصّ على خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم تنتقل الإمامة بعده إلى الأئمة المعصومين من ولده.
          ولابدّ من الإشارة إلى أن تداخل المهام الثلاث للإمامة: القيادة السياسية، والتعليم الديني، والتهذيب الأخلاقي والروحي في الإمامة الإسلامية ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثلاثة في المشروع الإسلامي للحياة البشرية. فقيادة الأمة يجب أن تشمل قيادتها في هذه الحقول الثلاثة أيضاً، وبسبب هذه السعة وهذه الشمولية في مفهوم الإمامة لدى الشيعة كان لابد أن يعيّن الإمام من قبل الله سبحانه.
          نستنتج مما سبق أن الإمامة ليست، كما يراها أصحاب النظرة السطحية، مفهوماً يقابل «الخلافة» و «الحكومة» أو منصباً منحصراً بالأمور المعنوية والروحية والفكرية، بل إنها في الفكر الشيعي «قيادة الأمة» في شؤون دنياها، وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعية والسياسية (رئيس الدولة). وأيضاً في شؤون التعليم والإرشاد والتوجيه المعنوي والروحي، وحلّ المشاكل الفكرية وتبيين الإيديولوجية الإسلامية. «قيادة فكرية».
          وهذه المسالة الواضحة أضحت ــ مع الأسف ــ غريبة على أذهان اكثر المعتقدين بالإمامة، ولذلك نرى من الضروري عرض بعض النماذج من مئات الوثائق القرآنية والحديثية في هذا المجال:
          في كتاب «الحجة» من «الكافي» حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الإمام ووصف الإمام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة.
          من ذلك ما ورد بشأن الإمامة بأنها: «هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليه السلام)، إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف».
          وحول الإمام أنه:
          «النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الردى، والسحاب الماطر، ومفزع العباد في الداهية، وأمين الله في حلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين».
          كل ما كان يمارسه النبي (صلّى الله عليه وآله) من مسؤوليات ومهام يتحملها علي (عليه السلام) والأئمة من ولده.
          وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) نرى تأكيداً على إطاعة «الأوصياء» وتوضّح الرواية أن الأوصياء هم أنفسهم الذين عبّر عنهم القرآن بأولي الأمر.
          مئات الروايات المتفرقة في الأبواب المختلفة تصرّح أن مفهوم الإمام والإمامة في الفكر الشيعي ما هو إلا القيادة وإدارة شؤون الأمة المسلمة، وأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم الأصحاب الحقيقيون للحكومة. وتدل جميعاً بما لا يقبل الشك على أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ادّعائهم الإمامة كانوا لا يقتصرون بالمطالبة على المستوى الفكري والمعنوي، بل كانوا يطالبون بالحكومة أيضاً. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل إنما هي دعوة لحركة سياسية عسكرية لاستلام السلطة.
          هذه الحقيقة ظلت خافية على الباحثين في العصور التالية، بينما كانت في فهم أصحاب الأئمة والمعاصرين لهم من أوضح الحقائق، حتى أن «الكميت» في إحدى قصائده الهاشميات يصف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم ساسة يقودون الناس بطريقة تختلف تماماً عن الطريقة التي يمارسها الحكام الظلمة الذين يعاملون الناس كالبهائم.
          نعود إلى الموضوع الأصلي وهو أن بيت القصيد في دعوة الإمام الصادق (عليه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كان يدور حول «الإمامة». ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية، أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ادّعاءه الإمامة. وكما سنوضح فيما بعد، أن الإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه، وأنه يعلن نفسه بأنه صاحب الحق الواقعي، وصاحب الولاية والإمامة. ومثل هذه التصّدي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهادية السابقة بنجاح. ولابدّ أن يكون الوعي السياسي والاجتماعي قد انتشر في قاعدة واسعة، وأن الاستعداد محسوس بالقوة في كل مكان، وأن الأرضية الإيديولوجية قد توفرت في عدد ملحوظ من الأفراد، وأن جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحق والعدل، وأن يكون القائد ــ أخيراً ــ قد اتخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة. وبدون هذه المقدمات فإن إعلان إمامة شخص معين وقيادته الحقة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.
          المسألة الأخرى، التي لابدّ من التركيز عليها في هذا المجال، أن الإمام ما كان يكتفي في بعض الموارد بإثبات إمامته وحسب، بل يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه أيضاً، أي إنه يطرح في الحقيقة سلسلة أئمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والانفصال.
          هذا الموقف يشير إلى ارتباط جهاد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتواصله من الأزمنة السابقة إلى عصر الإمام الصادق (عليه السلام). إن الإمام الصادق (عليه السلام) يقرر إمامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة على إمامة أسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلامية، وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم (عليه أفضل الصلاة والسلام). ولنعرض بعض نماذج دعوة الإمام:
          أروع رواية في هذا الباب عن «عمرو بن أبي المقدام»، وفيها تصوير لواقعة عجيبة.
          في يوم التاسع من ذي الحجة إذ اجتمع الحجاج في عرفة لأداء منسك الوقوف، وقد توافدوا على هذا الصعيد من كل فج عميق.. من أقصى خراسان حتى سواحل الأطلنطي.. والموقف حساس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلامي. انضمّ الإمام (عليه السلام) إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل إليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الإمام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عالياً ليبلغ أسماع الحاضرين ولينتقل إلى آذان العالمين وهو ينادي:
          «أيها الناس، إن رسول الله كان الإمام ثم كان علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم…» فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثني عشر صوتاً.
          ورواية أخرى عن «أبي الصباح الكناني» أن الإمام الصادق (عليه السلام) يصف نفسه وأئمة الشيعة بأن لهم «الأنفال» و«صفو المال»..
          عن أبي الصباح قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا الصباح، نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه».
          و «صفو المال» هو من الأموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستأثر به أحد دون آخر ويكون كرامة كاذبة لأحد من الناس، بل إنه يبقى لدى الحاكم الإسلامي يتصرف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين. وكان الحكام الظلمة يستأثرون بهذا المال ويجعلونه مختصاً بهم غصباً. والإمام يصرّح بأن «صفو المال» يجب أن يكون لهم، وهكذا الأنفال. وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكماً شرعياً للمسلمين مسؤولاً عن استثمار هذه الأموال وفق ما يراه تحقيقاً لمصلحة الأمة.
          وفي حديث آخر يذكر الإمام الصادق (عليه السلام) أسماء أسلافه من الأئمة (عليهم السلام) واحداً واحداً، ويشهد بإمامتهم ووجوب طاعتهم، وحين يصل إلى نفسه يسكت، والمخاطبون يعلمون جيداً أن ميراث العلم والحكم بعد الإمام الباقر (عليه السلام) وصل إلى الإمام الصادق. وبذلك يعلن الإمام (عليه السلام) حقه في قيادة الأمة باسلوب يجعله مرتبطاً بجدّه علي بن أبي طالب (عليه السلام).
          وفي أبواب كتاب الحجة من «الكافي» وكذلك في الجزء 47 من «بحار الأنوار» أحاديث كثيرة من هذا القبيل، تتحدث بصراحة أو بكناية عن ادّعاء الإمامة والدعوة إليها.
          ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية أمامنا شواهد عن شبكة منظمة لدعوة الإمام (عليه السلام) في جميع أرجاء العالم الإسلامي، والوثائق الكثيرة المتوفرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتمياً لا مراء فيه. وهذه الشواهد تبلغ من الكثرة والوثوق بحيث يمكن أن نستدل بها على موضوعنا استدلالاً قاطعاً، ولو لم يتوفر حديث صريح واحد في هذا المجال.
          نحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخية ثابتة:
          1ــ ثمة ارتباط منظم فكري ومالي بين الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم، وكانت الأموال تحمل من أطراف العالم إلى المدينة كذلك والأسئلة الدينية تتقاطر عليها.
          2ــ اتساع الرقعة الموالية لآل البيت (عليهم السلام) خاصة في البقاع الحساسة من العالم الإسلامي.
          3ــ تجمّع عدد غفير من المحدثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين حول الإمام (عليه السلام).
          فهل أن هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟
             ولابد أن نضيف أن هذه الظواهر حدثت في ظل سيطرة سياسية كانت جادةً كل الجد في إلغاء حتى اسم علي وآل علي (عليه السلام)، بل سبّ علي على المنابر، وتسليط أنواع البطش والارهاب على اتباعهم. فكيف أمكن في مثل هذا الجو خلق قاعدة شعبية عريضة موالية لآل البيت تطوي آلاف الأميال للوصول الى الحجاز والمدينة لتُتَلمذ على أئمة أهل البيت (عليه السلام) وتأخذ عنهم فكر الإسلام في الحياة الفردية والاجتماعية، وتتحدث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد، او بعبارة الروايات، تتحدث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!!
          فلو كان دعاة أهل البيت يقتصرون في حديثهم على علم الأئمة (عليهم السلام) وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الاتباع دائماً عن الثورة المسلحة؟
          ألا يدل كل ذلك على وجود شبكة منظمة للدعوة الى إمامة أهل البيت (عليه السلام) بالمعنى الكامل للإمامة، أي الفكرية والسياسية؟
          وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظمة في دعوة أهل البيت (عليه السلام)، ولماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئاً عنها؟
          والجواب ما أشرنا اليه مسبقاً، يكمن في التزام أصحاب الأئمة بالمبدأ الحركي الحكيم المسمّى بالتقية، الذي يحول دون نفوذ أي عنصر أجنبي في تنظيم الإمام. كما يكمن ايضاً في عدم استطاعة الحركة الجهادية الشيعية من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم.
          لو أن بني العباس لم يستولوا على السلطة لبقيت دون شك كل نشاطاتهم السرية وذكريات دعوتهم، مرّها وحلوها، حبيسة في الصدور، دون أن يعلم بها أحد ودون أن يسجلها التاريخ.
          ومع ذلك، ليست قليلة هي الروايات التي تصرح الى حدّ ما بوجود دعوة واسعة لإمامة أهل البيت (عليهم السلام). ونكتفي برواية تقول:
          قدم رجل من أهل الكوفة الى خراسان، فدعا الناس الى ولاية جعفر بن محمد (عليهما السلام)، ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت، وفرقة ورعت ووقفت.. ثم تقول الرواية: فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) فكان المتكلم منهم، الذي ورع ووقف. فقال: أصلحك الله، قدم علينا رجل من اهل الكوفة فدعا الناس الى طاعتك وولايتك، فأجاب قوم وأنكر قوم وورع قوم ووقفوا. قال الإمام (عليه السلام): فمن أي الثلاث أنت؟ قال: من الفرقة التي ورعت ووقفت. قال: فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا (وذكّره بسقوطه في موقف شهواني)، فارتاب الرجل.
          الداعية كما ترى من أهل الكوفة، ومنطقة الدعوة خراسان، واسم الرجل مكتوم، ودعوته الى إمامة جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) وولايته وطاعته.
          ثمة وثائق أخرى تبين محتوى دعوة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم الى الإمامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الأمويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور أحياناً بلغة الاستدلال الكلامي والديني، وأحياناً بلغة الأدب الرفيع المتمثل بالشعر. وكان كل الحِجاج يقوم على أساس اثبات حق الإمامة السياسية والحكم لأئمة اهل البيت (عليهم السلام)، ومقارعة المتربّعين ظلماً وغصباً على كرسي حكومة المسلمين. إن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ــ لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة ــ كان مفعماً بهذا اللون من الحِجاج.
          كان شعراء بني العباس يحاولون اثبات حق الحكم لبني العباس استناداً الى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون الى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والاجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية.
          وللحِجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض به الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير. يذكر صاحب كتاب «العباسيون الأوائل» دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول:
          «.. كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم الى هذه الفئة او تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو لدليل على صحة دعواه، مفنّداً آراء الخصوم بكلام مؤثر واسلوب بليغ».
          شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في اثبات حق العباسيين في الخلافة باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك بأن الارث لا ينقل الى أبناء البنت مع وجود الأعمام، فالخلافة بعد النبي من حق العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس: 
            قال مروان بن أبي حفصة:
          أنّى يكون وليس ذاك بكائــن         لبني البنــات وراثــة الأعمــام
           وقال ابان بن عبد الحميد اللاحقي:
          فأبنــاء عــباس همُ يرثونــه         كما العمُ لابن العم في الارث قد حجب
           منطلقين من عاطفة الشعور بالظلم للرد على هذه الأدلة، بالمنطق نفسه، وأحياناً بمنطق آخر للاستدلال على حق أئمة أهل البيت في الإمامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري:
                 من كنــت مولاه فهــذا لــه           مولى فلم يرضوا ولم يقنعــوا
          ويردّ محمد بن يحيى بن أبي مرّة التغلبي على استدلال الشاعر العباسي بشأن وراثة الاعمام فيقول:
          لِمَ لا يكون وإن ذاك لكــائــن           لبنــي البنات وراثة الاعمــام
           للبنت نصف كامل من مــــاله          والعــم متروك بغير سهــــام
          مــا للطليــق وللتراث وإنمــا          صلّى الطليق مخافة الصمصام
          ويرى دعبل أن كل ما حلّ بأهل البيت (عليهم السلام) من مصائب إنما هو لأنهم ورثوا النبي، فتكالب على الارث الطامعون، واضرّوا بمن له الحق في الإمامة:
          أضرّ بهــم ارث النبــي فأصــبحوا       تساهم فيهم خــيفة ومنــون
          دعتهم ذئــــاب من أمية وانتــحت        عليهم دراكاً ازمة وسنــون
          وعــاثت بنو العباس في الدين عيثة        تحكّم فيــها ظالــم وخؤون
          وسَمّوا رشيــداً ليــس فيــهم لرشده       وها ذاك مأمــون وذاك أمين
          فمــا قبلت بالرشد منهــم رعــــاية       ولا للولــي بالأمــانة ديــن
          وليس من العسير على الباحث في العصر العباسي الأول أن يجد مئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذا المجال. وكان شعراء الشيعة وخصومهم يقيمون الحجج على دعواهم. وليس من المهم أن نعرف في هذه المواجهة مقدار صحة هذه الحجج واستقامتها، ولكن من المهم أن نعرف المحور الذي يدور حوله النزاع، والحق الذي يدعيه الجانبان.
          هناك حق يدعيه كل جانب، وهذا الحق هو وراثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحكم وفي قيادة المسلمين.
          ليس النزاع بين الجانبين العلوي والعباسي في وراثة الخصال الأخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي (صلّى الله عليه وآله). ليس الخلاف في أحقية هذا او ذاك في وراثة هذه الخصال. لأن هذه الخصال لا تشكل حقاً يتنازع عليه الفريقان. النزاع حول «حق» يدّعيه الجانبان. وقد رأينا أن الشعراء في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) يدافعون عن حق الإمام في قيادة الأمة المسلمة وفي حكم المجتمع الإسلامي، ويخوضون حرباً ضد من ليست لهم صلاحية حكومة المسلمين، ولذلك شواهد كثيرة في شعر القرن الثاني الهجري.
          وقبل أن نختتم هذا القسم من المناسب أن نشير الى لغة حِجاج أخرى، هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الاحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخرى صدىّ شعبياً بعد انتشار مضمونها، وتأثيراً قوياً على الأنصار والخصوم. نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبد الله بن الحسن ذي النفس الزكية الى المنصور العباسي. هذا العلوي الثائر يذكر بصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في أبناء علي (عليه السلام)، يقول:
          «وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!».
          ويبدو أن هذه الاستدلال أورده العلوي ردّاً على استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لأن بني العباس لم تكن لهم حجة سوى هذا الارث المزعوم، فأراد عليهم الطريق ويردّ عليهم بنفس منطقهم. ويلاحظ في العبارة أن ذا النفس الزكية يركز على إمامة علي (عليه السلام) انطلاقاً من فهمه لمعنى الإمامة، ثم يركز على طبيعة دعوة البيت العلوي التي يمثلها هذا الثائر.

      • بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت عن رسول الله (عليهم السلام):
      • إقامة تنظيم سري ايديولوجي ــ سياسي
700 /